المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف المسند إليه: - خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

[محمد محمد أبو موسى]

الفصل: ‌تعريف المسند إليه:

الحديث فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} 1.

وقد سأله سبحانه، وهو بكل شيء عليم؛ لأنه أراد لفته إلى العصا حتى يتبينها، ويعرف أنها ليست إلا عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، فهي يابسة جامدة حالها كحال كل العصى، فإذا تلقى الأمر بإلقائها، وألقاها ورآها حية تسعى، كان ذلك أبين في بطلان قانونها، وإحالتها عن وصفها بخلق الحياة والحركة فيها، وهذه هي آية الألوهية ومعجزة النبوة، وينبغي أن نذكر بقولهم "البلاغة والإيجاز"، وبما في طبيعة هذه اللغة من ميل إلى التركيز في الصياغة، والتعبير لتؤكد مرة ثانية أنه إذا لم يكن هناك داع قوي يدعو إلى الذكر، فإنه يكون خطرا على الأسلوب، وبلاغته سواء في ذلك الشعر وغيره، فهو مسلك دقيق يوشك أن يكون غير سبيل البلاغة، ولهذا لم يسلم من عثراته إلا حصيف مهدي بفطرة قوية، وحس يقظ.

1 طه: 18.

ص: 192

‌تعريف المسند إليه:

حين عرض البلاغيون لبيان الأسرار البلاغية، في طرق التعريف سلك كثير من المباحث النحوية طريقة إلى هذا الباب، ونحاول في هذه الدراسة أن نتجنب هذه المباحث مهتمين بما يتصل بالناحية البلاغية، التي يمكن أن يلحظها دارس الأساليب، وكنا على أن ندع من بين ذلك ما ذكره البلاغيون في التعريف بالإضمار لولا ما كان منهم من لفتة طيبة ذات أثر في تعميق فهمنا لبلاغة الكلام أحببنا أن ننبه إليها.

قال البلاغيون: الأصل في الضمير الخطاب أن يكون لمعين، تقول: إن زرتني أكرمتك، تريد مخاطبا معينا، وقد يراد بالخطاب العموم، فيكون موجها

ص: 192

إلى كل من يتأتي منه الخطاب، وهذا يفيد الأسلوب مزية من حيث يشعر هذا العموم بأن الأمر جدير بأن يكون ذائعا، وأنه لا يختص بمخاطب دون مخاطب، تقول في حال التشهير بالعيب واللؤم: فلان لئيم، إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، لا تريد مخاطبا معينا بل تريد أن أكرمه أي كرم، أو أحسن إلهي أي محسن قابل ذلك بالإساءة، وهذا كما ترى أدخل في باب التشهير والعيب، ووصفه بلؤم النفس وفساد الطبع، قال الخطيب:"أي أن سوء معاملته غير مختصة بواحد دون واحد"، وقد تجد هذا الأسلوب واردا في سياق الثناء والتنويه، ومن أحسن ما جاء في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"، فإن المراد بالأمر هنا ليس مخاطبا معينا، وإنما كل من يتأتي منه التبشير، وكأن النبي الكريم يشير إلى أن كل من يصح منه التبشير يجب أن يكون مبشرًا لهؤلاء المشائين إلى المساجد بالنور التام، وفي ذلك نهاية التكريم، وغاية الرضا.

وقد ذكر البلاغيون من شواهد هذه الخصوصية، أعني عموم الخطاب، قول تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1، المراد بالخطاب هنا كل من تأتي منه الرؤية، وذلك للإشارة إلى أن هذه الصورة المتناهية في الفظاعة تناهت أيضا في الظهور، فلا تختص بها رؤية راء بل كل من تتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب، وفيه إشارة أيضا إلى الرغبة في تعميق هذه الصورة الفظيعة المنكرة في وجدان كل راء لتكون زجرا بليغا للناس جميعا.. وعليك أن تجتهد في أن تقيم في نفسك هذا الموقف كما تصفه الآية.. المجرمون في كل جيل من أجيال البشرية مجتمعون جميعا، وقد وقفوا ناكسي رءوسهم خضوعا، وذلا في حضرة ذي الجبروت الذي عاشوا يتبجحون بإنكاره.

والمهم في أنواع التعريف، التعريف بالصلة؛ لأنه تكثر إشاراته.

1 السجدة: 12.

ص: 193

والصلة كما يقرر النحاة يجب أن تكون معلومة للمخاطب؛ لأنها وسيلة تعريف فيلزم أن تكون معروفة كقولك: الذي كنا عندنا أمس رجل عالم، فإنه يلزم أن يكون المخاطب عالما بهذه الصلة، أو بقصتها كما قالوا، وتفيد الصلة معاني منها:

الإشارة إلى زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام كما في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} 1، والغرض المسوق له الكلام هو تقرير نزاهة سيدنا يوسف عليه السلام، وذكر امرأة العزيز بهذه الصلة المشيرة إلى كونه في بيتها مما يقرر هذا الغرض، فقد راودته امرأة هو في بيتها، وهي متمكنة منه في كل أوقاته من ليل ونهار، وتلح وتراود ولكنه عليه السلام استعصم، وهذه غاية النزاهة، عن الفحشاء، ولو قال: وراودته زليخا أو امرأة العزيز لم تجد شيئا من ذلك، ثم إن في ذكر الصلة هنا أيضا استهجان التصريح بالاسم المنسوب إليه هذا الفعل.

