الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة تقتضي لقاءً من الرافع للمرفوع إليه، وحضوراً من المرفوع عند الرافع، وكذلك من المنتزع عند المنتزع منه، والمجرد عند المجرد عنه.
فلولا نسبة لقاء وحضور، وما شئت سمه للنفس إلى البدن، لما كان آلة لها، وإلى المدركات لما أدركها، ولو لم يدركها لما عقلها كليةً ولا جزئية، وكيف والشيء المدرك واحد في معناه، والكلية تعرض له بعد كونه مدركاً باعتبار ونسبة وإضافة، بالمشابهة والمماثلة إلى كثيرين، وهو هو بعينه؟ وإذا اعتبر من حيث هو لم يكن كلياً ولا جزئياً، وإنما يدرك من حيث هو موجود، لا من حيث هو كلي ولا جزئي، وتعرض له الكلية والجزئية في الذهن بعد إدراكه، فمدرك الكلي هو مدرك الجزئي لا محالة، لأن الكلي هو الجزئي في ذاته ومعناه، لا في نسبه وإضافاته التي صار بها كلياً وجزئياً.
تعليق ابن تيمية
فيقال: ما ذكره أبو البركات يدل على تناقض ابن سينا، حيث زعم أنه ما ليس في مكان، لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه، وذكر أن الأمر في ذلك واضح سهل، فإن هذا مناقض لقوله: إن النفس ليست جسماً، مع أن الجسم حاضر عندها، لكن هذا التناقض يدل على بطلان أحد قوليه: إما قوله: إن النفس ليس جسماً، وإما قوله:
ما ليس في مكان لا يكون للمكان إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه.
ولا يلزم من ذلك أن تكون هذه القضية هي الكاذبة، بل قد تكون الكاذبة قوله: إن النفس ليس إلا جسماً.
ونظير هذا التناقض قوله: إن واجب الوجود يعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، فيعقل الموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها ويتوسط ذلك أشخاصها، فإنه إذا كان واجب الوجود يعقل الأفلاك بأعيانها وهي أجسام، وقد قال: إن الجسم لا يرتسم إلا في جسم لزم أن يكون جسماً.
ومع قوله: ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنده.
ومع قوله: الجسم الحاضر الموجود، إنما يكون حاضراً موجوداً عند جسم، وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم.
فهذه الأقوال إذا ضم بعضها إلى بعض، لزم أن يكون واجب الوجود على قوله جسماً، وأن تكون النفس على أقواله أيضاً جسماً.
وما ذكره أبو البركات إنما هو إلزام لابن سينا بطريق المناقضة، وليس فيه ما يدل على بطلان ما ذكره من الإدراك، وإنما احتج أبو البركات على بطلان ذلك بأن المدركات كبار، والمدرك إذا كان جسماً أو قوة في جسم فهو صغير لا يسعها.
وهذه حجة ضعيفة، فإن القائلين بارتسام المدرك في المدرك لا يقولون: إن المرتسم فيه مساو في المقدار للموجود في الخارج، كما أنهم لا يقولون: إن المرتسم حقيقته مساوية لحقيقة الموجود في الخارج.
وإنما هذا من جنس اعتراض الرازي عليهم، بأنه لو كان من أدرك النار وجب أن يسخن، ومن أدرك الثلج وجب أن يبرد، ومن أدرك الرحى وجب أن يدور، ونحو ذلك مما لا يقوله عاقل.
ولهذا صاروا يتعجبون، بل يسخرون ممن يورد عليهم مثل هذا، وهم يشبهون تمثل المدركات في المدرك بتمثل المرئيات في المرآة.
ومعلوم أن ما في المرآة ليس مماثلاً في الحقيقة والمقدار للموجود في الخارج.
أما حقيقته، فلأن غايته أن يكون عرضاً في المرآة، والمرئي الخارج يكون جسماً موجوداً، كالسماء والشمس والإنسان، وغير ذلك مما يرى في المرآة.
وكذلك الإدراك، فإنه عرض قائم بالمدرك.
والمدرك نفسه يكون عيناً قائمة بنفسها، سواء كان مرئياً أو معلوماً بالقلب.
وأما قدره، فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا
كانت كبيرة رئي كبيراً، وإذا كانت صغيرة رئي صغيراً، وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج.
فكذلك إذا قيل: إن المدرك يتمثل في المدرك، لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه.
