الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفة الإرادة ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد: وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها، إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريداً له، وكذلك من شرطه أن يكون قادراً.
فأما أن يقال: إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة، وشيء لا يعقله العلماء، ولا يقنع الجمهور، الذين بلغوا رتبة الجدل، بل ينبغي أن يقال: إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]، فإنه ليس عند الجمهور شيء يضطرهم إلى أن يقولوا: إنه مريد للمحدثات بإرادة قديمة، إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث.
وقد تبين من قولنا: إن الحوادث التي توجب الحدوث للمحل
الذي تقوم به، هي الحوادث التي تغير جوهر الشيء، وأما تحقيق إرادة الإله فمن علم الخواص الخاص بهم، فهؤلاء أرادوا أن يفهموا الناس من الإرادة معنى غير المفهوم من معنى الإرادة المعروفة المفهومة، التي صرح بها الشرع، وهو معنى لا يفهمه الجمهور، ولا تكيفه العقول، وجعلوا ذلك أصلاً من أصول الشريعة، وكفروا من لم يقل به.
وإنما طور العلماء في هذا المقام أن يقوم البرهان عندهم أن هناك إرادة غير مكيفة لا يقال عنها: إنها إرادة قديمة يلزم عنها حادث، ولا إرادة حادثة، مثل التي في الشاهد، بل هي إرادة العقول الإنسانية مقصرة عن تكييفها، كما هي مقصرة عن تكييف سائر الصفات التي وصف بها نفسه، لأنها متى كيفت أشبهت الصفات المكيفة المحدثة، فوجب أن يصدق بجميعها بالدلائل البرهانية بلا كيف.
قلت: أما كونها إرادة ليست مثل إرادة الخلق، فهذا لا بد منه فيها وفي سائر الصفات.
هذا لا يختص بالإرادة، كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء، فصفاته كذاته.
لكن مجرد نفي هذا لا ينازعه فيه أحد، ومضمون كلامه الوقف عن الكلام في قدمها وحدوثها، لا بيان حل الشبهة، كما فعل في مسألة العلم.
والفلاسفة الدهرية حائرون في هذا الموضع.
ومن يتكلم فيها تناقض كلامه، لفساد الأصل الذي يبنون عليه، وهو صدور الحوادث عن علة موجبة لمعلولها بوسط أو بغير وسط، فإن هذا ممتنع، بل هو جمع بين النقيضين، لأن العلة التامة لا يتخلف عنها شيء من موجبها، ولا موجب موجبها، والحوادث متأخرة، فلا يكون من موجبها ولا موجب موجبها، فجعلها من موجبها أو موجب موجبها تناقض.
فإذا كانوا حائرين في أصل صدور الحوادث عنه، فكيف في إرادته لها وعلمه بها؟.
وما ذكره من أن نفاة المتكلمين لا دليل عندهم إلا ما ذكر من أن الذي تقوم به الحوادث حادث، وما ذكره من إبطال دليلهم على ذلك، هو له ألزم.
فإن الفلاسفة يقيموا على ذلك دليلاً بحال، إلا ما ينفي الصفات مطلقاً.
وقولهم في ذلك باطل متناقض إلى الغاية، كما قد بين في موضعه.
وكلامه يتضمن إثبات الصفات.
فإذا كان من أصلهم أن القديم قد يقوم به الحادث، مع أنه تقوم الصفات بالواجب القديم، كان ما ألزمه لنفاة المتكلمين له ألزم.
قال: فإن قيل: فصفة الكلام من أين تثبت له؟
قلنا: تثبت له من قيام الصفة العلم به، وصفة القدرة على الاختراع.
فإن الكلام ليس شيئاً أكثر من أن يفعل المتكلم فعلاً يدل
عند المخاطب على العلم الذي في نفسه، ويصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه.
وذلك فعل من جملة أفعال الفاعل.
