الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم.
وهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا لله كلاماً ولا تكليماً هو أمر ونهي، وإنما أثبتوا مجرد العلم والإعلام.
وقوله: ولهذا الفعل شرط في الشاهد -وهو اللفظ- فيجب أن يكون من الله بواسطة، وهو الملك، أو جعل العبد عالماً بذلك، أو لفظ يخلقه في سمع المستمع فهذا شر من قول المعتزلة، الذين يقولون: كلام الله مخلوق.
كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه
وهو متضمن لعدة وجوه من الخطأ: منها: أن الملك إذا كان واسطة رسول إلى من أرسل إليه، كما أن البشر أيضاً رسول، ومثل هذه الواسطة قد تكون من العبد أيضاً، فإنه قد يرسل رسولاً، كما يكتب كتاباً، والرسول مبلغ لكلام المرسل، فلا بد من إثبات كلام يبلغه الرسول.
والرسول قد يبلغ لفظ المرسل، وقد يبلغ معناه بعبارة أخرى، وقد يفهم مراده بطريق آخر فيبلغه عنه، فهذا كله يقع في البشر، كما يقع تكليم بعضهم لبعض باللفظ، فلا يجعل هذا من الله نوعاً من الأنواع القائمة مقام اللفظ من البشر، فإن البشر تجمع بين النوعين: بين اللفظ وبين هذا، فكان الواجب أن يجعل هذا من الله قائماً مقام الإرسال من البشر، لا مقام اللفظ.
وأيضاً فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها لا تقوم مقام اللفظ من البشر.
أما إحداث الفهم في العبد، فهذا مفعول من مفعولات الله
كسائر مفعولاته، فجعل العبد يعلم بمنزلة جعله يسمع ويبصر، ويقدر ويعمل.
ومعلوم أن هذا لا يقدر عليه غير الله، وهو مع هذا متناول لجميع الحيوان.
قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى* الذي خلق فسوى* والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1-3] .
وقال موسى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] .
فهل يكون كل من جعله الله يعلم ما لم يكن يعلم يكون قد كلمه الله؟
وأيضاً فهذا ليس نظير خطاب الإنسان بلفظه، ولا هذا واسطة في هذا التكليم، بل هذا هو نفس الواسطة.
وهو يثبت أمرين: أحدهما: فعل من الله هو التكليم.
والثاني واسطة أخرى غير الفعل.
وذلك لا يصلح لأمرين: أحدهما: أن الفعل غير المفعول، كما أقر بذلك غير مرة.
وهنا لا يثبت لله فعلاً غير ما حدث في نفس الملهم.
الثاني: أنه ليس هناك واسطة غير هذا الحادث، فنفس كون العبد يعلم هو التكليم عنده، وهو مفعول الحق.
وإذا قدر قبل هذا العلم خلق استعداد في العبد، وإثبات شروط، وإزالة موانع، فتلك هي شروط العلم، كالنظر والاستدلال فيما يحصل بذلك.
وأما قوله: بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه.
فيقال له: هذا اللفظ: إن كان موجوداً في شيء خارج عن المستمع، فهو قول المعتزلة، الذين يقولون: إن الله كلم موسى بكلام مخلوق في غيره.
وهو لم يرد هذا، بل قوله وقول أصحابه شر من هذا.
وإن أراد ما هو مدلول لفظه وقول أصحابه، وهو أنه خلق لفظاً في نفس موسى سمعه موسى من غير أن يكون له وجود في الخارج، فهذا من جنس ما يسمعه النائم في نفس من الأصوات، وما يقع لأرباب الرياضيات من الأصوات التي يسمعونها في أنفسهم.
ولا ريب أن إحداث المعاني العقلية المجردة في نفس الإنسان أكمل من إحداث هذه في نفسه، فيكون تكليمه لموسى أنقص من إيحائه إلى سائر النبيين، والله قد فضل موسى بالتكليم، وعلم ذلك بالضرورة من دين المسلمين واليهود والنصارى.
قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا* ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 163-164] .
وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} [البقرة: 253] .
وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} إلى قوله: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 143-144] .
وقال: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم: 52] .
وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} [القصص: 30] .
وقال: {هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} [النازعات: 15-16] .
وما ذكروه من حدوث أصوات في نفس الإنسان يسمعها: إما يقظة وإما مناماً، يحصل لآحاد الناس في كثير من الأوقات، وسمع الإنسان للهواتف في نفسه أكثر من أن يحصى، فإن كان تكليم موسى من هذا الجنس، فآحاد الناس شركاؤه في هذا، فكيف بالأنبياء، فكيف بالمرسلين؟!.
ومعلوم أن الله خص موسى بالتكليم تخصيصاً لم يشركه فيه: لا نوح، ولا إبراهيم، ولا عيسى، ولا نحوهم من النبيين.
وقوله: إن ذلك الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه، وهذا هو كلام حقيقي، وهو الذي خص به موسى كلام باطل، فإن هذا ليس بالتكليم الحقيقي الذي خص به موسى، بل ليس هو التكليم الحقيقي عند أحد من الأمم.
ولا يعقل أحد في التكليم هذا، وإنما هذا من جنس المنامات، وغايته أن يكون من جنس الإيحاء.
والإنسان قد يرى في منامه أن الله خاطبه بكلام كثير يسمعه، فإن كان هذا كلام حقيقي لله، فما أكثر
الكلام الحقيقي لله، وما أكثر تكليمه بكلام حقيقي لآحاد الناس! كما كلم موسى بن عمران النجي المقرب المخصوص بالتكليم.
وأيضاً قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51] ، يقتضي أن التكليم من وراء حجاب نوع غير الوحي، وأن المكلم بذلك محجوب أن يرى الله، لأن التكليم المسموع قد يكون مع رؤية المستمع للمتكلم، وقد يكون مع كونه محجوباً عنه، بخلاف الوحي، فإنه يقع في قلبه، فلا يحتاج أن يجعل نوعين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان» ، فلو كان الكلام المسموع هو شيئاً قائماً بالمستمع، لا وجود له في الخارج، لكان من جنس الوحي الذي لا يحسن أن يقال معه: من وراء حجاب، فإن صاحب هذا لم يسمع شيئاً منفصلاً عنه، يمكن مشاهدة المتكلم به تارة، وحجب المستمع عنه أخرى.
والكلام على هذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على ما تعرف به الأقوال الموافقة للقرآن والمخالفة له، فإن هذا الباب خاض فيه طوائف من الناس.
وأكثر الناس يسمعون كلام هذا وهذا، ولا يعرفون حقائق الأقوال ومراتبها في القرب من الحق والبعد منه.