ولهذا يقال: للشيء وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي اللسان، وفي البنان، ووجود عيني، وعلمي ولفظي، ورسمي.
ومعلوم أن مطابقة العلمي للعيني، هي مطابقة العلم للمعلوم، ليس كمطابقة الموجود في الخارج لمماثله الموجود في الخارج.
فإن هذا لا يقوله عاقل، بل العاقل يجد تفرقة ضرورية بين ما تمثله في نفسه، وبين الحقائق الموجودة في الخارج.
ومن أظهر ذلك الخيال، فإنه يتخيل ما رآه بعد مغيبه عنه، وفي حال تغميض عينيه ونومه، ويعلم قطعاً أنه خياله ومثاله، وأنه مشابه له، ويعلم قطعاً أن ذلك المثال في الباطن لا في الخارج، سواء قيل: إنه منطبع في النفس، أو في جزء من البدن، أو فيهما، وسواء قيل: إن النفس تدركه، أو قيل: إن المدرك له هو البدن.
فعلى كل تقدير يعلم الناس فرقاً ضرورياً بين حقيقة ذلك المثال، وبين حقيقة الموجود في الخارج، وأنه لا يماثله: لا في ذاته، ولا
صفاته، ولا مقداره، ولكن يشابهه ويحكيه نوع مشابهة وحكاية، والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار.
وهذا المثال الإدراكي لا يمتنع في اجتماع ما هما ضدان في الخارج، بل يجتمع فيه مثال السواد والبياض، ويجتمع فيه المثلان كالسوادين، ويجتمع فيه مثال وجود الشيء وعدمه، فيجتمع فيه تقدير الوجود والعدم، لا يمتنع فيه اجتماع مثالي النقيضين، كما امتنع اجتماع النقيضين في الخارج، ويتمثل فيه الموجود والمعدوم والممتنع، وما له وجود في الخارج، وما ليس وجود في الخارج.
فهو أوسع بهذا الاعتبار من الوجود الخارجي.
لكن تلك الأمور مثل خيالية، ليست حقائق موجوده في أنفسها.
وقد يشتبه على بعض الناس ما يتخيله فيه، فيظنه موجوداً في الخارج، وطائفة من فلاسفة الصوفية، كابن عربي، يسمي هذا أرض الحقيقة، ويذكر فيه من العوالم وأنواعها وأقدارها ما يطول وصفه.
وذلك أن الخيال لا حد له، بل تخيلات النفوس لما ليس له وجود في الخارج، أعظم من أن تحصر.
فهؤلاء الضالون قالوا: هذا أرض الحقيقة، وهو عالم الخيال.
وقد يشتبه على بعضهم فيظنه في الخارج، ويتخيل لهم فيه مدائن ورجال عوالم، كما يتخيل للنائم.
ويتخيل لأحدهم أنه صار إلهاً ونبياً، أو أنه المهدي، أو خاتم الأولياء، غلى غير ذلك مما يطول
وصفه، ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه.
ومن قال من المتفلسفة: إن النفس ليست جسماً، وأنكر معاد البدن، فمنهم من يقول: إن من النفوس من يتعلق بجزء من الفلك، فيتخيل فيه ما يتنعم فيه تنعماً خيالياً، وأن ذلك يقوم مقام اللذة الحسية، وقد يقال: إنه أعظم منها، كما ذكر ذلك ابن سينا.
فقول هؤلاء من جنس حقيقة أولئك الذي جعلوا عالم الخيال هو أرض الحقيقة.
ونحن لا ننكر وجود الخيالات، فإن هذا لا ينكره عاقل، لكن ننكر تعظيمها وتسويتها بالذات الحقيقية، أو أن ما وعد الله به عباده المؤمنين من هذا الجنس.
والمقصود هنا أن الصور الخيالية لا ينكرها أحد، ولا يقول أحد: إنها مماثلة في الحقيقة والصفات والمقدار للموجودات في الأعيان، سواء كانت تلك الخيالات هو خيال تلك الموجودات أو غيرها.
فقد تبين أن ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة وقرروه بالأدلة العقلية، ليس منافياً لعلم الله بالجزئيات، بل فيه ما هو دليل على ذلك.
ولكن غاية ما فيه تناقضهم، حيث يثبتون الشيء دون لوازمه، كما أثبت ابن سينا علمه بأعيان الموجودات التامة، وبأنواع المتغيرات دون التغير في العلم.