الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأصول العقلية التي يوافقونه على صحتها، توجب موافقتهم له في هذا الموضع، كما تقدم.
هذا لو كان الفلاسفة ينفون الإرادة، وليس كذلك.
بل بينهم من يصرح بثبوتها، وهو القول الذي نصره أبو البركات منهم.
كلام ابن رشد في تهافت التهافت وتعليق ابن تيمية عليه
ومنهم من يحكي إثبات الإرادة عنهم مطلقاً، كما اختاره ابن رشد عنهم، فإنه قال في تهافت التهافت: استفتح أبو حامد هذا الفصل بأن حكى عن الفلاسفة شيئاً شنيعاً، وهو أن الباري ليس له إرادة، لا في الحادث، ولا في الكل، لكون فعله صادراً عن ذاته ضرورة، كصدور الضوء من الشمس.
ثم يحكي عنهم أنهم قالوا: من كونه فاعلاً يلزم أن يكون عالماً.
قال: والفلاسفة ليس ينفون الإرادة عن الباري تعالى، ولا يثبتون له الإرادة البشرية، لأن البشرية إنما هي لوجود نقص في المريد، وانفعال عن المراد.
فإذا وجد المراد له تم النقص، وارتفع ذلك الانفعال المسمى إرادة.
وإنما يثبتون له من معنى الإرادة أن
الأفعال الصادرة عنه هي صادرة عن علم، وكل ما صدر عن علم وحكمة، فهو صادر بإرادة الفاعل، لا ضرورياً طبيعياً، إذ ليس عن طبيعة العلم صدور الفعل عنه، كما حكى هو عن الفلاسفة، لأنا إذا قلنا: يعلم الضدين، لزم أن يصدر عن الضدان معاً، وذلك محال.
فصدور أحد الضدين عنه، يدل على صفة زائدة على العلم، وهي الإرادة.
وهكذا ينبغي أن يفهم ثبوت الإرادة في الأول عند الفلاسفة، فهو عندهم: عالم مريد عن علمه ضرورة.
وقال ابن رشد أيضاً: وأما قول أبي حامد: إن الفعل قسمان: إما طبيعي وإما إرادي -فباطل.
بل فعله عند الفلاسفة: لا طبيعي بوجه من الوجوه، ولا إرادي بإطلاق.
بل إرادي منزه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان.
وكذلك اسم الإرادة مقول عليهما باشتراك الاسم.
كما أن اسم العلم كذلك على العلمين: القديم والحادث، فإن الإرادة في الحيوان والإنسان انفعال لاحق له عن المراد، فهي معلولة عنه.
هذا هو المفهوم من إرادة الإنسان، والباري سبحانه منزه عن أن يكون فيه صفة معلولة، فلا يفهم من معنى الإرادة إلا صدور الفعل مقترناً بالعلم، وأن العلم، كما قلناه، يتعلق بالضدين، ففي العلم الأول، بوجه ما، علم بالضدين، ففعله أحد الضدين دليل على أن هنا صفة أخرى، وهي التي تسمى إرادة.
قلت: ابن رشد يتعصب للفلاسفة، فحكايته عنهم أنهم يقولون: إنه مريد، كحكايته عنهم إنهم يقولون: إنه عالم بالمخلوقات.
ولا ريب أن كلاهما قول طائفة منهم.
وأما نقل ذلك عن جملتهم، أو المشائين جملة، فغلط ظاهر.
ولكن الذي انتصر لثبوت هذا وهذا انتصاراً ظاهراً أبو البركات ونحوه، وابن رشد وهو إثبات ذلك دونه، وابن سينا دونهما.
ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل، وفيه خطأ كثير، بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير، وصوابه فيه كثير.
وهؤلاء المتأخرون وسعوا القول في الإلهيات، وكان صوابهم فيها أكثر من صواب أوليهم لما اتصل إليهم من كلام أهل الملل وأتباع الرسل، وعقول هؤلاء وأنظارهم في الإلهيات، فإن بين كلام هؤلاء في الإلهيات وكلام أرسطو وأمثاله تفاوتاً كثيراً.
