الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استراب الخبر تمثل بعجز بيت طرفة "
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
» (1) وثبت أنه تمثل صلى الله عليه وسلم بالشعر في مناسبات أخرى، كحفر الخندق (2) ويوم حنين (3) أما خطباء الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم مشاهير الخطباء فإن تمثلهم واستشهادهم بالشعر في خطبهم كثير يصعب حصره، قال ابن حجر عند الكلام على إنشاد النبي صلى الله عليه وسلم الشعر يوم الخندق: وفي الحديث جواز قول الشعر وأنواعه. خصوصا الرجز في الحرب. . . لما فيه من تحريك الهمم، وتشجيع النفوس، وتحريكها على معالجه الأمور الصعبة (4) .
[المطلب الثالث الاستشهاد بالقصة في الخطبة]
المطلب الثالث
الاستشهاد بالقصة في الخطبة القصة القرآنية: تعددت القصص في القرآنية الكريم، وتعددت أغراضها وفوائدها، إذ فيها تثبيت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وعبرة لأولي الألباب، أو نجد القرآن يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يتخذ القصة مسلكا من مسالك نشر دعوته، ووسيلة يستخدمها في توجيه الناس، فيأمره بمخاطبة الناس عبر قص قصص الأولين
(1) أخرجه أحمد (6 / 156)(6 / 31) والترمذي (2848) وقال: حسن صحيح من حديث المقدام بن شريح بن هانئ عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قال: قيل لها هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت: كان يتمثل بشعر طرفة، ويتمثل ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود، وروى عن البخاري (مناقب الأنصار- 3906) في خبر بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر
…
هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة
…
فارحم الأنصار والمهاجرة.
(2)
رواه البخاري (المغازي- 4098) .
(3)
رواه البخاري (المغازي- 4315) .
(4)
فتح الباري (7 / 247) .
عليهم، حتى يكون لهم في آثار السابقين عبرة وهدى وموعظة حسنة، فقال تعالى:{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176](1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (2) .
فأذن صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بني إسرائيل، ومن ذلك إيراد قصصهم وأخبارهم لما فيها من العبرة والعظة، على أن يخلو ذلك من الخرافات والأساطير، والإسرائيليات الموغلة في الأوهام المخالفة لشريعة الإسلام الواضحة الكذب، ولا يكون ذلك أيضا مجالا لتصديقهم أو تكذيبهم، أو الإعجاب بهم، إنما القصد استخلاص العبرة.
قال ابن كثير رحمه الله: " وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل "(3) .
ومما يؤسف له حقا أن المنابر تكاد تخلو من التذكير بما قصه القرآن الكريم من القصص، مع عظم العبرة، وقوة الموعظة فيها، فإن الخطيب البارع يستطيع أن ينزلها على واقع المخاطبين مع الإيجاز والتوجيه لتغدو أحداثها كأنما هي واقعة بينهم، ماثلة أمام أعينهم، ومهما كانت القصة طويلة، فإنه يستطيع أن يخلص إلى زبدتها وخلاصتها بأسلوب بليغ وجيز، وبأداء فصيح لا يتجاوز في زمنه دقائق معدودة، بل ربما رأى أن الأفضل توزيعها على أكثر من خطبة، مع ربط بواقع الناس والتحذير من نقمة الله تعالى وأليم عقابه، وشدة بطشه، وبيان سنته في المكذبين والمعرضين الغافلين، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} [فاطر: 43]
(1) خصائص الخطبة والخطيب (ص 82) .
(2)
رواه البخاري (الأنبياء- 3461) .
(3)
تفسير ابن كثير (4 / 222) .
إن الخطيب البليغ، والداعية الموفق لا ينبغي له أن يغفل عن هذه الذخيرة الجليلة من بيان ما يذكر به، فإن التذكير بالقصة تذكير بالقرآن، وقوة بيانه، وبلاغة عرضه للأحداث، وعواقب الأعمال دون أدنى شائبة من ضعف الحوار أو طروء الخيال، أو عدم مطابقة الواقع.
قال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7]
وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]
إن من خصائص القصة القرآنية أنها صالحة للاعتبار والاستشهاد في كل زمان، ولا عجب فهي جزء من هذا القرآن الذي هو موعظة دائمة، ورسالة خالدة لا تنفد خزائنه، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد.
نموذج: فخذ مثلا من القصة القرآنية قصة "أصحاب الجنة" الذين غرهم المال، وغيرهم الجشع والطمع، فمنعوا حق المساكين الذين كان والدهم يوصله إليهم، فلقد كان للمساكين نصيب من العطاء عندما كان صاحب تلك الجنة حيا، ثم لما مات تآمر أبناؤه فيما بينهم واستكثروا ما ينقطع لهؤلاء المساكين من مالهم، فاتفقوا على أن يقطعوا الثمر في وقت مبكر من النهار حيث يأمنون تعرض المساكين لهم في هذا الوقت الباكر.
