الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه حال ابن سينا وأمثاله في تقرير علم الله تعالى، فإن كلامه في العلم فيه تقصير عظيم من وجهين: من جهة تقصيره في بيان ما ذكره من الحق، ومن جهة ما ذكره من الباطل، فإنه ذكر حقاً، وذكر ما يستدل به عليه، لكنه لم يعرف البيان حقه، من جهة أنه لم يعط الدليل حقه في التزام ما يلزمه، ومن جهة أن بعض المقدمات قد تقصر في بيانها، وإلا فالمادة التي سلكها في الدلالة مادة جيدة مستقيمة، إذا أعطيت حقها كانت مما تبين أن الله بكل شيء عليم من الجزئيات والكليات.
ولهذا كان الذين قدحوا في دلالة ابن سينا، كالغزالي والشهرستاني والرازي، إنما يقدحون بكونه لم يقرر مقدماته، أو بكونه لم يقل بموجبها، ولم يلتزم لوازمها، بل تناقض، فيوردون عليه سؤال الممانعة والمعارضة: المنع لكونه لم يقرره، والمعارضة لكونه ناقض موجبها.
وهذان السؤالان إذا توجها، فإنما يدلان على قصور ابن سينا، لا على قصور مادة الدليل الذي استدل به، بل هو من أحسن المواد، وهو مما يعلم به أن الله بكل شيء عليم: بالكليات والجزئيات.
ونحن نذكر من كلامهم ما يبين ما ذكرناه.
كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عليه
قال الغزالي: مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره، ويعلم الأجناس والأنواع بنوع كلي.
فنقول: أما المسلمون -يعني المتكلمين الذي هم يذبون عنده عن المسلمين- لما انحصر عندهم الموجود في حادث وقديم، ولم يكن عندهم قديم إلا الله وصفاته، وكان ما عداه حادثاً من جهته بإرادته، حصلت عندهم مقدمة ضرورية في علمه، فإن المراد بالضرورة لا بد أن يكون معلوماً للمريد، فبنوا عليه أن الكل معلوم له، لأن الكل مراد له وحادث بإرادته، ولا كائن إلا وهو حادث بإرادته، ولم يبق إلا ذاته.
ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده، فهو حي بالضرورة، وكل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، فصار الكل عندهم معلوماً لله، وعرفوه بهذا الطريق، بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم.
فأما أنتم إذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته، فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته، فلا بد من الدليل عليه.
قال: وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك، في أدراج كلامه، يرجع إلى فنين.
قلت: ما ذكره الغزالي من الاستدلال بالإحداث على العلم، طريق صحيح يوصل إلى تقرير أنه بكل شيء عليم.
لكن الطرق إلى ذلك كثيرة متعددة، لم تنحصر في هذه الطريق، لا سيما إذا أريد تقرير حدوث العالم بحدوث الأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، كما سلكه.
فإن هذه الطريق مبتدعة في الإسلام باتفاق علماء الإسلام، وهي باطلة عند أئمة الإسلام وجمهور العقلاء، والعلم بكون الرب مريداً لا يقف على هذه الطريق، بل ولا على العلم بحدوث الأجسام، بل يكفي في ذلك مجرد العلم بأنه فاعل، حتى أن كثيراً من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، يقول: إنه مريد، وإنه عالم بالجزئيات، كما ذهب إلى ذلك من ذهب إليه من الفلاسفة، وهو الذي نصره أبو البركات، فهؤلاء يثبتون العلم بطريق الإرادة.
وأما المسلمون، الذين يقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق، فأئمتهم وجمهورهم لا يثبتون ذلك بامتناع حوادث لا أول لها، كما سلكه الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم، بل هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة.
وأيضاً فالرب إذا عرف أنه علام بمخلوقاته، لأنه خلقهم بإرادته، علم أنه إذا كان عالماً بكل ما سواه، فعلمه بنفسه أولى، فإن هذه المقدمة لا تحتاج إلى توسيط كونه حياً، وإن كان ذلك طريقاً صحيحاً، وإن كانت الحياة شرطاً في كونه عالماً، لكن ليس كل ما كان شرطاً في الوجود، كان العلم به شرطاً في الاستدلال، فإنه من علم أن الله يعلم كل ما سواه، ثم نظر: هل يعلم نفسه أم لا؟ علم أن علمه بنفسه أولى من
علمه بكل ما سواه، قبل أن يستشعر أنه حي، وأن كل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف نفسه أولى.
