الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمعلومات المفصلة الثابتة بأعيانها، مستلزم لثبوت الصفات كما تقدم بيانه وإقرار أصحابه بذلك، وحينئذ فلا حجة لهم في نفي ذلك أصلاً.
والله تعالى قد أخبر في كتابه بعلمه بما سيكون، كالأمور التي أخبر بها قبل كونها، فعلم أنه يعلم الأشياء قبل وجودها، وأخبر أنه إذا وجدت علمها أيضاً.
كقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] .
وفي القرآن من هذا بضعة عشر موضعاً.
وقد روي عن ابن عباس وغيره: إلا لنرى.
وقال طائفة من المفسرين: إلا لنعلمه موجوداً.
رد الغزالي على الفلاسفة في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية
ونحن نذكر كلام أبي حامد عليهم قال: مسألة في إبطال قولهم: إن الله -تعالى عن قولهم- لا يعلم الجزيئات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون.
قال: وقد اتفقوا على ذلك.
قلت: يعني اتفاق من عرف قوله منهم، وهم الذين ذكرهم ابن سينا، وإلا فأبوا البركات قد حكى عنهم قولين، واختار هو أنه يعلم الجزئيات.
قال أبو حامد: فإن من ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه،
فلا يخفى هذا من مذهبه.
ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره، وهو الذي اختاره ابن سينا، فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي.
فلا بد أولاً من فهم مذهبهم، ثم الاشتغال بالاعتراض، ونبين هذا بمثال، وهو أن الشمس مثلاً تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تنجلي، فتحصل له ثلاثة أحوال: أعني للكسوف حال هو فيها معدوم منتظر الوجود، أي سيكون.
وحال هو فيها موجود، أي هو كائن.
وحال ثالثة هو فيها معدوم، ولكنه كان من قبل.
ولنا بإزاء هذه الأحوال ثلاثة علوم مختلفة، فإنا نعلم أولاً: أن الكسوف معدوم وسيكون، وثانياً: أنه كائن، وثالثاً: أنه كان، وليس كائناً الآن.
وهذه العلوم الثلاثة متعددة ومختلفة، وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة، فإنه لو علم بعد الانجلاء أن الكسوف موجود الآن كما
كان قبل، كان جهلاً لا علماً.
ولو علم عند وجوده أنه معدوم كان جاهلاً، فبعض هذه لا يقوم مقام بعض.
فزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يؤدي إلى التغير، وما لم يختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة، فإن العلم يتبع المعلوم، فإذا تغير المعلوم تغير العلم، وإذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة، والتغير على الله محال.
ومع هذا زعم أنه يعلم الكسوف، وجميع صفاته وعوارضه، ولكن علماً يتصف به في الأزل والأبد، لا يختلف.
مثل أن يعلم مثلاً أن الشمس موجودة، وأن القمر موجود، وأنهما حصلا منه بوساطة الملائكة التي سموها باصطلاحهم عقولاً مجردة، ويعلم أنها تتحرك حركات دورية ويعلم أن بين فلكيهما تقاطعاً على نقطتين: هما الرأس والذنب، وأنهما يجتمعان في بعض الأحوال في العقدتين فتنكسف الشمس، إذ يحول جرم القمر بينها وبين أعين الناظرين، وتستتر الشمس عن الأعين، وأنه إذا جاوز العقدة مثلاً
بمقدار كذا، وهو سنة مثلاً، فإنه تنكسف مثلاً، وأن ذلك الانكساف يكون في جميعها أو ثلثها أو نصفها، وإنه يمكث ساعة أو ساعتين، وهكذا إلى جميع أحوال الكسوف وعوارضه، فلا يعزب عن علمه شيء.
ولكن علمه بهذا قبل الكسوف، وحال الكسوف، وبعد الانجلاء، على وتيرة واحدة، لا يختلف ولا يوجب تغيراً في ذاته، وكذا علمه بجميع الحوادث، فإنها إنما تحدث بأسباب، وتلك الأسباب لها أسباب أخرى، إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية السماوية، وسبب الحركة الدورية نفس السماوات.
وسبب تحريك النفس الشوق إلى التشبه بالله والملائكة المقربين، والكل معلوم له، أي ينكشف له انكشافاً واحداً متناسباً، لا يؤثر فيه الزمان.
ومع هذا فحال الكسوف لا يقال: إنه يعلم أن الكسوف موجود الآن، ولا يعلم بعده أنه انجلى الآن، وكل ما يجب في
معرفته الإضافة إلى الزمان، فلا يتصور أن يعلمه، لأنه يوجب التغير.
وهذا فيما ينقسم بالزمان.
