الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المستمر للمدبرات العلوية.
وذلك إضافة، وعدم الحجاب سلبي.
قال: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر.
مع عدم الحجاب.
فإضافته إلى كل ظاهر له إبصار إدراك له، وتعدد الإضافات العقلية لا يوجب تكثراً في ذاته.
قال: وأما العناية فلا حاصل لها.
الرد عليه
فيقال: قد بين هو بطلان قولهم، وما أختاره هو أيضاً باطل، فإن قوله: علمه بذاته كونه نوراً لذاته وظاهراً لذاته، علمه بالأشياء كونها ظاهرة له، وذلك إضافة، وعدم الحجاب أمر سلبي.
يقال له: هذا الذي أبنته من الظهور والإضافة ورفع الحجاب هو عدم محض، أو يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن كان عدماً محضاً لم يكن هناك علم أصلاً، فإنا نعلم بصريح العقل أن علم العالم بالمعلومات ليس عدماً محضاً، بل نعلم أن قولنا: لا يعلم هو العدم، فنعلم أن نفي العلم عدم، وإثباته وجود.
ومما يبين ذلك أن ثبوت العلم ونفيه يتناقضان، فإن كان ثبوته عدماً، فنفيه ثبوت، فيلزم إذا قيل: لا يعلم أن نكون أثبتنا شيئاً.
ومعلوم أن هذا قلب للحقائق.
وأما قوله: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر، مع عدم الحجاب.
فيقال: إن ادعيت أن الإبصار الذي هو ظهور المبصر للبصر إضافة هي عدم محض، كان القول في هذه المقدمة كالقول في الدعوى.
فإن الإنسان يحس من نفسه عند الرؤية أمراً وجودياً مخالفاً لحالة عدم الرؤية، كما يجد من نفسه ذلك في العلم.
فدعوى كون الرؤية أمراً عدمياً، مثل دعوى كون العلم أمراً عدمياً، ومضمون الأمرين أن الحس والعقل أمر عدمي، وأن مشاهدة المحسوسات والعلم بالمعقولات أمر عدمي.
ومعلوم أن من لم يشهد شيئاً ولم يعلمه، فقد عدم الرؤية والعلم، فإن كان بعد الرؤية والعلم لم يحصل له إلا عدم، فلا فرق بين أن يرى ويعلم، وبين أن لا يرى ولا يعلم.
وهذا تسوية بين الأعمى والبصير، العالم والجاهل.
وأصدق الكلام كلام الله الذي قال: {وما يستوي الأعمى والبصير} [فاطر: 19] وقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] .
ومعلوم بصرائح المعقول أن البصير أكمل من الأعمى، والعالم أكمل من الجاهل.
ومعلم هؤلاء أرسطو زعم أنه سبحانه أن لا يعلم ولا يبصر أفضل في حقه من أن يعلم ويبصر.
وهؤلاء الذي خالفوا معلمهم واستقبحوا له هذا القول، وأثبتوا له أمراً حال الرؤية والعلم يمتاز به عن حاله إذا لم ير ولم يعلم، فذاك فضل الجاهل الأعمى على العالم المبصر، وهؤلاء يلزمهم التسوية بينهما.
وأيضاً فيقال له: قولك: علمه بذاته كونه نوراً لذاته، وظاهراً لذاته، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إن أردت بقولك: كونه نوراً لذاته، وظاهراً لذاته أي كونه مرئياً لذاته، ومعلوماً لذاته -كان حقيقة الكلام: علمه بذاته كونه معلوماً لذاته.
وهذا أمر معلوم، ليس فيه قدر زائد على ما دل عليه قولنا: هو عالم بذاته.
وإن أردت بذلك: أن علمه بذاته كونه في نفسه بحيث يظهر لذاته نوراً يتجلى لذاته -كان المعنى.