وأقسموا اليمين على ذلك دون استثناء، فباتوا على كيد وغدوا على حرد، وإذا بطائف من الله تعالى يطوف عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلا يبقي منها باقية، فكأنه سبقهم إليها من صرمها وأتى على ثمارها كلها.
فانظر كيف قوبل مكرهم وشدة تعميتهم وتبييتهم لسوء النية بهذا الانتقام الإلهي السريع {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] ثم تخلص القصة إلى العبرة العظيمة: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33]
ألا ترى أن القصة في أحداثها وعبرتها تصلح أن تكون تذكارا صارخا في كل جيل لأولئك الذين بطروا نعمة الله، وبدلوها جحودا وكنودا، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ووسع عليهم من فضله، وبسط لهم الرزق، فأمسكت أيديهم، وشحت قلوبهم، ومنعوا حق الله عباد الله، وأخفوا الشر ومنعوا الخير.
إنه نموذج من الكنود البشري المتكرر، تصلح له هذه التذكرة القرآنية في كل عصر، وهكذا كل القصص القرآني، فإنه يصلح أن يكون عظة بليغة وتذكرة حالة إذا أحسن ربطه بالواقع، بأسلوب موجز، وعرض محكم.
واقع الآخرين: ومما يحسن الاستشهاد به في الخطبة، وتنويه الخطيب به بين الحين والحين ما يزخر به واقع غير المسلمين من تناقضات، وما يعصف به من فساد وموبقات، وآثار مدمرة في المجالات الصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، تتمثل في الأمراض الجنسية الفتاكة، وجرائم القتل، والاغتصاب، والسرقة، وترويج المخدرات، وتفكك الأسرة، والروابط الاجتماعية، وغير ذلك مما يصلح أن تكون كل جزئية منه مدارا لمضمون خطبة، ومحورا للتوجيه والتذكير، واستخلاص العبر، ولكن ليحذر الخطيب في هذا المجال من التهويل والمبالغة، والإفراط في وصف تلك المجتمعات، والاعتماد في استقاء المعلومات، والإحصائيات على مصادر غير موثوق بها، أو جهات غير معتمدة.
وليكن قصده بيان عظمة الإسلام ونعمته، وسلامة المجتمع الإسلامي من أمراض الانحراف والشذوذ، والإيدز، وغير ذلك مما تعاني منه المجتمعات الكافرة والخارجة على دين الله تعالى المتمردة على شرائعه، وليست مهمة الخطبة إيصال المعلومات الجديدة للناس، بقدر ما هي تفعيل للسامعين، وتحريك لنفوسهم ثم الانتقال بهم من حال التأثر إلى التغير والإصلاح.
الاستشهاد بالقصة: لا يخفى أن اشتمال الخطبة على ضرب المثل، وحكاية القصة من الواقع الاجتماعي للمخاطبين، له أثر كبير في شد انتباههم، وتحريك عاطفتهم، ولكن لا يتأتى للخطيب هذا الصيد المؤثر إلا بصلته بالمجتمع والناس بفئاتهم المختلفة، ولا يكفي أن يجلس في بيته، وينزوي في مسجده ينتظر أن يأتوه بأسئلتهم وقضاياهم الاجتماعية المتعددة، وبقدر صلة الخطيب الاجتماعية، وعلاقاته المتنوعة يحصل لديه العديد من الحوادث الواقعية، والقصص التي تصلح أن يضمنها بعض خطبه لما فيها من الفوائد، والعبر، وعوامل التأثير على الناس، فإن هذه القصص والحوادث تتميز بما يلي:
1 -
أنها من واقع الناس، فليست خيالية، ولا هي من نسج الأوهام والخرافات، وبالتالي فإن ما فيه عبرة وعظة من هذه القصص الوقائع، يصلح للاقتداء والتطبيق، فلا تصف في جملة المثاليات التي يصعب تحقيقها، فإن بعض الناس إذا دعي إلى بعض القيم، والأخلاق الإسلامية، تذرع بأنها مثاليات لا تتحقق في الواقع، أو أنه لا يمكن فعلها في عصرنا، فذكر الخطيب لشيء من هذه القصص والأحداث والوقائع يزيل التصور الخاطئ في المجال العملي التطبيقي.
2 -
أن ذكر مثل هذه القصص الوقائع، وتلمس الحلول للمشكلات يوجد حركة اجتماعيه، ومحاورات، وربما ألفت لجان لمتابعة هذه المشكلات ومعالجتها، إذ يتكون لدى الكثير من المصلحين الحماس لمناقشة هذه القضايا بعد أن كانوا يتهيبون ذلك.
