الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قال تعالى: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] .
وقال: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم} [الأنبياء: 66] .
فهذا القدر، مما يوصف الله به ويسمى به، هو القدر الذي قصد الشرع أن يعلمه الجمهور، لا غير ذلك.
قلت: السمع والبصر ليسا مجرد علم بالمسموع والمرئي، وإن استلزما ذلك، على ما هو المعروف من قول أئمة السنة.
والقصد الذي عرفه الشرع أكثر من هذه الصفات.
ولكن لما أراد صاحب هذا الكلام أن يبين الطرق الشرعية لإثبات ما أثبته المتكلمون من الصفات، تبعهم في هذا.
رد ابن رشد على أقوال الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الصفات ورد ابن تيمية
قال: ومن البدع التي حدثت في هذا الباب سؤال في الصفات: هل هي الذات أو زائدة على الذات؟ ثم هل هي صفة نفسية أو صفة معنوية؟.
ويعني بالنفسية التي توصف بها الذات لنفسها، لا لقيام معنى
فيها زائد على الذات، مثل قولنا: واحد قديم.
والمعنوية التي توصف بها الذات لقيام معنى فيها، فإن الأشعرية يقولون: إن هذه الصفات هي صفات معنوية، وإنها زائدة على الذات، فيقولون: إنه عالم بعلم زائد على ذاته، وحي بحياة زائدة على ذاته، كالحال في الشاهد.
ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم.
وذلك أن الذات لا بد أن يقولوا: إنها قائمة بذاتها، والصفات قائمة بها، أو يقولوا: إن كل واحد منها قائم بنفسه، أو يقولوا: إن الذات تقوم بالصفات، فإن قالوا: إن كل واحد منهما قائم بنفسه، فالآلهة كثيرة.
وهذا قول النصارى الذين زعموا أن الأقاليم ثلاثة: أقنوم الوجود والحياة والعلم.
وقد قال تعالى في هؤلاء: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 72]، وإن قالوا: أحدهما قائم بنفسه، والآخر قائم
به، فقد أوجبوا أن يكون جوهراً وعرضاً، لأن الجوهر هو القائم بذاته، والعرض هو القائم بغيره، والمؤلف من جوهر وعرض جسم ضرورة.
وكذلك قول المعتزلة في هذا الجواب.
أن الذات والصفات شيء واحد هو أمر بعيد من المعارف الأول، بل يظن أنه مضاد لها، وذلك أنه يظن أن من المعارف الأول أن العلم يجب أن يكون غير العالم، وأنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم، إلا لو جاز أن يكون أحد المتضايفين، مثل أن يكون الأب والابن معاً واحداً بعينه، فهذا تعليم بعيد عن أفهام الجمهور، والتصريح به بدعة، وهو أن يضلل الجمهور أحرى منه أن يرشدهم.
وليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول سبحانه، إذ ليس عندهم برهان، ولا عند المتكلمين على الجسمية أو نفي الجسمية عنه برهان، فإن نفي الجسمية عنه انبنى على وجوب الحدوث للجسم بما هو جسم.
وقال: وقد بينا في صدر هذا الكتاب أنه ليس عندهم برهان على ذلك، وأن الذين عندهم برهان على ذلك هم العلماء.
ومن هذا الموضع زل النصارى، وذلك أنهم اعتقدوا كثرة الأوصاف، واعتقدوا أنها جواهر لا قائمة بغيرها، بل قائمة بنفسها كالذات، واعتقدوا أن الصفات التي بهذه الحال هما صفتان: العلم، والحياة.
قالوا: فالإله واحد من جهة، ثلاثة من جهة، يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وواحد من جهة أن مجموعها شيء واحد.
فهنا ثلاثة مذاهب: مذهب من رأى أنه نفس الذات ولا كثرة هنالك.
مذهب من رأى الكثرة، وهؤلاء قسمان: منهم من جعل الكثرة كثرةً قائمةً بذاتها.
ومنهم من جعلها كثرةً قائمةً بغيرها.
وهذا كله بعيد عن مقصد الشرع.