ومما هو بين في العدول إلى الصلة استهجانا لذكر ما دلت عليه الصلة قول حسان يخاطب أم المؤمنين رضي الله عنها، ويبرئ نفسه مما نسب إليه في حديث الإفك:

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا

فلا رفعت سوطي إلى أناملي

وقوله: "من الطويل"

فإن الذي قد قيل ليس بلائط

ولكنه قول امرئ بي ماحل

وقوله: ليس بلائط، ليس بلازم ولا لاحق، والماحل: الذي يسعى بالنميمة، أراد حسان ألا يذكر اتهام عائشة في الإفك استهجانا لهذا القول واستبعادا له، فقال: الذي قد زعمتموا، كما قال في البيت الثاني: الذي قد قيل: ثم إن الصلة في التعبيرين مكنته من أن يشير في كل واحدة إشارة لطيفة ففي الأولى، قال: زعمتموا، فأشار إلى أنه زعم، وأنه ليس من

1 يوسف: 23.

ص: 194

وادي الصدق واليقين، قال في الثانية -قيل- بالبناء لملجهول، فأشار إلى أنه قول ساقط غير منسوب إلى عاقل يستحق أن يذكر.

ومما يكون التعريف فيه بالصلة قصدا إلى معاني فيها ذات أهمية في سياق الكلام قوله تعالى: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} 1، فإن الذي يقدر على أن يتوفى الأنفس جديبر بأن يعبد.

ومنه قول كعب بن زهير ما جاء عائذا برسول الله صلى الله عليه وسلم "من الكامل"

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة

القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

قال: هداك الذي أعطاك.... ولم يقل هداك الله أو هداك ربك؛ لأن في الصلة حديثا عن عطاء الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، ففيه تكريم للنبي، وتنويه بمقامه عند الله وفي ذلك إقرار مؤكد بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإعلام بإسلام كعب ثم إن القرآن فيه مواعيظ وهداية، وكأنه يذكره بما يدعوه صلى الله عليه وسلم إلى العفو عنه من آيات الله الداعية إلى الصفح، وقبول الإسلام ممن جاء عائذا.

كل ذلك كان من الصلة كما ترى، ومما يتصل بهذا قول أبي نواس في الخمر:"من الكامل"

لا تخدعن عن التي جعلت

سقم الصحيح، وصحة السقم

لم يقل: لا تخدعن عن الخمر؛ لأن التعريف بالموصولية هنا مكنه من ذكر صفات يحرص على إبرازها في الخمر، وهي ما في أفاعيلها مما يشبه التناقض، فالصحيح حين يشربها تجري في مفاصله، فيصيبه فتور واسترخاء، فيصير كأنه سقيم، فإذا شربها السقيم صح بما تبعثه فيه من نشوة وصبوة، ولم يكن ليتاح للشاعر أن يذكر هذه الأفعال للخمر لو أنه سلك طريقا غير طريق الموصول.

1 يونس: 104.

ص: 195

ومثله قول قيس: "من الطويل"

خليلي لا والله لا أملك الذي

قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا

قضاها لغيري، وابتلاني بحبها

فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

الذي قضاه الله في ليلى، وفيه هو حرامه منها مع ولوعه بحبها، ولكن الشاعر لم يقل: لا أملك تعلقي بليلى مع يأسي منها، وإنما قال ما ترى، فبين من خلال الصلة أن الأمر قضاء الله، وما دام كذلك فلا عليه إلا أن يستجيب لهذا القضاء، فيظل هائما بحبها يائسا منها، وواضح أننا نذكر الصلة هنا مع اختلاف مواقعها؛ لأن الذي يعنينا هو أن نبين دلالة هذه الخصوصية سواء كانت في المسند إليه أو غيره؛ لأنها لم ترد في باب المسند، ولا في المتعلقات.

قال البلاغيون: "وقد يكون التعريف بالصلة لتنبيه المخاطب على خطئه كقول الشاعر:"من الكامل"

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

فقوله: الذين ترونهم إخوانكم، يشير إلى أنكم مخدوعون في هذا الحسبان حيث تظنون أنهم إخوانكم مع أن صدورهم تتوقد حقدا عليكم، ولو قال الشاعر: أن القوم الفلاني يشفي غليل صدورهم، لذهب هذا المعنى.

وقد يكون التعريف بالصلة مشيرا إلى وجه بناء الخبر، وذلك كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1، فقوله:{الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} يشير إلى أن الخبر من جنس النكال والعذاب، وهذا واضح، ومثله قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا

1 غافر: 60.

2 الأنبياء: 101.

ص: 196

رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} 1، وقوله:{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} 2، وقوله:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.