والمقصود أن ما ذكره أبو حامد من أنه إنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي فكلام صحيح، وهذا يدل على أن الفعل إذا كان إرادياً، لزم كون الفاعل عالماً بفعله، فنستدل بكونه مريداً على كونه عالماً، وهو استدلال صحيح، ويقتضي أنه إذا قدر نفي اللازم، وهو العلم، انتفت الإرادة، وهو أيضاً صحيح.
وكذلك ما ذكره من أن العلم لا يلزم إلا في الفعل الإرادي، لا في الفعل الطبيعي الذي ليس بإرادي، فإذا قدر فعل ليس بإرادي، لم يلزم كون الفاعل عالماً، هو كلام صحيح.
وعلى هذا فإذا قدر أن الفاعل عالم، لزم أن يكون الفعل إرادياً، لأن الفعل الإرادي مستلزم للعلم، وغير الإرادي مستلزم لنفيه، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم.
فالإرادة ملزومة للعلم، والعلم لازم لها، ونفي الإرادة ملزوم لنفي العلم، ونفي العلم ملزوم لنفي الإرادة.
فإذا قدر ثبوت العلم، لزم انتفاء نقيضه، وهو نفي العلم، ولازم نقيضه، وهو انتفاء الإرادة، وإذا انتفى هذا الانتفاء، ثبت نقيضه، وهو الإرادة.
وإيضاحه أن العلم لازم للإرادة، كما ذكروا أن كل مريد فهو عالم، فما ليس بعالم ليس بمريد، وهذا الذي يسمونه عكس النقيض، فإن العلم لازم للإرادة، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو العلم، انتفى الملزوم، وهو الإرادة.
وذكروا أن الفعل الذي ليس بإرادي مستلزم لنفي العلم، فإذا انتفت الإرادة في الفعل، لزم نفي العلم، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو نفي العلم، انتفى ملزومه وهو انتفاء الإرادة، فحصلت الإرادة، فصار يلزم من ثبوت العلم في الفعل ثبوت الإرادة، ومن نفيه نفيها، ومن ثبوتها ثبوته، ومن انتفائها انتفاؤه.
وهذا بين، إذ كان كل فعل بالإرادة فمعه العلم.
ولك فعل ليس بإرادة فلا علم معه، فينعكس كل منهما عكس النقيض.
فيقال: كل ما ليس معه علم فليس معه إرادة، وكل ما معه علم فمعه إرادة، فهذا يفيد أنه يلزم في الفعل من ثبوت كل واحد من العلم والإرادة ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، وهذا حق، وهو يدل على فساد قول من أثبت العلم ونفى الإرادة، وهم بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة.
ولكن ليس في هذا ما يدل على فساد الطريق التي سلكها ابن سينا في إثبات العلم، فإنه إذا استدل على كونه عالماً بمخلوقاته: بأن الفاعل يجب أن يكون عالماً بفعله، وبأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها- كان دليلاً صحيحاً، كما تقدم تقريره، وإن لم يذكر في الدليل كونه فاعلاً بالإرادة، فإن هذا شرط في كونه فاعلاً، كما أن كونه حياً شرط في كونه فاعلاً، وكما أن كونه عالماً شرط في كونه مريداً.
والدليل قد يدل على ثبوت المشروط قبل أن يعلم شرطه، ثم بعد ذلك قد يعلم بشرطه وقد لا يعلم، كما يدل الدليل على كونه فاعلاً بالاختيار، وشرط الفاعل بالاختيار أن يكون عالماً.
