المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مجئ المسند فعلا أو اسما - خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

[محمد محمد أبو موسى]

الفصل: ‌مجئ المسند فعلا أو اسما

سقاها فرواها بشرب سجاله

دماء رجال حيث مال حشاها

إذا سمع الحجاج رز كتيبة

أعد لها قبل النزول قراها

أعد لها مسمومة فارسية

بأيدي رجال يحلبون صراها

تراها تكرر أجزاء معينة: شفاها -سقاها- أعد لها.

وهي كما ترى ذات دلالة مهمة في السياق، فقولها: شفاها يفيد أنه يستأصل أعداء بني أمية حتى تسلم الأرض التي نزل بها من داء القلوب، وإحن الصدور، وقولها: سقاها يشير إلى ما يعمله في الأعداء وينص عليه، وأنه يسقي قناته من دمائهم، وقولها: أعد لها يشير إلبى عظيم احتياطه بأخذ أهبة النزال، ومواجهة الأخطار، وهي معان كما ترى كأنها رءوس في سياقها، وإذا أردت أن تتبين ذلك بصورة أوضح، فانظر إلى غيرها في الأبيات تجد مثلا قوله:"إذا هبط الحجاج أرضا مريضة"، ليس له في مدح الحجاج، والتنويه بحزمه ما لقولها شفاها -وهذا واضح- وانظر إلى قولها: فرواها بشرب سجاله تراه كالتابع لقولها: سقاها -وانظر إلى قولها: إذا سمع الحجاج تجده بمنزلة قولها: إذا هبط الحجاج، فكلاهما يمهد لمعنى جليل هو ما يأتي في الجواب وهكذا.

ص: 296

‌مجئ المسند فعلا أو اسما

مجيء المسند فعلا أو اسما:

لمعرفة هذه الأغراض يلزمنا أن نعرف الفرق الدقيق بين دلالة صيغة الفعل على معنى، ودلالة صيغة الاسم على نفس المعنى، أي بين أن تعبر عن الانطلاق بقولك: منطلق، وبين أن تعبر عنه بقولك: ينطلق وقد قالوا: إنك إذا قلت: منطلق فقد أفدت انطلاقًا ثابتًا، وإذا قلت: ينطلق فقد أفدت انطلاقا يتجدد، فصيغة الاسم تدل على الثبوت من غير إفادة التجدد، وصيغة الفعل تدل على الحدوث والتجدد، فقولك: زيد منطلق كقولك:

زيد طويل من حيث دلالته على أنه طويل من غير أن يشعر بتجدد الطول وحدوثه، وقولك: زيد ينطلق كقولك: زيد يطول من حيث دلالته على حدوث الانطلاق وتجدده، وهذا إنما يصح إذا كان زيد غلامًا لم يستقر طوله.

ويظهر هذا واضحا في قولك: هذا الشيء أبيض، وقولك: هذا الشيء يبيض، فقولك: أبيض يفيد أن صفة البياض ثابتة لا تحدث فيه، ولا تتجدد كاللبن مثلا، وقولك: يبيض يفيد أنه يتحول إلى البياض شيئا، فشيئا فبياضه يحدث ويتجدد.

وإذا تقرر هذا ظهر أنه لا يصح وضع أحدهما موضع الآخر، فلكل منهما سياق يقتضيه، وصورة من المعنى لا يدل عليها غيره.

انظر إلى قول النضر بن جؤبة: "من البسيط"

لا يألف الدرهم المضروب صرتنا

لكن يمر عليها وهو منطلق

الشاعر يذكر قومه بالسخاء، وأنهم لا يبقون من المال بقية، فصرتهم لا تألف الدرهم، وقوله: وهو منطلق جاء بصيغة الاسم؛ لأنه يريد أن يثبت للدرهم صفة الانطلاق من غير إشعار بتجدد، وحدوث حتى يؤكد أنا الدرهم لا يتوقف توفقا ما عند الصرة ينقطع به انطلاقه ليتجدد بعد ذلك، وإنما هو منطلق انطلاقا ثابتا مستمرا، ولو قال: يمر عليها وهو ينطلق، لكان المعنى أن انطلاقه يتجدد، وهذا يعني أنهم يمسكونه زمانا ما كما قلنا.

