الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام الطوسي في شرح كلام ابن سينا
قال الطوسي في شرح هذا الفصل: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي ذاتي، أشار إلى إحاطته بجميع الموجودات.
فذكر أنه يعقل ذاته بذاته، لكونه عاقلاً لذاته، معقولاً لذاته، على ما تحقق قبل ذلك، ويعقل ما بعده، يعني المعلول الأول، من حيث هو علة لما بعده.
والعلم التام بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول، فإن العلم بالعلة التامة لا يتم من غير العلم بكونها مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها.
وهذا العلم يتضمن العلم بلوازمها، التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها.
ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأول، من حيث وقوعها في سلسلة المعلولية النازلة من عنده، إما طولاً: كسلسلة المعلومات المترتبة المنتهية إليه في ذلك الترتيب.
أو عرضاً: كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه، لكنها تنتهي إليه من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه، وهو احتياج عرضي، تتساوى جميع آحاد السلسلة فيه، بالنسبة إليه تعالى.
قلت: أما قوله: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي إشارة إلى إحاطته بجميع الموجودات، فذكر أنه يعقل ذاته بذاته ويعقل ما بعده.
فيقال: علمه بذاته لا يمكن أن يكون فعلياً، وإنما يكون فعلياً علمه بخلقه.
فإن علمه له تأثير في فعل خلقه، وليس له تأثير في وجود نفسه، وهذا مما لا ينازع فيه عاقل فهمه، ولعله ما أراد إلا هذا.
فإن القدرية من أهل الكلام يقولون: العلم تابع للمعلوم، مطابق له، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة.
وكثير من المتفلسفة يقولون: علم الرب فعلي، وقد يجعلون نفس علمه إبداعه.
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر، وبينا أن العلم نوعان: علم العالم بما يريد أن يفعله، فهذا علم فعلي، هو شرط في وجود المعلوم، إذ وجود المعلوم بدونه ممتنع.
ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فعلمه فعلي لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار، لا باعتبار أن مجرد العلم هو الإبداع، من غير قدرة وإرادة، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة، فإن هذا باطل، كما قد بين في موضعه.
والقدرية عندهم أن الله يخلق أفعال العباد، فعلمه بها علم بأمر أجنبي منه، فلهذا لا يجعلون علمه بالمخلوقات فعلياً، لكن علمه بمخلوقاته لا ينازعون فيه.
وأما علم العالم بما ليس علمه به شرطاً في وجوده، كعلمنا بالله وملائكته وأنبيائه وسمواته وأرضه، فهذا علم تابع للمعلوم، مطابق له، ليس فعلياً بوجه من الوجوه.
وعلم الرب بنفسه من هذا الباب.
لكن إذا سمي علمياً انفعالياً فلا بأس، فإنه علم حادث.
وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة
لم يحدث، فليس انفعالياً بهذا الاعتبار، لكنه مطابق للمعلوم موافق له، فعلمه تابع لنفسه، ومخلوقاته تابعة لعلمه.
والمقصود هنا أنه إذا كان عالماً بنفسه لزم أن يكون عالماً بخلقه، وهذه قضية صحيحة، ويمكن تقريرها بطرق:
أحدها: أنه لا يكون عالماً بنفسه علماً تاماً إلا إذا كان عالماً بلوازمها، والخلق من لوازم مشيئته، التي هي من لوازم نفسه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته من لوازم نفسه.
والفلاسفة يعبرون عن أصلهم بقولهم: إنه علة تامة، والعلم بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول.
ومن سلم منهم أنه يفعل باختياره وسماه مع ذلك علة فالنزاع معه لفظي، والمعنى صحيح، فإنه حينئذ مع قدرته على الشيء إذا شاءه وجب وجوده، فما شاء كان، فهو بمشيئته وقدرته موجب لوجود ما شاءه، والعلم بالموجب التام يوجب العلم بموجبه.
وأما من لم يسلم أنه يفعل باختياره، فهذا القول باطل من جهة نفيه لاختياره، لا من جهة أن كونه فاعلاً يوجب العلم بالمفعول، فإذا قدر أنه فاعل على هذا الوجه، كان علمه بنفسه يوجب علمه بمفعولاته، لأن العلم بالموجب التام يوجب العلم بالموجب.
ففي الجملة لا يكون عالماً بنفسه إن لم يكن عالماً بلوازمها، وقدرته وإرادته من لوازمها، ومراده من لوازم الإرادة.
فالمفعولات لازمة
للإرادة اللازمة لذاته، ولازم اللازم لازم.
ومجرد النظر إلى كونه مستلزماً لمفعوله يوجب العلم.
مع قطع النظر عن توسط الإرادة، لكن هي ثابتة في نفس الأمر، وإن لم يستحضر المستدل ثبوتها.
وهذا الدليل يستقيم على أصول أهل السنة الذين يقولون: إرادته من صفاته التي هي من لوازم ذاته.