وإذا كان هذا هكذا، فالذي ينبغي أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها دون
تفصيل الأمر فيها، فإنه ليس يمكن عند الجمهور أن يحصل في هذا يقين أصلاً.
وأعني هنا بالجمهور كل من لم يعن بالصنائع البرهانية.
وسواء كان قد حصلت له صناعة الكلام أو لم تحصل له، فإنه ليس في قوة صناعة الكلام الوقوف على هذا القدر من المعرفة، إذ أعلى مراتب صناعة الكلام أن يكون حكمة جدلية لا برهانية، وليس في قوة صناعة الجدل الوقوف على الحق في هذا.
فقد تبين من هذا القول القدر الذي صرح به للجمهور من المعرفة في هذا، والطرق التي سلكت بهم في ذلك، وأن الطرق التي سلكوا بالناس في هذه الأشياء، وزعموا أنها من أصل الشرع، ليست من أصل الشرع، بل هي مسكوت عنها في الشرع.
قلت: مقصود بهذا الكلام يبين أن طرق إخوانه الفلاسفة في نفي الصفات هي البرهانية، دون طرق غيرهم.
وليس الأمر كما زعمه، بل ما سلكه إخونه في نفي الصفات أضعف بكثير مما سلكه المعتزلة، مع أن
كليهما فاسد، كما قد بين في موضعه.
وقول القائل: إن الشرع لم يصرح بإثبات الصفات من أبين الخطأ، فإن الله تعالى قال:{ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255] .
وقال: {أنزله بعلمه} [النساء: 166] .
وقال: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14] .
وقال: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11]، [فصلت: 47] في موضعين.
وقال: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58] .
وقال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15] .
وقال: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47] .
وفي الحديث الصحيح: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» .
وقال تعالى عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [غافر: 7] .
وقال: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] .
وقال: {وسع كل شيء علما} [طه: 98]، وقال:{ولتصنع على عيني} [طه: 39] ، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثير.
ومن المعلوم بالضرورة أن العلم ليس هو نفس العالم، والمضاف هنا ليس هو المضاف إليه، وأن أسماء الله الحسنى، مثل: العليم، والحي، والقدير، والرحيم، ونحو ذلك- هي، وإن كانت أسماء لله تدل على نفسه المقدسة، فليس ما دل عليه الحي من الحيوة، هو ما دل عليه عليم من العلم، وما دل عليه قدير من القدرة، وما دل عليه رحيم من الرحة.
فمن قال: إن هذه الأسماء الحسنى لا تدل على هذه المعاني، فهو مكابر للغة التي نزل بها القرآن، فإن الأسماء التي تسميها النحاة: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المعدولة عنها كفعيل وغيره -هي أسماء مشتقة تتضمن المصادر، بخلاف: رجل، وفرس.
ومن جعل العالم لا يدل على علم، والقادر لا يدل على القدرة، فهو بمنزلة من قال: المصلي لا يدل على الصلاة، والقائم لا يدل على القيام، والصائم لا يدل على الصيام، وأمثال ذلك.
وأما سؤال السائل: إن هذه الصفات: هل هي الذات أو غيرها؟ وهل هي الذات أو زائدة عليها؟.
فالجواب المرضي عند الأئمة: أن لا يطلق القول بأنها هي الذات ولا بأنها غيرها، ولا بأنها الذات ولا بأنها زائدة عليها، ولا ينفي الأمران، فيقال: لا هي الذات ولا غيرها، حتى يكون قسماً ثالثاً، ليست هي الذات ولا هي غيرها.
فإن هذا يقوله طائفة من متكلمة الصفاتية، من أصحاب أحمد وغيره، كما يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري.
والصوب المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة: أنه لا يطلق لا هذا ولا هذا، لأن لفظ الغير فيه إجمال واشتراك.
فقد يراد بالغيرين ما جاز مفارقة أحدهما أحأالآخر، أو مباينته له، فلا تكون الصفة اللازمة للموصوف غيراً له.
وقد يراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر، فيكون غيراً له.
وكذلك لفظ: الزيادة على الذات، فإن الذات يراد بها الذات المجردة عن الصفات، فالصفات زائدة على هذا الذات.