ثم إذا علم أنه فاعل
بالإرادة علم بعد ذلك أنه عالم، وقد يعلم العالم أنه مريد ولا يخطر بقلبه أنه عالم، فليس كما من علم من البشر شيئاً علم لوازمه، لقصور علم البشر، بخلاف علم الخالق الذي علمه تام، فلا يعلم الملزوم إلا ويعلم لازمه كما تقدم.
وإذا كان كذلك، فالصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا، من الطريق الدال على كونه عالماً بالمخلوقات، فإنها طريق صحيحة لا تتوقف على ما ذكروه.
ولكن يقال له: هذه الطريق تستلزم كونه مريداً، فإثباتك لفاعل عالم بمفعولاته بدون الإرادة تناقض.
وموجب الدليل شيء، وفساد الدليل شيء آخر.
فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب، دون القدح في دليله الصحيح.
وأما ما ذكره عن إخوانه المنازعين له في العلم، حيث قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل بالطبع والاضطرار، لا من حيث إنه عالم بها.
وقوله: فما المحيل لهذا المذهب، مهما وافقهم على نفي الإرادة؟.
فيقال له: المحيل لهذا المذهب ما تقدم من أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته.
والكلام في هذا المقام بعد تقرير أنه عالم نفسه.
فمن قال: إنه عالم بنفسه دون مخلوقاته، كان قوله باطلاً.
وأما تقرير كونه عالماً بنفسه، فهذا مذكور في موضعه.
وبهذا يظهر الجواب عن الفاعل بالطبع، كالنار والماء، فإن ذاك إنما قيل: ليس بعالم بفعله، لكونه ليس عالماً بنفسه.
ولم يقل عاقل: إن ذلك الفاعل عالم بنفسه دون فعله، كما لم يقل عاقل: إنه عالم بفعله دون نفسه، إذ كان العلم بكل منهما يستلزم العلم بالآخر.
وأما تمثيل ذلك بنور الشمس، فعنه جوابان.
أحدهما: أن الشمس علة تامة فاعلة للنور.
بل هي شرط في فيضانه، وفيضانه مشروط بوجود جسم ينعكس عليه شعاعها، والأول سبحانه هو وحدة مبدع لكل ما سواه.
الثاني: أن الشمس إن قيل: إنها عالمة بنفسها، وقيل مع ذلك: إنها مبدعة للشعاع، لم نسلم أنها لا تعلم الشعاع، لكن الشأن في تينك المقدمتين.
وأما قوله: مهما وافقهم لازم له.
فيقال: بل الصواب أن يقال: إثباتك العلم مع نفي الإرادة تناقض يلزمه منه خطؤك: إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة.
وحينئذ فيقال: هؤلاء نفوا العلم والإرادة، وأنت أثبت العلم دون الإرادة، وهما متلازمان، فيلزم خطؤك: إما في إثبات العلم، وإما في نفي الإرادة.
وحينئذ فيقول: أدلتي المذكورة على ثبوت العلم صحيحة توجب
ثبوت العلم، وإذا كان ذلك مستلزماً للإرادة، كان خطئي في نفي الإرادة، فهذا هو الصواب، دون أن يقال: كما وافقتهم على الخطأ في نفي الإرادة، فوافقهم على الخطأ في نفي العلم.
وأما قوله في الوجه الثاني: إن فعل الله واحد، وهو المعلول الأول فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به.
فيقال: إذا ثبت أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته، وجميع الممكنات مفعولة، لزم أن يعلمها كلها.
وأما قولهم: إنه أول ما أبدع العقل الأول، فكلامهم في هذا خطأ في بيان فعله، لا خطأ في إثبات وجوب كونه عالماً بمفعولاته، ولا ريب أن قولهم في صدور الأفعال منه خطأ، لكن لا يلزم من الخطأ في ذلك الخطأ فيما به قررت كونه عالماً بمفعولاته.
ثم يقال: ولا يلزم أيضاً على أصلهم أنه لا يعلم إلا العقل الأول، بل يلزم علمه بكل شيء.