أن علمه بذاته معناه: أن
ذاته متصفة بما يجب لأجله أن يظهر لذاته، فهي متصفة بما يوجب أن تكون معلومة له ظاهرة.
وكذلك إن أردت أنها متصفة بما يوجب أن تكون عالمة ظاهراً لها غيرها.
وكذلك إن فسر بما يوجب كونها عالمة معلومة، فسواء فسر ذلك بنفس كونه عالماً أو معلوماً أو مجموعهما، أو رائياً أو مجموعهما، إنما يوجب أحد هذه الأمور الستة.
فهذا كله لا يمنع كون العلم صفة ثبوتية، ولا يقتضي أن العلم مجرد نسبة عدمية، بل إذا فسره بمجرد أمر عدمي، كان هذا بمنزلة القول الذي رده، وهو قولهم: إنه ليس بزائد عليه، بل هو عدم غيبته عن ذاته المجردة عن المادة، فإذا كان يجعل الظهور الذي أثتبه أمراً عدمياً، فهو بمعنى عدم الغيبة الذي أثبتوه.
وأكثر ما يقال إنهم جعلوا العلم نفس عدم الغيبة، وأنا أجعله نسبة تستلزم عدم الغيبة، فهم فسروه بعدم الغيبة، وأنا أفسره بالنسبة.
فيقال له: هذه النسبة: إن لم تكن موجودة فهي من جنس عدم الغيبة.
ويقال للجميع: عدم الغيبة يكون معه علم بنفسه، أو مجرد عدم الغيبة عن نفسه هو العلم؟.
فإذا قالوا بالأول، أصابوا، وهو قول الرسل.
وإن قالوا: بل نفس عدم الغيبة هو نفص العلم، كان هذا معلوم البطلان، فإنه ما
من موجود من الموجودات إلا وليس هو غائباً عن نفسه، مع كونه كثير منها ليس عالماً بنفسه، فعلم أن حقيقة العلم أمر مغاير لحقيقة عدم الغيبة.
وإن قالوا: إنما قلنا: هو عدم غيبته عن ذاته المجردة قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن حقيقةالعلم: إن كان هو عدم الغيبة لم يختلف ذلك بمعلوم ومعلوم.
فإن العلم يتعلق بكل معلوم، وكل شيء يمكن أن يكون معلوماً، وهو غير غائب عن ذاته، فيجب أن يكون كل شيء معلوماً لنفسه، ويكون علمه بنفسه أولى من علم غيره به، لكون عدم غيبته عن نفسه أولى من عدم غيبته عن غيره.
الثاني: أن الشيء كما لا يغيب عن نفسه قد لا يغيب عن غيره، فإن كان العلم عدم الغيبة، فكل ما كان حاضراً لشيء يجب أن يكون عالماً به.
الثالث: أن يقال: عدم غيبته عن ذاته المجردة، ما تعنون بقولكم: المجردة؟ إن أردتم ذاته المعقولة أو المعلومة، أو التي يمكن أن تعقل أو تعلم، ونحو ذلك من العبارات الدالة على كونه عالماً أو معلوماً، أو يمكن كونه عالماً أو معلوماً
…
كان معنى الكلام: أنه عدم الغيبة عن ذاته التي هي عالمة أو معلومة أو يمكن أن تكون كذلك.
ومعلوم أن هذا أيضاً عدم، فكل ما كانت ذاته عالمة ومعلومة،
إذا لم تغب ذاته عن ذاته، كان عالماً بها.
وأما إن أمكن أحدهما دون الآخر لم يجب ذلك، وإن أمكنا معاً، فعدم الغيبة يستلزم العلم، وعدم الغيبة مستلزم للعلم، لا أنه نفس العلم.
وإن قال: أعني بالمجردة أنها ليست جسماً ولا مدبرة لجسم.
فيقال: أولاً: هذا بناء على ثبوت مجردات بهذا الوصف.