قلت: الكلام ليس هو من نفس التكليم، فليس كل متكلم مخاطباً لغيره، والنظر أولاً في إثبات كونه متكلماً، ثم في إثبات كونه مكلماً لغيره، وما ذكره إنما هو في إثبات كونه مكلماً لغيره.
ثم إنه لم يذكر إلا مجرد الإعلام والإفهام والدلالة بأي طريق كان.
وما يسمى إعلاماً وإفهاماً.
ويسمى تكليماً مع الإطلاق أو التقييد درجات.
كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، فالتكلم من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال ملك كما أرسل جبريل بالقرآن، أعظم من مجرد الإيحاء.
كما قال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] .
وقال: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111] .
ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد، فهذا الذي يسمى لسان الحال، وكل ما يسمى دليلاً فيسمى بهذا الإعتبار شاهداً ومعرفاً وقائلاً، كما قال:
امتلأ الحوض وقال قطني
قطني رويداً قد ملأت بطني
وقالت: انساع بطنه.
وقال الحائط للوتد: لم تشقني؟.
ولا يجوز أن يجعل تكليم الله من هذا الباب عند المسلمين، وقد يجعل تكليمه من هذا الباب من يقول: إنه لا يعلم الجزئيات.
والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالماً بالمدلول عليه، لكنه لم يقصد إفهام مخاطب، ولكن حاله دل المستدل على ما علمه، كالأصوات التي تدل بالطبع، مثل البكاء والضحك ونحوهما، فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه، مثل الحزن والفرح وكذلك صفرة الوجل وحمرة الخجل تدل على ما يعلمه المرء من فزعه وحيائه، وإن لم يقصد الإعلام بذلك.
ومن هذا الباب قول الشاعر:
تحدثني العينان ما القلب كاتم
…
ولا خير في الشحناء والنظر الشزر
وقول الآخر:
والعين تعلم من عيني محدثها
…
إن كان من حزبها أو من أعاديها
ومن هذا الباب قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] ، فهو يعلم من السيماء
ومن لحن القول ما لم يقصدوا الإعلام به.
وتكليم الله عند المسلمين لا يجوز أن يكون من هذا الباب، اللهم إلا عند القدرية، الذين يقولون: إن ما يحدث من علم العبد قد يحدث بدون إرادة الله.
والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال: فمنها: الإعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد، وكإشارة الأخرس، ونحو ذلك.
فالله تعالى قد يعلم عباده بأنواع كثيرة من الدلائل والإعلام.
وهذا هو الذي أثبته المذكور.
ولكن لازم هذا أن يكون كل من علم علماً فقد كلمه الله، فإنه قد نصب دليلاً أيعرفه بذلك، والله عالم به، وهو مريد لما وقع.
ولهذا قال: وقد يكون من تكليم الله ما يلقيه إلى العلماء بواسطة البراهين لكن من الناس من يستشعر أن الله هداه إلى ذلك وعلمه إياه، بما نصبه من الأدلة.
ومن الناس من قد يعرض عن ذلك، ولا ينظر إلا إلى ما دله، وقد يقع بنفس الإنسان من ذلك مالا يعرف عليه دليلاً معيناً.
ومعلوم أن جعل كلام الله ليس إلا من هذا النوع خطأ، بل هذا النوع ليس هو الإيحاء المذكور في القرآن، فإن ذاك إيحاء بما يؤمر به.
كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111] .
وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] .
بل إيحاء النحل ليس مقتصراً على هذا، فإن ذاك أيضاً إيحاء بما يريد أن يفعل، وهذا ليس فيه إلا مجرد الإعلام.
والتكليم للغير قد يكون مجرد إخبار له وإعلام، وقد يكون طلباً منه لفعل أو لترك: إما لمصلحته، وإما لمجرد إرادة الأمر.