وذلك لأنهم تارة يقولون: صدر عنه عقل، وبتوسطه عقل ونفس وفلك، وتارة يجعلون الثاني صادراً عن الأول، وتارة يجعلون الأول شرطاً، وتارة يجعلونه مبدعاً للثاني.
ومنهم من يقول بلزوم جملة الفلك له.
وعلى كل تقدير فلا ريب أن علمه بالملزوم علماً تاماً يستلزم علمه باللازم.
وكذلك العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول، كما تقدم.
فأقصى ما يقدر أن الأول كان علة للثاني، فإذا كان عالماً بالأول علماً تاماً، لزم أن يعلم لوازمه، التي منها علمه بفعله للثاني، كما تقدم.
فعلى كل تقدير لا يكون قول من سلبه العلم خيراً من قول من أثبته.
وبهذا أجابه ابن رشد، فقال: الجواب عن هذا أن الفاعل الذي هو في غاية العلم يعلم ما صدر عما صدر منه، وما صدر من ذلك الصادر، إلى آخر ما صدر.
فإن كان الأول في غاية العلم، فيجب أن يكون عالماً بكل ما صدر عنه، بوساطة أو بغير وساطة.
وليس يلزم منه أن يكون علمه من جنس علمنا، لأن علمنا ناقص ومتأخر عن المعلوم.
ومن فر من شناعة القول بأنه لا يعلم إلا نفسك، فهو معذور في هذا الفرار.
وقوله: إن هذه الشناعة لازمة في مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدث العالم، فيجب ارتكابهما كما ارتكب سائر
الفلاسفة.
ولا بد من ترك الفلسفة، والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة.
فيقال: إذا كان هذا لازماً لمن نفي الإرادة والحدوث، فيجب إثبات الإرادة والحدوث.
فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، لا يجب إذا ترك بعض الحق أن يترك سائره، بل يجب الاعتراف به كله، وإلا فالاعتراف ببعضه خير من جحده كله.
وقد تقدم تحقيق الأمر في تلازم العلم والإرادة.
قال أبو حامد: ثم يقال: بم تنكر على من قال من الفلاسفة: إن ذلك يعني العلم ليس بزيادة شرف، فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد كمالاً، فإنه في ذاته قاصر، فشرف بالمعقولات إما ليطلع على مصالحه في العواقب في الدنيا والآخرة، وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقضة، وكذلك سائر المخلوقات.
وأما ذات الله فمستغنيه عن التكميل، بل لو قدر له علم يكمل به،
لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة.
وهذا كما قلت في السمع والبصر، وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان، فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه، وأن المتغيرات الداخلة في الزمان، المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفها الأول، لأن ذلك يوجب تغيراً في ذاته وتأثيراً.
ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان، بل هو كمال، وإنما النقصان من الحواس والحاجة إليها، ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به.
وكذلك العلم بالحوادث الجزئية: زعمتم أنه نقصان، فإذا كنا نعرف الحوادث كلها، وندرك المحسوسات كلها، والأول لا يعرف شيئاً من الجزئيات، ولا يدرك شيئاً من المحسوسات، ولا يكون ذلك نقصاناً، فالعلم بالكليات العقلية أيضاً يجوز أن يثبت لغيره، ولا يثبت له، ولا يكون فيه نقصان، وهذا لا مخرج عنه.
فيقال: هذا الكلام متوجه على سبيل الإلزام والمعارضة، يظهر به تناقض من أثبت له علماً بمعلوم دون آخر، كابن سينا وأمثاله، فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما فر منه فيما نفاه، فإن كان ذلك حقاً، فيلزم أن لا يعلم شيئاً ولا نفسه، وإن لم يكن حقاً، فيلزم أن يعلم كل شيء.
ولا ريب أن هذا هو الصواب، فهو يقول لهم: إن العلم: إن كان صفة كمال وشرف، فمعلوم أن علمه بكل شيء أكمل من علمه ببعض الأشياء، وإن لم يكن صفة كمال، فلا يثبت شيء منه.