وكذا مذهبهم فيما ينقسم بالمادة والمكان، كأشخاص الناس والحيوانات، فإنهم يقولون: لا يعلم عوارض زيد وعمرو وخالد، وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي، ويعلم عوارضه وخواصه، وأنه ينبغي أن يكون بدنه مركباً من أعضاء: بعضها للبطش، وبعضها للمشي، وبعضها للإدراك، وبعضها زوج، وبعضها فرد، وأن قواه ينبغي أن تكون مبثوثة في أجزائه، وهلم جراً، إلى كل صفة في داخل الآدمي وباطنه، وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه، حتى لا يعزب عن علمه شيء، ويعلمه كلياً.
فأما شخص زيد، فإنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل، فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة، والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية، والمكان الكلي.
فأما قولنا: هذا وهذا، فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس، بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة، وذلك يستحيل في حقه.
قال الغزالي: وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية، إذ مضمونها أن زيداً مثلاً، لو أطاع الله أو عصاه، لم يكن الله عالماً بما يتجدد من أحواله، لأنه لا يعرف زيداً بعينه، فإنه شخص، وأفعاله حادثة بعد أن لم تكن، وإذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وأفعاله، بل لا يعلم كفر زيد ولا إسلامه، وإنما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقاً كلياً، لا مخصوصاً بالأشخاص، بل يلزم أن يقال: تحدى محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة.
وهو لم يعرف في تلك الحال أنه تحدى بها، وكذلك الحال مع كل نبي معين، وإنه إنما يعلم أن من الناس من يتحدى بالنبوة، وأن صفة أولئك كذا وكذا.
فأما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه، فإن ذلك يعرف بالحس، والأحوال الصادرة منه لا يعرفها، لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين، ويوجب إدراكها على اختلافها تغيراً.
قال: فهذا ما أردنا أن نذكر من نقل مذهبهم أولاً، ومن
تفهمه ثانياً، ثم نبين ما فيه من القبائح اللازمة عليه ثالثاً.
قلت: قبائح مذهبهم أعظم وأكثر مما ذكره أبو حامد من وجوه كثيرة.
ومضمون حجتهم أن علم الرب بأحوال عباده يستلزم تنوع علمه بهم لتنوع المعلوم، وأن ذلك تغير يمتنع على الله، ولم يقيموا على امتناع مثل هذا المعنى حجة صحيحة: لا شرعية ولا عقلية.
ولفظ التغير فيه إجمال، كما ذكرناه في غير هذا الموضع.
والتغير الممتنع ما يكون فيه استحالة تتضمن نقصاً.
وأما ما ذكره من كون العلم يطابق المعلوم، فيتنوع بتنوع حاله فهو صفة كمال، وإلا كان العلم جهلاً.
وأما إذا سموا هذا تغيراً وادعوا أن ما دخل في هذا الاسم وجب نفيه، فهو كتسميتهم إثبات الصفات تركيباً، ودعواهم أن ما يدخل في ذلك يجب نفيه.
والحجج العقلية إنما تعتبر فيها المعاني لا الألفاظ.
والحجج السمعية يعتبر فيها كلام المعصوم.
وليس في كلام الله ورسوله، ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ما ينفي هذا المعنى الذي سموه تركيباً وتغيراً، بل النصوص المتواترة التي جاءت بها الأنبياء عن الله، كلها تدل على إثبات ما نفوه من هذه المعاني، ولو لم يكن إلا إثبات علمه بكل شيء علماً مفصلاً.
وهذا القرآن فيه من إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص المعين، وكلامه المعين، وفعله المعين، وثوابه وعقابه المعين، مثل قصة آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، وغيرهم.
ما يبين أنهم من أعظم الناس تكذيباً لرسل الله تعالى.
وكذلك أخباره عن أحوال محمد صلى الله عليه وسلم، وما جرى ببدر، وأحد، والأحزاب، والخندق، والحديبية، وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالاً وأفعالاً.
وأخباره أنه يعلم السر وأخفى، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى وعنده كتاب حفيظ، وأنه يعلم ما في السموات والأرض، وأن ذلك في كتاب.
وأنه ما: {تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .
وأنه يعلم ما: {تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار*عالم الغيب والشهادة} [الرعد: 8-9] .
وأنه: {عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} [لقمان: 34] .
وأنه: {قضى أجلا وأجل مسمى عنده} [الأنعام: 2] .
وأنه: {يعلم ما يسرون وما يعلنون} [النحل: 23] .
وأنه: {أعلم بما يقولون} [طه: 104] .
إلى أمثال ذلك مما يطول ذكره في كتاب الله تعالى.