قال عبد القاهر معلقا على هذا البيت: "هذا هو الحسن اللائق بالمعنى، ولو قلته بالفعل: لكن يمر عليها وهو ينطلق، لم يحسن".

قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} 1، يفيد أن الكلب على هيئة وصفة ثابتة هي بسط الذراعين بالباب، كما تقول: هو طويل،

1 الكهف: 18.

ص: 296

في أنك تثبت له صفة هو عليها من غير إشعار بشيء آخر ولا إشارة إليه، ولو قال: كلبهم يبسط ذراعيه لكان المعنى أن الكلب يحدث البسط، ويزاوله ويتجدد منه شيئا فشيئا، وليس هذا هو المراد، وإنما المراد أن الكلب باسط ذراعيه بالباب، وهو على هذه الصورة الثابتة الجامدة، فتظل الصورة الثابتة الجامدة، فتظل الصورة العامة لفتية الكهف يلفها سياج من المهابة والخشية:{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} 1.

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} 2.

يقول الزمخشري: "فإن قلت: لم قيل: ويقبضن، ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض كما يكون من السابح".

وقول الأعشى: "من الطويل"

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

قال: في يفاع تحرق، أي تتحرق، واليفاع المشرف من الأرض، فالنار على مكان عال تتحرق، ولو قال: متحرقة، لأنكرته النفس كما قال عبد القاهر، وذلك؛ لأن قولنا في يفاع متحرقة يفيد أن النار متحرقة فقط، وليس هذا غرض الشاعر، وإنما غرضه أن النار تتحرق ويتجدد منها الإحراق، ويحدث شيئا فشيئا، وأن المحلق هناك يجدد ويعلي لهبها، واشتعالها لتكون ناره أهدى لسارب الليل، وأجلب لطالب المعروف، وفيه من الدلالة على تمكن طبيعة السخاء، والبذل ما ليس في غيره.

1 الكهف: 18.

2 الملك: 19.

ص: 298

وقول طريف بن تميم: "من الكامل"

أوكلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إلي عريفهم يتوسم

يذكر الشاعربسالته وشهرته، وأنه كلما وردت قبيلة سوق عكاظ أرسلوا القيم على أمرهم يتوسم الوجوه؛ ليتعرف على طريف طلبا للثأر منه؛ لأن له في كل قوم نكاية، ولو وضع الاسم موضع الفعل، وقال: بعثوا إلي عريفهم متوسا، لذهب من المعنى شكله ورواؤه، وفسد الكلام، وذلك؛ لأنه أراد أن العريف يقع منه التوسم والتعرف، والتأمل شيئا فشيئا، فهو دائب المراجعة والتصفح، وتجديد النظر في وجوه القوم، وهذا يعني أنه معنى جدا بالبحث عن طريف، ولو قال:متوسما لكان المعنى أن العريف على صفة التوسم، والتأمل دون إشعار بحالة التجديد.

وإذا عرفت هذه الخصوصية في دلالة الفعل ودلالة الاسم، تلك الخصوصية التي تشتد الحاجة إلى معرفتها في علم البلاغة كما يقول الجرجاني، فاعلم أن الفعل يفيد أيضا تفييد المسند بأحد الأزمنة الذي يدل الفعل عليها، فإذا كان ماضيا فإنه يقيد الحدث بالزمن الماضي، وإذا كان مضارعا قيده بحال، وهكذا، وذلك بخلاف الاسم، فإنه لا يدل على زمان.

ولا يشتبه علينا أنه ليس بلازم من كون المسند فعلا أن يكون جملة، فقد يكون فعلا وهو مفرد مثل: ينطلق زيد، فالمسند هو الفعل فقط، وهو مفرد وقد يكون ملة مثل زيد ينطلق، فالمسند هنا ينطلق مع فاعله -وهذا ظاهر.

والفرق بين كون المسند فعلا فقط مثل ينطلق زيد، وكونه جملة مثل زيد ينطلق أو زيد أبوه منطلق هو أن الجملة تفيد تقوي الحكم، وقد قالوا: إن كل ما خبره جملة يفيد التقوي.