وجمهور العقلاء ينكرون هذا -حتى من يعظم هؤلاء الفلاسفة المشائين: أرسطو وأتباعه، لما تأملوا كلامهم في العقول والنفوس وجدوه باطلاً -إما أن يقولوا: ليس قائماً بنفسه إلاالجسم، كما يقوله ابن حزم وغيره.
وإما أن يقولوا: الفرق بين النفس والعقل، ليس إلا فرقاً عارضاً، كنفس الإنسان، التي هي حال مقارنتها للبدن: نفس، وحال مفارقتها: عقل، كما يقوله أبو البركات وغيره.
وإما أن يقولوا: هذه العقول، التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة، لا تزيد على العقل، الذي هو عرض قائم بعاقل.
وإثبات عقل، هو قائم بنفسه ليس جسماً، هو باطل.
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود أن لفظ التجريد فيه إجمال.
وإذا فسروه فقد يفسرونه بما يعلم بطلانه، أو بما لا دليل على صحته.
الوجه الرابع: أن يقال: هب أنه ثبت التجريد بالمعنى الذي
يدعونه، لكن شعور الشيء بنفسه ليس مشروطاً بكونه مجرداً، ولا مجرد كونه مجرداً موجب للعلم بنفسه، فإنه إن قدر أن المجرد ليس بحي، لم يكن شاعراً، فضلاً عن أن يعلم أنه عالم.
وإذا قيل: كل مجرد حي.
قيل: فلا بد أن يقال هذا بالدليل، فإن هذا ليس معلوماً بنفسه.
وأيضاً فكل حي شاعر، سواء قيل: إنه مجرد، أو قيل: إنه ليس بمجرد.
فبدن الإنسان يشعر بأمور كثيرة، مع كونه جسماً غير مجرد عن المادة على اصطلاحهم.
وأما ما اعترض به على قولهم: إن وجوده بالأشياء عن علمه بها، وأن هذا يوجب كون الأشياء معلومة له قبل وجودها، فتكون ثابتة في علمه، وهي أشياء في علمه، فيلزم كون علمه أمراً ثبوتياً، ويلزم التعدد في علمه -فاعتراض متوجه.
وكذلك إذا فسروا العلم بعدم الغيبة عنها، فعدم الغيبة لا يكون إلا بعد تحققها، فيلزم أن يكون عالماً بها بعد تحققها، وأن ذلك مغاير لعلمه بها قبل وجودها، فإن ذلك العلم سبب وجودها بخلاف الثاني.
وكذلك قوله: كما أن معلوله غير ذاته، فالعلم به غير العلم بذاته.
وهذا لازم، لأنهم إنما نفوا كون العلم ثبوتياً لما يستلزم من تكثر العلوم وتغيرها، إذ كان العلم بهذا غير العلم بهذا.
وإذا قالوا: إنه يعلم معلوله، ويعلم نفسه، لزم أن يكون هذا العلم ليس هذا العلم.
وأما قولهم: إن علمه بالمعلول يندرج في علمه بالعلة، فقد رده بأمور:
أحدها: أن العلم عندهم سلبي، وكذلك التجرد عن المادة، وكذلك عدم الغيبة.
والسلب لا يتضمن العلم بالأشياء، وهذا الذي قاله صحيح، مع ما تقدم من أن ذلك السبب ليس هو علماً، فلا هو علم، ولا متضمن لعلم.
وإذا قدر أن ذلك السلب علم، كان تقديراً باطلاً.
وحينئذ فهل يقال: إنه يتضمن غيره من السلوب.
هذا مما قد ينازعونه فيه.
ولكن له أن يقول: إن السلب إنما يتضمن غيره غذا كان أعم منه.
وليس هنا سلب عام ليتضمن سلباً خاصاً، بل السلب عندهم نفي معنى زائد على نفسه، أو نفي المادة عنه، أو نفي الغيبة عنه، وكل هذا سلب خاص لا يتضمن سلباً عاماً.