3 -
إيجاد قدر كبير من الغيرة، والتفاعل، والمشاعر الجماعية، والشجاعة الأدبية، عند كثير من الناس، مما يوقظ المشاعر، والتفكير الجماعي.
فإن من الظواهر المرضية السقيمة التي تفشت في كثير من المجتمعات أن
يعيش الإنسان لنفسه وحسب، لا يبالي بمشكلات الآخرين، بل لا يبالي لمشكلات جيرانه، وإخوانه، والأقربين منه، وربما اعتقد أن الأمر لا يعنيه، وتركه من حسن إسلامه، وبذلك ضاقت مساحة الإصلاح في المجتمع وتقلصت وظيفة الأمر بالمعروف والتناصح والتعاون على البر والتقوى، واتسعت مساحة الصمت، وعدم إنكار المنكر، والتهيب من المناصحة والتذكير.
غير أن الخطيب عندما يتعرض لذكر مثل هذه القصص، والأحداث، والوقائع ينبغي أن يتنبه إلى أمور مهمة حتى لا يكون لذلك آثار سيئه، وانعكاسات ضارة تفسد بدل أن تصلح، ومن هذه الأمور:
أ- التثبت الشديد، والتوثق الأكيد من وقوع القصة أو الحادثة، ولا يكفي أن يسمعها من بعض المصادر أو من بعض الأشخاص الذين لا يعرف مدى ضبطهم وإتقانهم، وحرصهم على التثبت من الأخبار، فإن مخالفة بعض هذه الأخبار والحوادث للواقع، أو مجانبة بعض تفصيلاتها للحقيقة من شأنه أن يزلزل ثقة الناس بأخباره ونقوله، مما ينعكس على خطبه، ودروسه، ومواعظه.
إن التثبت من النقل والأخبار منهج إسلامي أصيل يجب أن يراعيه المسلم في علاقاته المختلفة، وعلى الأخص الخطباء، والدعاة، والوعاظ، لأن دائرة النشر لديهم أوسع من غيرهم، والجمهور المتلقي منهم أكبر من غيرهم.
إن الخطيب، أو الداعية ليس " قرص أسطوانة " أو " شريطا " يسجل عليه الناس شائعاتهم، ومقولاتهم، وقصصهم كيف كانت، لتعميمها من خلاله على الناس فلا يصح أن يقبل الخبر على علاته، ولا يقبله من كل من دب ودرج، فيجمع في كلامه بين الأروى والنعام، بل يجب عليه أن يتحرى فلا يقبل الخبر إلا من الثقة، الضابط المأمون، والدليل لهذا الأصل وهذا المنهج الإسلامي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] قال ابن جرير رحمه القه: قول الله
تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أمهلوا حتى تعرفوا صحته لا تعجلوا بقوله، وكذلك معنى فتثبتوا (1) .
وقال أبو حيان رحمه الله: أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم (2) .
قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون الحاكم قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عز وجل من اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال (3) .
وواضح من كلام العلماء أن الراوي لا يحذر من خبره لفسقه فقط، بل إن الأمر يقتضي ذلك أيضا في حال كثرة الخطأ، وكثرة الوهم، وعدم الضبط، لذلك قد يوصف الثقة عند المحدثين بالوهم، وإنما خص الفاسق بالذكر لأن خبره قد يكون أشد عماء وأعظم خطرا من غيره، والحذر لا يعني تمدد أثر الشك ليصبح هو الأصل في كل خبر، ويصبح التشكيك في كل مخبر هو الأصل. " ومدلول الآية عام، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق، فأما الصالح فيؤخذ بخبره، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره، أما الشك المطلق في جميع المصادر، وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة (4) .
ب- تنقية هذه القصص الوقائع وتمحيصها، ليصل إلى ما يصلح منها لأن
(1) جامع البيان في تأويل القرآن (1 / 1383) .
(2)
البحر المحيط (8 / 109) .
(3)
تفسير القرآن العظيم (4 / 209) .
(4)
في ظلال القرآن (6 / 1 334) .
يذكره في الخطبة لاشتماله على العبرة والعظة، ولكونه مناسبا للوسط الذي يعيش فيه المخاطبون، ولا تنبو عنه أسماعهم، أو تمجه عقولهم.
ج- الحذر من التصريح بذكر أشخاص القصة، أو بعضهم، أو مكانها، أو بلدها إذا كان ذلك يؤذي بعض المخاطبين بل يحكيها على وجه التعميم، لأن المقصود هو التوجيه لا التجريح، والموعظة لا التسلية، وربما لا يصلح حتى التعريض في بعض الأحيان، كأن تقع القصة في قرية، أو بلدة من البلدات الصغيرة، فإن التعريض حينئذ يكون كالتصريح، لأن القصة معلومة لدى الجميع، أما في مجال الخير فلا بأس من ذكر الأشخاص أحيانا مع مراعاة أدب المدح في الإسلام.