بل إذا كانت هذه القضية بينة، وهو أن كل حي عرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، قضية بينة بنفسها، فهي بينة وإن لم يذكر فيها كونه حياً، إذ علم الإنسان بهذه الأولوية غير مشروط بهذا، وإن كانت الحياة شرطاً في كل علم.
كما أنا إذا علمنا أنه مريد، علمنا أنه عالم بما أراده، وإن لم يخطر بقلوبنا أنه حي، وإن كانت الحياة شرطاً في العلم والإرادة، فالعلم باستلزام علمه بغيره لعلمه بنفسه، لا يقف على العلم بهذه المقدمة، وإن كانت هذه المقدمة تفيد هذا المطلوب أيضاً.
وأيضاً فعلم المسلمين بأن الله بكل شيء عليم، له طرق غير الاستدلال بالإرادة، كما هو مذكور في موضعه.
والمقصود كلامه على ما ذكره ابن سينا.
قال: وحاصل ما ذكره يرجع إلى فنين: الأول: أنه عقل محض، وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له.
إلى أن قال: وإن عنيت بأنه عقل: أنه يعقل نفسه، فربما
يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك، ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره.
فيقال: ولم ادعيت هذا، وليس ذلك بضروري، وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة، فكيف تدعيه ضرورياً؟ وإن كان نظرياً فما البرهان عليه؟.
إلى أن قال: الفن الثاني: قوله: إنا وإن لم نقل: إن الأول مريد للإحداث، ولا إن الكل حادث حدوثاً زمانياً، فإنا نقول: إنه فعله وقد وجد منه، إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلية، فلم يزل فاعلاً، فلا نفارق غيرنا إلا في هذا المقدار، وأما في أصل الفعل فلا.
وإذا وجب كون الفاعل عالماً -بالاتفاق- بفعله، فالكل عندنا من فعله.
قال أبو حامد: والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الفعل قسمان: إرادي: كفعل الحيوان والإنسان.
وطبيعي: كفعل الشمس في الإضاءة، والنار في التسخين، والماء في التبريد.
وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي، كما في الصناعات
البشرية.
فأما في الفعل الطبيعي فلا.
وعندكم أن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار، لا بطريق الإرادة والاختيار، بل لزم الكل ذاته، كما يلزم النور الشمس.
وكما لا قدرة للشمس على كف النور، ولا النار على كف التسخين، فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله، تعالى عن قولهم علواً كبيراً.
قال: وهذا النمط، وإن تجوز بتسميته فعلاً، فلا يقتضي علماً للفاعل أصلاً.
فإن قيل: بين الأمرين فرق، وهو أن صدور الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل، فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل، ولا مبدأ له سوى العلم بالكل، والعلم بالكل عين ذاته، فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل، بخلاف النور من الشمس.
قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك، فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار، لا من حيث هو عالم
بها، فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة؟.
وكما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور، بل يتبعها النور ضرورة، فليقدر ذلك في الأول، ولا مانع منه.
الوجه الثاني: هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل، يقتضي العلم أيضاً بالصادر، فعندهم فعل الله واحد، وهو المعلول الأول، الذي هو عقل بيسط، فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به، والمعلول الأول يكون أيضاً عالماً بما صدر منه فقط، فإن الكل لم يوجد من الله دفعة.
بل بالوسط والتولد واللزوم، فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغ أن يكون معلوماً له، ولم يصدر منه إلا شيء واحد، بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي، فكيف في الطبيعي؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد تكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة، ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته، من مصادمته وكسر غيره، فهذا أيضاً لا جواب له عنه.
قال: فإن قيل: فلو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه، لكان ذلك في غاية الشناعة، فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره، فكيف يكون في الشرف فوقه؟ وكيف يكون المعلول أشرف من العلة؟.
قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدوث العالم، فيجب ارتكابها كما ارتكبت سائر الفلاسفة له، ولا بد من ترك الفلسفة والإعتراف بأن العالم حادث بالإرادة.
ثم يقال: بم تنكرون
…
إلى آخره.
قلت: ما ذكره أبو حامد من منازعة إخوانه الفلاسفة، في أن العلم بنفسه يستلزم العلم بمفعولاته، تقدم بيانه له.
وكون ابن سينا خالفهم في هذا، هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحساناً منه في هذا الباب.
فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره، كان ذلك مما يفضل به ويمدح، وهو لم يقل: إن عقله لنفسه مستلزم لغيره، بل قال: يستلزم عقله لمفعولاته، كما تقدم.