واستشهد على ذلك بأنكم نفيتم عنه السمع والبصر والعلم بالمتغيرات، فإن كان نفي ذلك نقصاً، فقد وصفتموه بالنقص، وإن لم يكن نقصاً، لم يكن نفي غيره نقصاً.
وابن سينا يفرق بين علمه بالثابتات، وبين علمه بالمتغيرات، لئلا يلزم تغيره بتغير العلم.
وقد بين أبو حامد بعد هذا أنه لا محذور في علمه بالمتغيرات، بل يلزمه إثبات العلم بذلك، فإثبات العلم مطلقاً هو الواجب دون نفيه، وكل ما لزم من إثبات العلم، فلا محذور فيه أصلاً، بل غايته ترجع إلى مسألة نفي الصفات والأفعال والاختيارات، فليس لهم في نفي العلم إلا ما ينشأ عن هذين السلبين.
وقد بين فساد قول النفاة للصفات والأمور القائمة بذاته الاختياريات.
وإذا كان علمه سبحانه بكل شيء مستلزماً لثبوت هذين الأصلين، كان ذلك مما يدل على صحتهما، كما دل على ذلك
سائر الأدلة الشرعية والعقلية، فإن ثبوت العلم بكل شيء، مما هو معلوم بالاضطرار من دين المرسلين، ومما هو ثابت بقواطع البراهين.
فإذا كان مستلزماً لإبطال هذين الأصلين، اللذين هما من البدع التي أحدثها الجهمية، كان هذا من الأدلة الدالة على اتفاق الحق وتناسبه، وتصديق ما جاء به الرسول، وموافقته لصريح العقل، وأنه لا اختلاف فيما جاء من عند الله، بخلاف الأقوال المخالفة لذلك، فإنها كلها متناقضة.
وتدبر حجج النفاة، فإنها كلها من أسقط الحجج، كالقول الذي يقوله بعض الفلاسفة: إن العلم ليس بزيادة شرف، فلا يكون من يعلم أشرف ممن لا يعلم، ويقول: إنه إذا كان عالماً فقد جعل ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره.
أما الأول فمن القضايا البديهية المستقرة في الفطر: أن الذي يعلم أكمل من الذي لا يعلم، كما أن الذي يقدر أكمل من الذي لا يقدر.
ولهذا يذكر سبحانه هذه القضية بخطاب استفهام الإنكار الذي يبين أنها مستقرة في الفطر، وأن النافي لها قال قولاً منكراً في الفطرة.
كقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] ، فإنه يدل على أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، ويدل على أن التسوية منكرة في الفطر، تنكر على من سوى بينهما.
كقوله تعالى: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} [الأنعام: 143] .
وقوله: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] .
وقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] .
وقوله: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148] .
وقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] .
وقوله: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى} [يونس: 35] .
وكما أنه سبحانه في القرآن يبين أن العالم القادر الذي يخلق ويأمر بالعدل أكمل من غيره، وأن هذا التفضيل مستقر في الفطر، والتسوية من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها، وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها، فكذلك يبين أن العادم لصفات الكمال ناقص،
لا يمكن أن يكون رباً ولا معبوداً، ويبين أن العلم بذلك فطري مستقر في القلوب.
كقوله تعالى عن الخليل: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] .
وقوله تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} [الأعراف: 148] .
وقوله: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه: 89] .
وقوله: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20-21] .
وقوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] .
وقوله عن الخليل: {أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95-96] .
وقوله أيضاً: {هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 72-73] .
وقوله: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} [الأنبياء: 66-67] .
وأمثال ذلك كثير.
والمقصود هنا أن كون العلم صفة كمال، وكون العالم أكمل من الذي لا يعلم، كون عدم العلم نقصاً- هو من أبين القضايا البديهية المستقرة في فطر بني آدم.