لكن هذه الذات عند أهل الإثبات لا حقيقة لها في الخارج، وإنما تقدر في الذهن تقديراً، وإنما يعتقد ثبوتها في الخارج نفاة الصفات.
فالمثبتون إذا قالوا: الصفات زائدة على الذات، لم يقولوا: إن في الخارج ذاتاً مجردة تزاد عليها الصفات، بل أثبتوا الصفات زائدة على ما أثبته النفاة، فزادوا عليها في الإثبات.
وقد يراد بالذات نفس الله سبحانه، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه، ليست زائدة على مسمى أسمائه الحسنى.
ولا يمكن وجود ذات غيره مجردة عن الصفات، حتى يقال: إن صفاته زائدة عليها، فضلاً عن وجوده سبحانه مجرداً عن صفات الكمال كلها.
وصفاته اللازمة له كلها نفسية، بمعنى أنها داخلة في مسمى أسمائه، لا يفتقر إلى أمور مباينة له، وهي لازمة لنفسه لا يوجد بدونها، ولا يمكن وجوده منفكاً عنها.
وإذا قيل: هو عالم بعلم، قادر بقدرة، فليس هناك حقيقة قائمة بنفسها يمكن وجودها بدون العلم والقدرة، بل لا يمكن أن تكون إلا عالمةً قادرة، وإن كنا نحن قد نعلم وجودها قبل أن نعلم أنها عالمة.
وما ذكره من التمثيل بالواحد والقديم فيه نزاع، فإن الصفاتية متنازعون في القديم والباقي: هل هو قديم باق ببقاء، كما يقوله ابن كلاب؟ أو قديم بنفسه باق ببقاء، كما يقوله الأشعري، ومن وافقه كأبي علي بن أبي موسى؟ أو قديم بنفسه باق بنفسه، كما يقوله القاضي أبو بكر ومن وافقه، كالقاضي أبي يعلى؟.
وأما أن الأشعرية يقولون في العلم ونحوه: إن هذه الصفات هي صفات معنوية، وإنها زائدة على الذات.
فيقال: مقصودهم في الأصل إثبات هذه الصفات، وإبطال قول: من قال عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة.
أو قال: إن ذاته علم وقدرة.
والأشعرية هم في إثبات هذه الصفات، مع سائر أهل السنة، والجماعة، لم ينازعهم في إثبات الصفات إلا من هو -عند السلف والأئمة- من أعظم الناس ضلالاً، كالجهمية والمعتزلة.
وإذا قالوا: هو عالم بالعلم، وقادر بالقدرة، لم يريدوا بذلك أن هنا ذاتاً منفصلة عنه، صار بها عالماً قادراً، كما يظنه بعض الغالطين عليهم، فإن هذا لم يقله أحد من عقلاء بني آدم فيما نعلم، ولكن بعضهم، وهم مثبتة الحال، كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما، يقولون: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالماً، وكونه عالماً حال معللة بالعلم.
وأما جمهورهم، وهم نفاة الحال، فيقولون: علمه هو كونه عالماً، وقدرته هو كونه قادراً، ليس هناك أمران، ولا علة ولا معلول.
وهذا قول الأكثرين: الأشعري وغيره.
والمنازع لهم من المعتزلة والفلاسفة يقر بما يوجب موافقتهم، فإنهم يقرون بأن كونه عالماً ليس هو كونه قادراً.
وهذا معنى العلم والقدرة عند أولئك، كما قد بسط في موضعه.
فالنفاة للصفات، من المعتزلة وغيرهم، يقولون: إنه عالم وإنه قادر.
ومنهم من يثبت العالمية والقادرية، ويسمي ذلك حالاً.
وهذا يستلزم عند التحقيق قول مثبتة الصفات.
وكذلك الفلاسفة قولهم يستلزم قول مثبتة الصفات، وإن نفوها تناقضوا.
وأما إطلاق المطلق لفظ الزيادة على الذات، فقد تقدم أن هذا الإطلاق كإطلاق المطلق: أن الصفات لا هي الذات ولا هي غيرها.