وهذا النوع من التكلم مستلزم للأول، والأول لا يستلزم هذا، فليس كل من أعلم بشيء أمر بشيء، وكل من أمر بشيء فقد أعلم بالمأمور به، وهو لم يذكر إلا مجرد الإعلام، فاقتصر على أدنى نوعي التعليم في آخر درجات التكليم.
وهذا الذي ذكره غاية ما يثبته القائلون بقدم العالم من المتفلسفة والصابئة ونحوهم.
والذين يقولون: إن الله يتكلم بكلام مخلوق يخلقه في غيره، خير من هؤلاء.
وهذا الدرجة أرفع من درجة مجرد الإعلام مع قصده العلم، لأن هذا إعلام بكلام منظوم مسموع، وهذا أبلغ من إعلام بمجرد ما يقع في النفس، فإذا كان من لم يثبت لله كلاماً إلا كلاماً مخلوقاً في غيره، مع أنه حروف منظومة، من أضل الناس عند سلف الأمة وأئمتها، فكيف من لم يثبت إلا مجرد الإعلام؟!.
وأهل السنة لا ينازعون في أن مثل هذا الإعلام واقع من جهة الله
تعالى، ولكن يقولون: ليس كلامه وتكليمه هو هذا فقط، بل هذا يحصل لعموم الخلق.
وأما تكليمه من وراء حجاب، أو بإرسال رسول، فهذا مخصوص بالأنبياء.
وهؤلاء المتفلسفة يجعلون النبوة من جنس ما يحصل لعلماء الفلاسفة الكاملين عندهم.
ومن هذا صار كثير من متصوفة الفلاسفة يطمعون في النبوة، أو فيما هو أعلى منها عندهم، كما حدثونا عن السهروردي المقتول أنه كان يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر.
وكذلك ابن سبعين كان يقول: لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي.
وابن عربي صاحب الفتوحات المكية كان يتكلم في خاتم الأولياء، ويقول: إنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وإن الأنبياء جميعهم يستفيدون العلم بالله من جهة هذا المسمى بخاتم الأولياء، والعلم بالله عندهم هو القول بوحدة الوجود، كما قد عرف من قول هؤلاء ويقول:
مقام النبوة في برزخ
…
فويق الرسول ودون الولي
ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول.
وهذا على أصل هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يجعلون الملائكة ما يتمثل في نفس النبي من الصور الخيالية النورانية، وكلام الله ما يحصل في نفسه من ذلك.
فالنبي عندهم يأخذ عن هذه الأمثلة الخيالية في نفسه الدالة على العلم العقلي، والولي يأخذ العلم العقلي المجرد.
ولهذا يجعلون تكليم الله لأحدهم أفضل من تكليمه لموسى بن عمران، لأن موسى كلم عندهم بحجاب الحرف والصوف، أي بخطاب كان في نفسه، ليس خارجاً عن نفسه.
ويقول بعضهم كلم من سماء عقله، وأحدهم يكلم بدون هذا الحجاب، وهو إلهامه المعاني المجردة في نفسه.
وصاحب خلع النعلين وأمثاله يسلكون هذا المسلك.
وهؤلاء أخذوا من مشكاة الأنوار التي بناها واضعها على قانون الفلاسفة، وجعل تكليم الله لموسى من جنس ما يلهمه النفوس من العلوم.
ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة، كانت غايته فيما أثبته من كلام الله، هو من جنس الإعلام العام، الذي يشترك فيه نوع الإنسان.
ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيماناً بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة، لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة، فيجتمع فيه الضلالان.
واليهود والنصارى آمنوا ببعض ما أنزل الله وكفروا ببعض.
كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا} [النساء: 150-151] .
لكن أولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الأنبياء والكتب، لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده، كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما، ولا يؤمنون بما فوق ذلك.
وكذلك فيما أخبرت به الرسل من الغيب: يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وكذلك فيما أمروا به، فهم يؤمنون ببعض نوع الرسالة ويكفرون ببعض.
ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيراً منهم، وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه، ويكونون