ومثله كثير جدا في كتاب الله حيث نجد المبتدأ يحمل من المعاني ما يهيئ النفس إلى الخبر حتى لتكاد تعرفه قبل النطق به، وهذا لعمرك فن من الكلام جزل دقيق لا يهتدي إليه إلا فطن محدث، ومنه في الشعر قول الفرزدق:"من الكامل"

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

والبيت من قصيدة يفتخر بها الفرزدق على جرير، وقوله: الذي سمك السماء يشير إلى الخبر من نوع الرفعة، والسمو وذلك واضح.

ويفهم من كلام السكاكي أن الصلة قد تكون مشيرة إلى وجه بناء الخبر كما قلنا، وقد تكون هذه الإشارة موحية بتحقيق الخبر حين تكون الصلة كالسبب له أو الدليل عليه.

وعبارته: "وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر"، ومثال ذلك قول عبدة بن الطبيب في مفضليته:"من البسيط"

هل حبل خولة بعد الهجر موصول

أم أنت عنها بعيد الدار مشغول؟

قال:

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول

وكوفة الجند: مدينة بالكوفة، وغالت: أكلت، قوله التي ضربت

فيه بيان لهجرتها عن دياره، وأنها ضربت بيتها هناك بعيدا عنه، وهذا يومئ عند السكاكي إلى زوال المحبة، ويبين سببها، أو يقيم على ذلك

1 فصلت: 30.

2 الأعراف: 92.

3 النور: 11.

ص: 197

الدليل، وتعجبني هنا لفتة الخطيب، ويبدو أنه كان أرق نفسا، وأسلس طبعا من السكاكي، قال الخطيب: والمسند إليه في البيت ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه، بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه، وقد أدرك الخطيب في هذا معنى دقيقا في الغزل هو أن الحرمان من الصاحبة أزكى لجذوة الحب إن كات صادقة، وهذا ما عليه أهل الرأي في الحس والشعور، وقد عبر عنه الشعراء من ذوي الطبع الصادق، قال ابن الدمينة:"من الطويل"

وقد زعموا أن المحب إذا دنا

يمل وأن النأي يشفي من الوجد

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد

ولا يزال الشعراء يعبرون عن هذا المعنى، قال الشاعر القروي الدقيق الحس في قصيدته الحانية:"من الكامل"

لمياء هات العود نبك صبانا

راح الخريف بوردنا وندانا

لا، لا، أنا وحدي الذي ثكل الصبا

حاشا لحسنك أن أقول كلانا

يقول فيها:

لكم التمست البرء من داء الهوى

بالبعد عنك فزدته أزمانا

أتكلف السلوان منك تكلفا

يدني العذاب ويبعد السلوانا

ويبدو أن عبدة لم يكن صادق الحب حتى يكون شاهدًا في هذا الباب، وقد قال هذا البيت بعد مضي الشباب، وفترة الصبوة، ولم يكن في نفسه الباعث القوي نحو التي ضربت بيتًا مهاجرة، وقد قال بعد البيت المذكور:

فعد عنها ولا تشغلك عن عمل

إن الصبابة بعد الشيب تضليل

وقد تفيد الصلة معنى التفخيم والتهويل لما فيها من إبهام وغموض، وذلك كقوله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} 1، فالصلة تفيد

1 طه: 78.

ص: 198

أن الذي غشيهم أمر مبهم أمره في الهول والشدة، ومنه قوله:{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} 1، أي: تغشاها أمور عظيمة مبهم أمرها في الجلال والكثرة، قال الزمخشري: وقد علم بهذه العبارة أن يغاشها من الخلائق الدالة على عظمة الله، وجلاله أشياء لا يكتنهها النعت، ولا يحيط بها الوصف.

ومنه قول أبي نواس: "من الكامل"

ولقد نهزت مع الغواة، بدلوهم

وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

وفعلت ما فعل امرؤ بشبابه

فإذا عصارة كل ذاك أثام

فقوله: ما فعل امرؤ بشبابه، إشارة إلى أن ما بلغه في اللهو والعبث، والمجون وشيء بالغ في الكثرة، والتنوع مبهم أمره في ذلك.

ومثله قول كثير: "من الطويل"

تجافيت عني حين لا لي حيلة

وخلفت ما خلفت بين الجوانح

فقوله: ما خلفت يشير إلى أنها خلفت ما لا تحيط به عبارة.

وقد أحس البلاغيون بجلال هذه الأساليب الملفعة بالظلال والضباب، والتي لا ينكشف لنا المراد منها انكشافا ضاحيا، ولا يحجب عنها حجبا قاتما، وإنما تتراءى لنا فيها المعاني هاربة في غيم شفيف، أحس البلاغيون بجلال هذه الأساليب التي لها في النفوس سحر وخلابة، ففسروها تفسيرًا نفسيا بديعا.

قال العلوي: "إن النفس إذا وقعت على كلام غير تام بالمقصود منه تشوقت إلى كماله، فلو وقعت على تمام المقصود منه لم يبق لها هناك تشوق أصلا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم تقف على شيء منه، فلا شوق لها هناك، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون بعض، فإن القدر المعلوم يحدث شوقا إلى ما ليس بمعلوم".

1 النجم: 16.

ص: 199