وهذا يطلقه هؤلاء وغيرهم.
وأئمة السلف، وابن كلاب، وأمثاله من أئمة الأشعرية، لا يطلقون لا هذا ولا هذا.
وكانوا إذا قالا للسلف: القرآن هو الله أو غير الله؟ لم يطلق الأئمة لا هذا ولا هذا، لما في إطلاق كل منهما من إبهام معنى فاسد، وليس ذلك إثباتاً لقسم ثالث، ليس هو الموصوف ولا غيره، بل يفصل اللفظ المجمل، كما فعل السلف نظير ذلك في لفظ الحيز وأمثاله.
وأما قولهم: يلزم الأشعرية على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول.
فيقال له: وهكذا يلزم من قال: إنها عالم قادر.
ومن قال: إنه يعلم ويقدر.
فمن أثبت لله الأسماء الحسنى وأحكامها، لزمه ما يلزم من أثبت الصفات.
فالاسم المشتق يدل على المصدر وعلى الفعل، وخبر المخبر بذلك وحكمه يقتضي ثبوت ذلك في نفس الأمر.
ويقال له: كل ما تلزم به الأشعرية وأمثالهم في إثبات الصفات، يلزمونك إياها في كل ما نفيته.
فإذا قلت: الموصوف بالصفة لا يكون إلا جسماً.
قالوا: والمسمى بالحي العالم القادر لا يكون إلا جسماً، والمخبر عنه بأنه يعلم ويقدر لا يكون إلا جسماً، والموصوف يقول القائل: هو عالم قادر لا يكون إلا جسماً.
فإن أمكنك أن تثبت هذا لغير جسم، أمكنهم ذلك.
وإن لم يمكنهم لم يمكنك.
فهذا السؤال لازم لجميع الناس كما يلزم الأشعرية وغيرهم.
وأيضاً فهذا إلزام جدلي لا علمي.
وذلك أن نفاة الجسم من أهل الكلام، كالمعتزلة والأشعرية، يقولون: إنما نفيناه للدليل الدال على حدوث الجسم، وأنت قد بينت أنه دليل باطل، ونحن أثبتنا الصفات مع ذلك.
فإذا قلت: الجمع بينهما خطأ، فإن إثبات الصفات يستلزم التجسيم.
قالوا لك: ليس خطؤنا في إثبات الصفات بأولى من خطأنا في نفي التجسيم.
بل أنت تقول: إنا مخطئون في نفي التجسيم.
ولم تقم دليلاً على خطأنا في نفي الصفات.
فإن كنا مخطئين في نفي التجسيم عيناً، لزم إثبات الصفات بلا محذور.
وإن قدر الخطأ في أحدهما بغير تعيين، لم يتعين الخطأ في نفي الصفات إلا بدليل.
وأيضاً فأنت تقول: إن الشرع لم يصرح بنفي التجسيم، وإن التصريح به بدعة.
والشرع قد صرح بإثبات الصفات، فكيف تعيبنا بإثبات ما أثبته الشرع، لكونه مستلزماً لإثبات ما لم ينفه الشرع؟.
ومن المعلوم أن الشرع إذا أثبت شيئاً له لوازم، لم يكن إثبات ذلك بدعة.
وتلك اللوازم، إن كانت ثابتة في نفس الأمر، فلازم الحق حق.
وإن لم تكن لازمة، فلا محذور.
فإن قيل: أنا أقيم دليلاً عقلياً على نفي الجسم غير دليلكم.
كان لهم عن ذلك أجوبة: أحدها: أن يقولوا: فأنت قد أثبت أنه عالم قادر، فإن أمكنك مع ذلك أن تقول: إنه ليس بجسم، أمكنا أن
نقول: عالم بعلم، قادر بقدرة، وليس بجسم.
وإن لم يمكنك هذا استوينا نحن وأنت.
ففي الجملة ورود هذا السؤال علينا ورود واحد.
الثاني: أن يقولوا: دليلنا على نفي الجسم أقوى من دليلك، كما بين ذلك الغزالي وغيره، وبينوا أن الفلاسفة عاجزون على إقامة الدليل على أنه ليس بجسم.