وإذا عرفت أن الغرض من مجيء المسند جملة هو إفادة التقوي، فإني محدثك عن الفرق بين مجيء الجملة فعلية أو اسمية.

ص: 299

والفرق الذي ذكرناه هناك بين الاسم والفعل قائم هنا، فإذا كان الفعل يفيد التجدد، والحدوث فكذلك الجملة الفعلية، وإذا كان الاسم يفيد الثبوت والدوام، فكذلك الجملة الاسمية.

ويتضح ذلك في ضوء الشواهد:

انظر إلى قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} 1، جاءت الجملة الأولى فعلية -أدعوتموهم- والجملة الثانية اسمية -أنتم صامتون- لتفيد الأولى التجدد والحدوث، والثانية الدوام والاستمرار، فيكون المعنى سواء عليكم أن تحدثوا دعاءهم، أو أن تستمروا على صمتكم، والمراد بالدعاء طلب الهداية والنجاة، والموجه إليهم الدعاء هي الأصنام المعبودة من دون الله، وكان الوثنيون الذين يعبدون هذه الأصنام من عادتهم أنهم لا يدعون هذه الأصنام إذا نزلت بهم شدة، وإنما يدعون الله، فقيل: سواء عليكم أأحدثتم الدعاء على غير عادة، أم بقيتم مستمرين على عادة صمتكم، ولو قيل: سواء عليكم أدعوتموهم أم صمتم لأفاد أن صمتهم عن دعائهم لم يكن ثابتا، وإنما هو صمت حادث، وهذا بخلاف الواقع.

ومثله قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} 2، وعبروا بالجملة الفعلية في قولهم: أجئتنا، لتشير إلى التجدد وكأنهم يقولون: أحدث منك مجيء بالحق ولم تكن كذلك، وعبروا بالجملة الاسمية ثانيا في قولهم: أنت من اللاعبين، ليفيدوا الاستمرار والدوام يعني، أم أنت مستمر في لعبك الذي عهدناه فيك، ولو قالوا: أم لعبت، وجاء بالفعلية لأفاد أن اللعب حادث طارئ، وأنه كان قبل ذلك جادا غير هازل، وهذا غير مراد لهم.

1 الأعراف: 193.

2 الأنبياء: 55.

ص: 300

ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} 1، عبروا في خطاب المؤمنين بقولهم: آمنا أي حدث بعد أن لم يكن، وفي خطاب إخوانهم إنا معكم أي مستمرون على مألوف كفرنا، وقد ذكرنا هذه الآية في أضرب الخبر، وأشرنا فيها إلى كلام الزمخشري، الذي فسر عدم التوكيد في الجملة الأولى بعدم وجود العزم، والإصرار وغير ذلك من المعاني النفسية التي تكون وراء التوكيد، فليس وراء كلامهم للمؤمنين حقيقةنفسية صادقة تدفع، وتحرك وتبعث، وقد وجدت هذه الحقيقة النفسية عند مخاطبة إخوانهم، وقولهم: إنا آمنا.

واعلم أن قولنا: إن الفعل يفيد التجدد، والاسم يفيد الاستمرار أصل واضح، ولكن الدقة والصعوبة يكمنان في ملاحظة اقتضاء المقام لأحدهما، وقد اجتهدت -مستعينا في ذلك بكلام الأئمة- في بيان وجه الاقتضاء المقام لأحدهما، وقد اجتهدت -مستعينا في ذلك بكلام الأئمة- في بيان وجه الاقتضاء، فيما ذكرت، فلا يغريك القول بأن الفعل للتجدد، والاسم للثبوت فتطلقه هكذا فيما ترى من شواهد؛ لأنك إن فعلت فأنت لم تفعل شيئا يعتد به، وكان حالك كحال من يقول في كل تقديم: إنه قدم للاهتمام، وإنما المهم أن تتعرف على مجرى المعنى

وسياقه، وكيف كان تجدد الحدث أو ثبوته يخصب المعنى، ويبسط حواشيه؟ وكيف يكون مهدرا لأجزاء من المعنى ينطفئ بها الكلام؟ وهكذا.

1 البقرة: 14.

ص: 301