الأمر الثاني: أنه قد بين لهم أن المندرج في غيره هو ما يدل عليه بالتضمن لا بالالتزام، فالدال على غيره بالالتزام لا بالتضمن لا يكون مشتملاً عليه، ولا يكون الثاني مندرجاً فيه.
ومثل ذلك اللوازم الخارجة عن الماهية على أصلهم، كالضاحكية.
فإن الإنسانية ما انطوت على الضاحكية ولا انطوى علم الضاحكية في علم الإنسانية، فإنها ما دلت عليها مطابقةً ولا تضمناً، بل دلالة
خارجية، فإن هذه اللوازم التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى، إنما هي معلومة لنا بالقوة لا بالفعل.
فإذا جعلوا علمه بمفعولاته كذلك، لزم أن يكون عالماً بها بالقوة لا بالفعل.
وهم قد يضربون لقولهم مثالاً، وهو العلم بالأشياء جملة، مع العلم بها تفصيلاً، فإن العلم بالمفصل يندرج في العلم بالمجمل.
وإن كان العلم بالمجمل متضمن تلك التفاصيل، وشبهوا ذلك بمن سئل عن مسائل، فقد يستحضر العلم بجوابها مفصلاً، وقد يجد من نفسه علماً بجوابها مجملاً، لم يستحضر العلم بجوابها مفصلاً، وقد يجل من نفسه علماً بجوابها مجملاً، لم يستحضر تفصيله فيما بعد، فأجاب بأن هذا علم بالقوة، والقوة مراتب، فهو بعد السؤال حصل له من القوة على الجواب، أعظم مما كان حاصلاً قبله.
وأما العلم بجواب كل مسألة بخصوصها، فلا يحصل إن لم يكن عنده صورة العلم بجواب كل واحدة.
ثم ادعى الأصل الذي شاركهم فيه وهو قوله: وواجب الوجود منزه عن ذلك بناءً على أنه عندهم لا تقوم به المعاني والصفات المتعددة ومن هذا الأصل منشأ ضلالهم.
قال: وإذا كان أحد الشيئين غير الآخر، فكيف يكون سلب أحدهما علماً بهما، وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ وذلك أنهم يقولون: هو وجود مجرد عن المادة، والمجردات غير الماديات، فكيف يكون سلب المادة علماً بالمجرد
والمادة، وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ كيف وهم يقولون: إنه وجود مشروط بسلب كلام ثبوتي، فهو وجود بسلب كل ما يعرف من الحقائق، وتلك الحقائق مغايرة له، فكيف يكون سلبها عنه علماً به وبها؟ وعناية بكيفية ما يجب أن تكون الحقائق معه عليه؟.
فحقيقة قولهم: إنهم جعلوا العلم به، والعلم بكل واحد واحد من المخلوقات، وعنايته بالمخلوقات المتضمنة لإرادته وحكمته، التي باعتبارها انتظمت المخلوقات -جعلوا هذا كله أمراً سلبياً، وهو التجرد، أو عدم الغيبة، أو العقل الذي ليس بمعنىً زائد على ذاته، وهو عندهم وجود مقيد بسلب جميع الحقائق عنه، وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه في الخارج.
فإن الموجودين لا يكون المميز بينهما عدماً محضاً، ولو قدر ثبوت هذا لكان كل موجود خيراً منه، لأنه امتاز بوصف ثبوتي.
ومن قال من متأخريهم: له وجود خاص غير هذا الوجود، فلم يعرف حقيقة قولهم.
فإن الوجود الخاص إن امتاز بأمر وجودي، فليس هو قولهم.
وإن لم يميز إلا بالسلب، فيكون هذا هو الموجود، قد شارك الموجودات في مسمى الوجود، وامتاز عنه بالسلب، فتكون سائر الموجودات خيراً منه، لو كان له وجود.
وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوساً كثيرة، قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك.