المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ١٠

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل. باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

- ‌نقل ابن ملكا لكلام ابن سينا في النجاة

- ‌كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌كلام الرازي في "شرح الإشارات

- ‌كلام الآمدي

- ‌كلام الطوسي في "شرح الإشارات

- ‌الرد على كلام الطوسي من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌الوجه السابع عشر

- ‌الوجه الثامن عشر

- ‌الوجه التاسع عشر

- ‌الوجه العشرون

- ‌كلام السهرودي في حكمة الإشراق

- ‌الرد عليه

- ‌فصل. تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى

- ‌معارضة ابن ملكا لابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل. عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى

- ‌كلام الطوسي في شرح كلام ابن سينا

- ‌اعتراض الرازي على ابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في تهافت التهافت وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام الطوسي في شرح الإشارات ورد ابن تيمية عليه

- ‌رد الغزالي على الفلاسفة في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفة الإرادة ورد ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه

- ‌تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفتي السمع والبصر ورد ابن تيمية

- ‌رد ابن رشد على أقوال الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الصفات ورد ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن التنزيه ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في تهافت التهافت في نفي الصفات ورد ابن تيمية عليه

- ‌عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية

- ‌عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية

- ‌عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية

الفصل: ‌عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية

المجملة المبتدعة لا يثبتونها ولا ينفونها إلا بتبيان معانيها، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان مخالفاً لذلك نفوه، فلا يطلقون: هو جسم ولا جوهر، ولا يقولون: ليس بجسم ولا جوهر، كما لا يطلقون إثبات لفظ الحيز ولا ينفونه.

وأما قول هذا القائل: فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجوداً ليس بجسم، ولا أيضاً خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية، وهذه هي حال جمهور الناس.

فهذا كلام متناقض، فإنه إذا كان أكثر الناس لا يقدرون أن يتصوروا موجوداً ليس بجسم، فإنهم قطعاً تتطرق أذهانهم - عند سماع هذه الأمور- إلى إثبات الجسمية.

فقوله بعد ذلك: إن الذين يتطرق إلى أذهانهم من ذلك إثبات الجسمية قليل من الناس يناقض ما تقدم.

‌عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية

قال: وقد كان الواجب عندي في هذه الصفة قبل أن تصرح الفرق الضالة بإثباتها يجرى فيها على منهاج الشرع، ولا يصرح فيها بنفي ولا إثبات، ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] .

ص: 259

وينهى عن هذا السؤال.

وذلك لثلاثة معان: أحدها: أن إدراك هذا المعنى -أعني أنه ليس بجسم الذي هو الحق، ليس قريباً من المعروف بنفسه برتبة واحدة، ولا رتبتين، ولا ثلاث.

وأنت تتبين ذلك من الطرق التي سلكها المتكلمون في ذلك، فإنهم قالوا: إن الدليل على أنه ليس بجسم: أنه قد تبين أن كل جسم محدث، وإذا سئلوا عن الطريق التي يوقف منها على أن كل جسم محدث، سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرنا من حدوث الأعراض، وأنا ما لا يعرى عن الحوادث حادث، وقد تبين لك من قولنا أن هذه الطريقة ليس برهانية، ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها، فإن ما يضعه هؤلاء القوم من أنه سبحانه ذات وصفات زائدة على الذات، يوجبون بذلك أنه جسم، أكثر مما ينفون عنه الجسمية بدليل انتفاء الحدوث عنه، فهذا

ص: 260

هو السبب الأول في أن لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم بين.

قال: فلذلك أضرب الإمام المهدي عن هذا الدليل، إذ كان لا يرضى الخواص ولا يقنع الجمهور، وسلك طريقاً عجيباً مشتركاً للصنفين جميعاً.

وهذا من خواصه في العلم، لا يعلم أحد ممن سلكه قبل ذلك، وهو طريق إثبات المثلية بين الأجسام، التي هي المساواة في جميع الخواص، فخاصة في تماثل قوتها في التناهي، أعني كل جسم قوته متناهية، وفي تماثلها في التركيب، وذلك أن من هاتين الجهتين افتقرت الأجسام إلى الفاعل.

أما افتقارها من جهة التركيب، فلأن كل مركب جائز، وكل جائز مفتقر إلى الفاعل.

وأما افتقارها إلى الفاعل من جهة تناهي قوتها، فلأن كل متناهي القوة، إن لم يقدر الفاعل الموت له تناهت قوته وفسد، ولم يمكن فيه أن يبقى طرفة عين.

وهو معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، فأنى بهذا الترياق الأعظم لهذا الداء العضال!.

قلت: ولقائل أن يقول: إن كان هذا المعلوم حقاً، فيمتنع أنه لم يعلمه أحد قبل ابن التومرت ممن هو أعلم بالله وأفضل منه.

وإذا كانت تلك الطريق باطلة، وهذا هو الطريق ولم يسلكه غيره، فلا يعلمه أحد قبله.

وهكذا كل من سلك طريقاً في النفي زعم أنه لم يسلكه غيره، فإنه يوجب أن ذلك لم يعلم قبله، فلا يكون من تقدم من خيار هذه الأمة

ص: 261

معتقدين لهذا النفي، ولو كان حقاً لاعتقدوه، فما ذكره من المدح يعود بنقيض مقصوده.

وأيضاً فيقال: القول بتماثل الأجسام والاستدلال بذلك طريق معروفة سلكها المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.

والأشعري في كتاب الإبانة يقتضي كلامه أنه خالفهم فيها، فليست طريقاً غريبة.

وأيضاً فإنه لم يذكر دليلاً على تماثلها أصلاً.

وأما ما ذكره من التركيب وتناهي القوة، فإن صح كان دليلاً بنفسه.

فإنه سبحانه غني عن كل ما سواه، فلا يجوز أن يفتقر إلى فاعل بالضرورة باتفاق العقلاء.

وأيضاً فإنه لم يذكر دليلاً على تركيب الجسم وتناهي قوته.

والمنازع ينفي كلاً من الأمرين، كما قد ذكر في موضعه.

وأعجب من ذلك تفسير قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، بهذا المعنى، فإن فساد هذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

قال: وأما السبب الثاني، فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم.

فإذا قيل لهم: إن ها هنا موجوداً ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل، فصار عندهم من قبيل المعدوم، ولا سيما إذا قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا أسفل.

ولهذا اعتقدت الطائفة التي

ص: 262

أثبتت الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنه ملشية واعتقدت التي نفتها في المثبتة أنها مكثرة.

قال: وأما السبب الثالث فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية، عرضت من الشرع شكوك كثيرة مما يقال في المعاد وغير ذلك.

فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها -أعني الجسمية- فرقتان: المعتزلة والأشعرية.

فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى نفي الرؤية.

وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين، فعسر ذلك عليهم، ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية سنرشد إلى الوهن الذي فيها عند الكلام في الرؤية.

ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة في بادي الرأي عن الخالق سبحانه أنه ليس بجسم، فترجع الشريعة متشابهة.

وذلك أن بعث الأنبياء انبنى على

ص: 263

أن الوحي نازل عليهم من السماء، وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه، أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء.

كما قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] ، وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء.

وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال تعالى:{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]، وقال تعالى:{تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] .

وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة، على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة.

ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية وجب التصريح بنفي الحركة، وإذا صرح بنفي هذا عسر تصور ما جاء في صفة الحشر من أن الباري سبحانه يطلع إلى أهل الحشر، وأنه الذي يلي حسابهم كما قال تبارك وتعالى:{وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] .

ص: 264

وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور، وإن كان التأويل أقرب إليه منه إلى أمر الحشر، مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع.

فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها.

وأما إذا أولت، فإنه يعود الأمر فيها إلى أحد أمرين: إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه في الشريعة، فتموت الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها.

وإما أن يقال في هذه كلها: إنها من المتشابهات، فيعود الشرع كله من المتشابه، مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء كلها تجدها غير برهانية، بل الظواهر الشرعية أقنع منها، أعني أن التصديق بها أكثر.

وأنت تتبين ذلك من قولنا في البرهان الله تعالى بنوا عليه نفي الجسمية، وكذلك تتبين ذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة، على ما سنقوله بعد.

ص: 265

قال: وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور، أنه لمكان انتفاء هذه الصفة عن النفس، أعني الجسمية، لم يصرح الشرع للجمهور بما هي النفس، فقال في الكتاب العزيز:{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85] ، وذلك أنه يعسر قيام البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم، ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور لاكتفى بذلك الخليل في محاجة الكافر حين قال له:{ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] الآية، لأنه كان يكتفي بأن يقول له: أنت جسم، والله تعالى ليس بجسم، لأن كل جسم محدث، كما يقول الأشعرية.

وكذلك كان يكتفي بذلك موسى عليه السلام عند محاجة فرعون في دعوى الإلهية.

وكذلك كان يكتفي المصطفى صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال في إرشاد المؤمنين إلى كذب ما يدعيه من الربوبية من

ص: 266

أنه جسم والله تعالى ليس بجسم.

بل قال عليه السلام: إن ربكم ليس بأعور، واكتفى بالدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة.

التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه.

وكذلك كان يكتفي بنفي الجسمية في عجل بني إسرائيل.

فهذه كلها -كما تراه- بدع حادثة في الإسلام، هي السبب فيما عرض فيه من الفرق التي أنبأ المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه ستفترق أمته إليها.

فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا في جواب ما هو؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان، وليس يقدر أن ينفك عنه.

ولذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به: لا ماهية له، لأن ما لا ماهية له لا ذات له.

قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم:

ص: 267

إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فقال تعالى:{الله نور السماوات والأرض مثل نوره} الآية [النور: 35]، وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه فإذا جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه.

وفي حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى غشي السدرة من النور ما حجب بصره من النظر إليها أو إليه.

ص: 268

وفي كتاب مسلم: إن لله حجاباً من نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره.

قال: وفي بعض روايات الحديث: سبعين حجاباً من نور.

فينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الإفهام، مع أنه ليس بجسم، والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير المحسوس.

والنور لما كان هو أشرف المحسوسات، وجب أن يمثل لهم به أشرف الموجودات.

ص: 269

فيقال: هذا الرجل يرى رأي ابن سينا ونحوه من المتفلسفة والباطنية، الذين يقولون: إن الرسل أظهرت للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك، إذ كانت الحقيقة لو أظهرت لهم لما فهم منها إلا التعطيل، فخيلوا ومثلوا لهم ما يناسب الحقيقة نوع مناسبة، على وجه ينتفعون به.

وأبو حامد في مواضع يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في إلجام العوام والتفرقة بين الإيمان والزندقة مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها، مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علماً ينبغي للعلماء معرفته، وإنما المورث عندهم للعلم الحقيقي هم الجهمية والدهرية، ونحوهم من حزب التعطيل والجحود.

وما ذكره هذا في النور أخذه من مشكاة أبي حامد وقد دخل معهم في هذا طوائف ممن راج عليهم هذا الإلحاد في أسماء الله وآياته، من أعيان الفقهاء والعباد.

وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك، وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليلون في السلف.

ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن، وشارحي الحديث، ومصنفي العقائد النافية والكلام، وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر.

وقوله في النور: إنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه وكذلك

ص: 270

الأفهام، مع أنه ليس بجسم تناقض من وجهين: أحدهما: أن المحسوس الذي يحسه الناس ليس إلا جسماً أو عرضاً في جسم.

والثاني: أن النور الذي يعرفونه ليس إلا جسماً أو عرضاً في جسم، وذلك كنور المصابيح ونحوها.

فإنه إما أن يراد به نفس النور الخارج من ذبالة المصباح فذلك نار، والنار جسم.

وإما أن يراد به ما يصير على ما يلاقيه من الأرض والجدران والهواء من الضوء، فذلك عرض قائم بغيره.

وكذلك الشمس والقمر، إن أريد بالنور نفس ذات واحد منهما، كقوله:{جعل الشمس ضياء والقمر نورا} [يونس: 5] ، فالقمر جسم.

وإن أريد بالنور ما على الأرض والهواء من ضوء ذلك، فذلك عرض، فلا يعرف الناس نوراً إلا هذا وهذا.

وأيضاً فإذا كان السؤال بما هو طبيعي للإنسان لا يقدر أن ينفك عنه، ولا يقنع الإقناع في جواب هذا السؤال بعد الاعتراف بوجود المسؤول عنه، بأن يقال: لا ماهية له لأن ما لا ماهية له لا ذات له، فلا يقع الإقناع بجواب ليس مطابقاً للحقيقة.

وبتقدير أن لا يكون هو في نفسه نوراً، يكون الجواب غير مطابق للحقيقة.

وحينئذ فالجواب المطابق للحق، مع الإعراض عن ذكر الحقيقة، أحسن من هذا، كما تقوله طائفة من الناس في جواب موسى لفرعون لما سأله بقوله: {وما رب العالمين * قال رب السماوات

ص: 271

والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء 23-24] .

قالوا: لما سأله عن الماهية، والمسؤول عنه لا ماهية له، عدل إلى ما يصلح الجواب به.

فقول هؤلاء، مع أنه خطأ، أقرب من أن يجاب عن الماهية بما ليس مطابقاً للحق.

وإنما كان قول هؤلاء خطأ، لأن فرعون لم يسأل موسى سؤال مستفهم طالب للعلم بماهية المسؤول عنه، حتى يجاب جواب المستفهم السائل، كما ذكره الناس في جواب السؤال بما هو.

ولكن هذا استفهام إنكار ونفي وجحود للمسؤول عنه، فإن فرعون كان مظهراً لجحد الصانع.

ولهذا قال: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، وقال:{أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24]، وقال:{يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 36-37] ، تكلم بما هو جحد ونفي وإنكار لمسمى رب العالمين.

فقال: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] .

كما لو ادعى على أحد مدع أن هذا ولدك أو شريكك في المال، أو أعطاك هذا المال، ونحو ذلك.

فقال: من هو ولدي؟ ومن هو شريكي؟ ومن هو الذي أعطاني؟ فإنه يقول ذلك على سبيل الإنكار والجحد، لا على سبيل الاستعلام والاستفهام.

فإذا كان منكراً للحق أجيب بما يقيم الحجة عليه، فيقال له: هذا الذي ولدته امرأتك فلانة، أو الذي اشتريت أنت وهو المال الفلاني، أو هو

ص: 272

الذي أقررت له بذلك، وأشهدت به عليك فلاناً وفلاناً، ونحو ذلك.

ولهذا أجابه موسى بما فيه تقرير لما أنكره وتثبيت له، فقال:{رب السماوات والأرض وما بينهما} [الشعراء: 24]، وقال {ربكم ورب آبائكم الأولين} [الشعراء: 26] ، وذلك لأن العلم بثبوت هذا الرب أمر مستقر في الفطر، مغروز في القلوب.

يبين هذا أن السؤال عن ماهية الشيء الثابتة في الخارج يكون بعد الاعتراف بوجوده.

أما ما يكون مجحوداً منتفياً في نفس الأمر، فلا ماهية له في الخارج حتى يسأل عنها، ولكن قد يسأل المسؤول عن تصوير ما يقوله، وإن لم تكن له حقيقته في الخارج.

أما إذا ادعى شيئاً في الخارج، والمدعي ينكر وجوده، فإنه لا يطلب منه أن يعرفه ماهية ما لا حقيقة له، بل يسأله على طريق إنكار ذلك، لا على طريق الاستعلام عن ذلك.

وإذا كان المسؤول عنه مما لا وجود له طولب بتمييزه وتعريفه، حتى يبين له أنه لا وجود له، وأنك تدعي ثبوت ما ليس بثابت، كما يقال لمن يدعي أن هنا جبلاً من ياقوت أو بحراً من زئبق، أين هو؟ وكيف هو؟ وكما يقال لمن يدعي وجود المنتظر المعصوم الداخل إلى سرداب سامراً: بماذا يعرف؟ وكم كان عمره حين دخل؟ وماذا الذي يمنعه من الظهور؟ ونحو ذلك من المسائل التي يبين بها عدم المسؤول عنه، أو عدم ما أثبته المسؤول له.

ص: 273

وهذا في القرآن كثير، كقوله تعالى:{ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} [الأعراف: 195] .

وقوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] .

وقوله: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم: 19-21]

ومنه قولهم: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41] .

وقول الكفار: {أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون} [الصافات: 16-17] .

وإذا كان المسؤول عنه موجوداً، كان الجواب بما يدل على وجوده.

فلهذا أجاب موسى للمنكرين بما يدل على إثبات الصانع سبحانه، فإن افتقار السماوات والأرض وما بينهما، والمشرق والمغرب، والموجودين وآثارهم، إلى الصانع، واستقرار ذلك في فطرهم -أمر لا يمكن إنكاره إلا عناداً.

كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14] .

وذكر موسى عليه السلام السماوات والأرض، والليل والنهار، والأولين والآخرين، فذكر الأعلى والأسفل، والمتيامن والمتياسر، والمتقدم والمتأخر.

وهذه هي الجهات الست للإنسان، وذكر التقدم

ص: 274

والتأخر بالزمان، بعد أن ذكر التقدم والتأخر بالمكان، فإن المكان دخل في السماوات والأرض، والمشرق والمغرب.

وذكر موسى خلق الإنسان، بعد أن ذكر الخلق العام.

كما في قوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق} [العلق: 1-2] .

وكما في قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53] .

فإذا كان المسؤول عنه بما هو، لا بد أن تكون له ذات هي ماهيته، كان الجواب عنها بما يمكن من التعريف، فإن أمكن أن يعرف بعينه قيل: هذا هو، أو هو فلان ابن فلان، ونحو ذلك مما يميزه عند السائل، ويوجب معرفته بعينه بالإحساس، لكن معرفة عينه لم تحصل هنا بمجرد كلام المتكلم، بل بالإحساس به، وإن لم يمكن معرفته بعينه عرف بنظيره، ولا يكون له نظير من كل وجه، فإنه لو كان نظير من كل وجه، لم يكن المجهول إلا عينه.

وإذا كان المطلوب معرفة عينه لم يحصل الجواب بالنظير، وإنما يعرف بالنظير نوعه، فلا يجاب بالنظير، إلا إذا كان السؤال عن معرفة نوعه.

وحينئذ فتحصل المعرفة به بحسب مماثلة ذلك النظير له، لأجل القدر المشترك الذي بين المتماثلين.

كمن سئل عن الخمر، فقال: شراب مسكر فلا بد أن يكون السائل يعرف الشرب ويعرف السكر، ولكن لم يعرف نوع سكر الخمر، بل عرف مثلاً سكر الغضب والعشق والحزن، وعرف زوال العقل

ص: 275

بالجنون والبنج، فلو سأل عن السكر، قيل له: لذة مع زوال الحزن.

فقولنا: لذة، يخرج سكر الغضب والحزن، فإنه ألم، بخلاف سكر العشق.

ولكن ليس هذا مثل هذا، فلا يمكن تعريفه ذلك إلا بالقدر المشترك بين هذه اللذة وسائر اللذات، وبالقدر المشترك بين زوال العقل بهذا السبب وغيره من الأسباب.

ثم إذا انضم إلى ذلك أنه شراب يميز المسؤول عنه عن غيره.

ولهذا كان حقيقة الأمر أن الحدود المقولة في جواب ما هو إنما يحصل التمييز بين المحدود وغيره.

وأما نفس تصور حقيقته، فذاك لا يحصل بالقول والكلام، لا على وجه التحديد ولا غيره، بل بإدراك النفس المحدودة.

فالسائل إذ سأل عن الرب ما هو، أمكن أن يجاب بأجوبة تميزه عما سواه سبحانه، بحيث لا يشركه غيره في الجواب، ويمكن أن يذكر من الأمور المشتركة بحسب إدراك السائل ما يحصل به من المعرفة ما يشاء الله.

وأما معرفة كنه الذات، فذاك لا يمكن بمجرد الكلام، ليس لأنه لا كنه لها، لكن لأن تعريف كنه الأمور لا يمكن بمجرد العبارات.

فإذا قيل: هو نور، لم يمنع هذا أن تكون حقيقته نوراً.

كما إذا قيل: هو حي، أو عالم أو قادر، أو موجود.

لكن ليس هو مثل شيء من الأنوار المخلوقة، كما أنه ليس مثل شيء من الأحياء العالمين المخلوقين، ولا شيء من الموجودات المخلوقة.

ص: 276

ولكن لولا القدر المشترك لما كان في الكلام فائدة.

ثم القدر المميز يحصل بالإضافة، فيعلم أنه نور ليس كالأنوار، موجود ليس كالموجودين، حي لا كالأحياء.

وهذا الجواب هو جواب أهل التحقيق من المثبتين الذين ينفون علم العباد بماهيته وكيفيته، ويقولون: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال.

ويقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.

ويقولون: حجب الخلق عن معرفة ماهيته، ونحو ذلك.

وأما من نفى ثبوت هذه الأمور في نفس الأمر، فقال: لا ماهية له فتجري في مقال، ولا كيفية له فتخطر ببال.

كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة، ومن اتبعهم من الأشعرية، وغيرهم من أصحاب الفقهاء الأربعة- فهؤلاء هم الذين خرجوا عن الجواب الطبيعي، وأرادوا تغيير الفطرة الإنسانية، كما غيروا النصوص الشرعية.

وإنما الكمال بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة.

والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها.

ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يجاب عن سؤال السائل بما هو، بما يجاب إذا سئل عن الأنواع، فإن الله لا مثل له سبحانه.

وإذا كان المخلوق الذي انحصر نوعه في شخصه، كالشمس مثلاً لا يمكن ذلك فيها، فالخالق سبحانه أولى بذلك.

وإذا كان تعريف عين الشيء لا يمكن إلا بمعرفته أو معرفة نظيره،

ص: 277

والله لا نظير له، امتنع أن يعرف إلا بما تعرف به الأعيان من المعارف الخاصة بالمعروف باطناً وظاهراً، كما يهدي إليه به عباده المؤمنين من الإيمان به في الدنيا، وكما يتجلى لهم في الدار الآخرة.

وهذه المعرفة تطابق ما سمعوه، مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيتطابق الإيمان والقرآن، ويتوافق البرهان والعيان.

والله سبحانه فطر عباده على الإقرار به فطرة تختص به، ليست كلية مشتركة بينه وبين غيره، كما جعل في الإبصار قوة ترى بها الشمس بخصوصها، لا تعرف الشمس معرفة مشتركة.

كما يقال في حدها: كوكب يطلع نهاراً.

بل معرفة الناس للشمس أعظم من معرفتهم لغيرها من أعيان الكواكب ولنوع الكواكب، لو كانت الشمس من نوع الكواكب، فكيف إذا لم تكن من نوعها؟.

ولهذا كانت الدلائل على الخالق آيات له.

والآية تختص بما في آية عليه، ليست قياساً كلياً يدل على معنى مشترك عام، بل تدل على معين موجود متميز عن غيره.

والأدلة القياسية الكلية التي يخصها باسم البرهان أهل المنطق ونحوهم، لا تدل إلا على أمر كلي.

كقولنا: الإنسان محدث، وكل محدث فله محدث: ينتظم قضيتين كليتين.

فقول القائل: الإنسان محدث، يعم كل إنسان، وعلمه بحدوث الإنسان المعين كعلمه بحدوث الإنسان الآخر، ليس علمه بهذه القضية الكلية أكمل من علمه بالواحد المعين، إلا أنه قد يجهل الإنسان حكم المعين، فيستدل عليه بنظيره.

ص: 278

وكذلك قول القائل: كل محدث فله محدث، فما من محدث يعلم حدوثه إلا وهو يعلم أنه له محدثاً، كما أنه يعلم أن المحدث الآخر محدثاً، ثم إذا علم أن للمحدث محدثاً، فهذا علم مطلق كلي، ليس فيه معرفة بمعين، وليس هذا معرفة بالله تعالى.

وأما الآية فهي مختصة به، لا يشركه فيها غيره، فالإنسان، وغيره من الآيات تدل على عينه نفسه، لا تدل على نوع مطلق، إذ الدليل مستلزم للمدلول، وهذه الأدلة مستلزمة لعينه لافتقارها إليه، ليست مستلزمة لأمر مطلق كلي، إذا المطلق الكلي لا وجود له في الخارج.

لكن المستدل قد لا يعلم ابتداء استلزامها لنفسه، بل يعرف المشترك أولاً، ثم المختص ثانياً، كمن يرى شخصاً من بعيد، فيعلم أنه جسم، ثم يراه متحركاً إليه، فيعلم أنه حيوان، ثم يراه منتصباً، فيعلم أنه إنسان، ثم يراه فيعلم أنه زيد مثلاً، فكان علمه بعينه بحسب أدلته.

والرب تعالى متميز عن غيره بجميع خصائصه.

والناس تكلموا في أخص وصفه.

فقال من قال من المعتزلة: هو القدم.

وقال الأشعري وغيره: هو القدرة على الاختراع.

وقال من قال من الفلاسفة: هو وجوب الوجود.

والتحقيق أن كل وصف من هذه الأوصاف فهو من خواصه.

ومن خواصه أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم.

وكل اسم لا يسمى به غيره: كالله، والقديم الأزلي، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، ونحو ذلك -فمعناه من خصائصه.

ص: 279