وأما القدرية الذين ينكرون قيام إرادة به فينفونها، أو يقولون: أحدث إرادة لا في محل، فهؤلاء لا يسلكون هذه الطريق.
وهذا الدليل مأخوذ من معنى قوله: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] .
ودلالة الآية تقرر بطريق ثان، وهو أن يقال: خلق الخالق مشروط بتصوره للمخلوق قبل أن يخلقه، فإن الخلق إنما يخلق بالإرادة، والإرادة مشروطة بالعلم، فإرادة ما لا يشعر به محال.
وإذا كان إنما يخلق بإرادته، وإنما يريد ما يصوره، لزم من ذلك أن يعلم كل ما خلقه.
وهذه الطريقة هي طريقة مشهورة لنظار المسلمين، والقرآن قد دل عليها، والعقل الصريح يدرك صحتها، وطرد هذه الدلالة على أصول أهل السنة أن من سوى الله لا يخلق شيئاً، لأنه لا يحيط علماً بجزيئات أفعاله، فلا يكون خالقاً لها، وإن كان شاعراً بها من بعض الوجوه، ومريداً لها من بعض الوجوه، فهو فاعل لها من ذلك الوجه.
وهذه الطريقة هي الطريقة التي سلكها الأشعري في كون العبد ليس خالقاً لفعل نفسه.
قال: لو كان خالقاً لها لكان محيطاً بتفاصيلها، واللازم منتف.
لكن الأشعري وطائفة فرضوا الكلام في العاقل الذي يفعل مع الغفلة.
وطائفة أخرى قالوا: لا يحتاج إلى فرض في العاقل، بل كل فاعل من الآدميين لا يحيط علماً بتفاصيل أفعاله، لكنه يشعر بها من حيث الجملة.
ولهذا كان العبد لا يريد شيئاً إلا بعد شعوره به، فهو يتصور المراد تصوراً مجملاً، وإن لم يكن مفصلاً.
وهذا مما علم به الناس أن الفاعل المريد لا بد أن يتصور المراد.
وإن لم تكن إرادتهم مثل إرادة الرب، ولا علمهم كعلمه، كما أنهم يعلمون أن العبد فاعل لأفعاله وإن لم يكن خالقاً لها.
وهذا القول الوسط، وهو إثبات كون الرب خالقاً لكل شيء، ومع كون أفعال العباد مخلوقة له، ومع كونها أفعالاً للعباد أيضاً، وأن قدرة العباد لها تأثير فيه، كتأثير الأسباب في مسبباتها، وأن الله خالق كل شيء بما خلقه من الأسباب، وليس شيء من الأسباب مستقلاً بالفعل، بل هو محتاج إلى أسباب أخر تعاونه، وإلى دفع موانع تعارضه، ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله كان وإن لم يشأ العباد، وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد.
وهذا الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها.
وليس المقصود هنا الكلام في مسائل القدر، وإنما المقصود الكلام في تحقيق علم الله.
الطريق الثالث الذي به نعلم أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته، أن يقال: كل ما كان من صفات الرب وأفعاله، فليس هو
موقوفاً على شيء سواه، فلا شريك له بوجه من الوجوه، فهو نفسه موجب تام لجميع صفاته، وهو بصفاته موجب لجميع مفعولاته، فإذا كان عالماً بنفسه، لم يكن أن يكون عالماً بذاته دون صفاته، فإن ذلك ليس علماً بنفسه، فإن الذات المجردة عن الصفات ليست ذاته، ولا وجود لها، وإذا علم صفاته لزم من ذلك علمه بأفعاله، وإلا لم يكن عالماً بصفاته، لأنه إذا علم أنه خالق للعالم، لم يعلم كونه خالقه، إن لم يعلم العالم، وإلا فالعلم بكونه خالقاً للعالم، مع عدم العلم بالعالم، بمنزلة كونه خالقاً للعالم بدون وجود العالم، وهذا ممتنع فذاك ممتنع.
ولو قدر نفي الصفات فالعلم بكونه خالقاً للعالم يوجب العلم بالعالم.
وهم يعبرون عن ذلك بكونه علةً ومبدأً، ونحو ذلك من العبارات التي يشترك فيها هم والمسلمون.
وكونه مبدعاً وفاعلاً، فالعلم بنفسه يوجب العلم بكونه فاعلاً، وإلا لم يكن عالماً بنفسه.
والعلم بكونه فاعلاً يوجب العلم بالمفعول، كما أن يحقق ذاته تحقق كونه فاعلاً، لأن وجود ذاته الفاعلة للعالم، بدون كونها فاعلة ممتنع، ووجود فعلها بدون العالم ممتنع.
وكون الفعل قديم العين أو النوع أو حادثهما مسألة أخرى، وكون العلم قديماً أو حادثاً، واحداً أو متعدداً، فالمقصود هنا إثبات أنه عالم بكل موجود، إذ كل موجود مفعوله، وهذا يتناول علمه بكل موجود، وكل موجود جزئي، فهو يقتضي علمه بكل جزئي.