الثالث: أن يقولوا: أدلة إثبات الصفات أقوى من أدلة نفي الجسم، فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا لم يجز نفي ما هو معلوم ثابت، خوفاً من لزوم ما ليس دليل انتفائه كدليل ثبوت ذلك، فكيف إذا كانت أدلة النفي باطلة، وأدلة الإثبات للصفات ولوازمها حق لا محيد عنه؟.
وأما التقسيم الذي ذكرته، فلا ريب أن أهل الإثبات لا يقولون: إن الصفات قائمة بنفسها، بل هي قائمة بالموصوف.
وأما ما ذكره عن النصارى، فليس هذا موضع بسطه، فإن قول النصارى مضطرب متناقض، فإنهم لا يثبتون ثلاثة جواهر قائمة بأنفسها، ولا يجعلون الأقانيم كالصفة من كل وجه، فإنهم يقولون: المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، فإن جعلوا الكلمة هي الذات الموصوفة، لزم أن يكون المسيح هو الأب، وهم ينكرون ذلك.
وإن جعلوه صفة الذات لزمهم أن لا يكون المسيح إلهاً خالقاً رازقاً، لأن الصفة ليست إلهاً خالقاً رازقاً.
وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف.
وهم يقولون: المسيح إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه.
وأما استدلاله بقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 72] ، فهذا يسلكه طائفة من الناس، ويقولون قوله تعالى:{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] ، إشارة إلى أحد أقوالهم الثلاثة، وهو قول اليعاقبة القائلين بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهراً واحداً، كالماء واللبن.
وقوله: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ، إشارة إلى قول الملكية.
وقوله: {ثالث ثلاثة} إشارة إلى قول النسطورية الذين يقولون بالحلول، وهو قولهم بالأقانيم الثلاثة.
وليس الأمر كما قال هؤلاء، بل ما ذكره الله تعالى هو قول النصارى جملة.
فإنهم يقولون: إنه الله باعتبار، وإنه ابن الله باعتبار آخر.
وقوله: {إن الله ثالث ثلاثة} بدليل: المراد به قوله: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] ، فعبدوا معه المسيح وأمه، فصار ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار.
وأما قوله عن الأشعرية: إذا قالوا الموصوف قائم بنفسه، والصفة قائمة به، فقد أوجبوا جوهراً وعرضاً -فهذا من جنس إلزامه لهم أن يكون جسماً.
فيقولون له: هذا يلزمك إذا قلت: هو حي عالم قادر، فإن الحي العالم القادر قائم بذاته، فإن كان كل قائم بذاته جوهراً، فهو جوهر، وإلا بطل إلزامك.
وإيضاً فلو لو يوصف بذلك، لكان في نفس الأمر إما قائماً بنفسه، وإما قائماً بغيره، إذ فرض موجود ليس قائماً بنفسه ولا بغيره ممتنع.
فإن كان كل قائم بنفسه ولا بغيره ممتنع فإن كان كل قائم بنفسه هو جوهر، لزمك أن يكون جوهراً.
ثم يقال: من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات.
منهم من يسمى كل قائم بنفسه جوهراً، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة.
وهؤلاء يسمونه جوهراً.
ومنهم من لا يطلق الجوهر إلا على المتحيز، ويقول: إنه ليس بمتحيز، فلا يكون جوهراً، كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة.
ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة، لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع، وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده، لا لما يجب وجوده.
وبالجملة فالنزاع في هذا الباب لفظي، ليس هو معنى عقلياً.
والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر، حتى يحتاج أن ينظر في معناه.
والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي.
وهذا لم يذكر دليلاً عقلياً على نفي الجوهر، فصار قد ألزمهم لوازم، ولم يذكر دليلاً على بطلانها.
فيجيبونه بالجواب المركب، وهو أن هذا إما أن يكون لازماً لإثبات
الصفات، أو ليس بلازم.
فإن لم يكن لازماً، بطلت المقدمة الأولى.
وإن كان لازماً، منعت المقدمة الثانية، فإن لازم الحق حق..