وأما قول القائل: إن العلم إنما احتاج إليه غير الله ليستفيد كمالاً: إما ليطلع على مصالحه، وإما لتكميل ذاته المظلمة.
فيقال له: هذا بعينه دليل على أن الذوات لا تكمل إلا بالعلم، من جهة أنها لا تقدر أن تفعل ما تصلح إلا به، ومن جهة أنها بدونه مظلمة.
والرب فاعل لكل شيء، وفاعل لكل فاعل، فهو أحق بأن يكون عالماً من كل فاعل، وذاته أكمل الذوات، فهي أحق بأن يكون لها غاية الكمال، وأن تكون برية من كل نص.
وقول القائل: ذات الله مستغنية عن التكميل.
كلمة حق، فإنه مستغنية عن أن يكملها أحد سواها، لكن ما هي ذات الله المستغنية عن التكميل: أهي ذات مسلوبة العلم وغيره من صفات الكمال، فلا تعلم ولا تسمع ولا تبصر؟ أم هي الذات المتصفة بهذه الصفات؟.
أما الأول، فلا حقيقة لتلك الذات ولا وجود لها، فضلاً عن أن يقال: ذات الله، فإن ذاتاً لا تتصف بشيء من الصفات، إنما تعقل في الأذهان لا في الأعيان، وذاتاً لا تتصف بصفات الكمال
ليست خالق المخلوقات ولا وجود لها، ولو قدر وجودها فهي من أنقص الذوات، بل كل حيوان أكمل منها، فإنا نعلم بصريح المعقول أن الحي أكمل مما ليس بحي، والعالم أكمل مما ليس بعالم، والقادر أكمل مما ليس بقادر.
وقول القائل: لو قدر له ما يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة قول باطل من وجوه.
أحدها: أن ذاته المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، أو نقول: لا نعلم ثبوتها، أو نعلم أن الذات المجردة عن الكمال معدومة.
ولفظ ذات لفظ مولد، وهو تأنيث ذو، ومعنى ذات: أي ذات علم، وذات قدرة، وذات حياة.
فتقدير ذات بلا صفات، تقدير المضاف المستلزم للإضافة بدون الإضافة.
ولهذا أنكر طائفة من أهل العربية كابن برهان والجوليقي النطق بهذا اللفظ، وقالوا: هذا مؤنث، والرب لا يجري عليه إسم مؤنث، ولكن الذين أطلقوه عنوا به نفسا ذات علم، أو حقيقة ذات علم.
وفي الجملة فتقدير الذات ذاتاً مجردة عن الصفات، هو الذي أوقعه في هذه الخيالات الفاسدة.
وقوله: الذات من حيث ذاته: إن أراد به أن الذات من حيث هي لا صفة لها، فهذه لا وجود لها، فصلاً عن أن تكون كاملة.
وإن أراد من حيث حقيقتها الموجودة، فهي من تلك الجهة لا تكون إلا متصفة بصفات الكمال.
قوله: وهذا كما قلت في السمع والبصر والعلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان، فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه إلى قوله: وهذا لا مخرج منه.
فيقال: لا ريب أنه لا مخرج لابن سينا من هذا الإلزام، فإنه إذا لم يكن عنده عدم العلم بالجزئيات نقصاً، كذلك عدم العلم بالكليات.
وإن قال: عدم علمه بها كمال، أمكن منازعوه أن يقولوا: نفي علمه بالثابتات كمال.
وإذا قال: أنا نفيت عنه، لأن إثباته يفضي إلى التغير.
قالوا له: ونحن نفينا ذاك لأنه يفضي إلى التكثر.
فإذا قال: ذاك التكثر ليس بممتنع.
قيل له: وهذا التغير ليس بممتنع.
وذاك أنه جعل التكثر في الإضافات، فإن كان هذا حقاً، أمكن أن يقال بالتغير في نفس الإضافات.