وليس التزام مسمى هذا الاسم أبعد في الشرع والعقل من نفي الصفات، بل نفي الصفات أبعد في الشرع والنقل من إثبات مسمى هذا الاسم، فلا يجوز التزام نفي الصفات، الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية، حذراً من التزام مسمى هذا الاسم، الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات، مع أنه لم يذكر على ذلك دليلاً أصلاً، وهو قد بين فساد أدلة النفاة لذلك من أهل الكلام.
وأما قول القائل: الذات والصفات شيء واحد فإن أراد به أن الصفات ليست مباينة للموصوف، فصحيح.
وإن أراد أن نفس الذات هي نفس الصفات، فهذه مكابرة.
وهذا القائل.
وإخوانه، يقولون بذلك، وقد صرح هو بأن العلم نفس العالم، وهذا غاية المناقضة لصريح المعقول.
وقوله: إنه بعيد من المعارف الأول، أنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم فهذا قاله بناءً على ما يراه أن هذا حق في نفس الأمر.
والصواب أن هذا ممتنع في صريح العقل، معلوم علماً يقينياً أن العلم ليس هو نفس العالم، ومن قال هذا فقد أتى بغاية السفسطة، وجحد العلم الضروري.
وأما قوله: ليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول -وهو أن تكون الذات والصفات شيئاً واحداً- ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية، وإنما برهان ذلك عند العلماء الذين هم الفلاسفة عنده.
فيقال: لا ريب عند كل من له عقل أن ما يذكره الفلاسفة في نفي ذلك أفسد في العقل الصريح مما يذكره المتكلمون.
وأنت قد أفسدت طريقة ابن سينا، ولم تعتمد في ذلك إلا على إثبات النفس، وهو أنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الباري كذلك.
ومن المعلوم أن الأدلة النافية لهذا عن النفس: إن كانت صحيحة، فهي على نفي ذلك عن الرب أولى، وإن لم تكن صحيحة بطل قولك.
ومن المعلوم أن أدلة نفي الجسم عن النفس أضعف بكثير من نفي ذلك عن واجب الوجود.
فكيف يكون الأضعف حجة على الأقوى؟!.
وقد تكلم على فساد.
ما ذكروه في النفس في غير هذا الموضع.
وأما ما ذكره من أنه لا يمكن أن يكون بهذا النفي يقين إلا عند من عني بالصناعة البرهانية -يعني طريقته الفلسفية- وقوله: إن صناعة الكلام جدلية لا برهانية.
فهذا كما يقال في المثل السائر: رمتني بدائها وانسلت، ولا يستريب عاقل نظر في كلام الفلاسفة في الإلهيات، ونظر في كلام أي صنف قدر من أصناف اليهود والنصارى فضلاً عن أصناف المتكلمين من المسلمين، أن ما يقوله هؤلاء في الإلهيات أكمل وأصح في العقل مما يقوله المتفلسفة، وأن ما يقولونه في الإلهيات قليل جداً، وهو مع قلته فأدلة المتكلمين خير من أدلتهم بكثير.
وهذه طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وصفاته، لا تفيده إلا ما لا نزاع فيه، وهو وجود واجب الوجود.
وأما كونه مغايراً للأفلاك، فإنما بناه على نفي الصفات، وهو مع فساده فدليلهم على نفيه أضعف من دليل المعتزلة.
فهم مع مشاركتهم للمعتزلة في النفي، لا يستدلون إلا بما هو أضعف من دليلهم.
وأما هذا الرجل فإنه تارة يأخذ طريقة متلقاة من الشرع، وتارة طريقة متلقاة عن المتكلمين، وتارة يقول ما يظن أنه قول الفلاسفة، لم يحك عن الفلاسفة في الإلهيات طريقة إقناعية، فضلاً عن طريقة برهانية.
وإذا قدر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي، فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده.
والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية، وإلا فصورته أمر سهل بقدر عليه عامة الناس.
وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة.
وهب أن الإنسان عنده ميزان، فإذا لم يكن معه ما يزن به، كان من معه مال لم يزنه،