الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث هو كلي، لا يفيد تصور المعينات، والوجود ليس فيه إلا المعينات، فلا يكون تصور شيئاً من المعينات الحادثة.
l أمر أمر
كلام الطوسي في شرح الإشارات ورد ابن تيمية عليه
وقد بين ذلك شارحو كلامه فقال الطوسي: يريد التفرقة بين إدراك الجزئيات على وجه كلي لا يمكن أن يتغير، وبين إدراكها على وجه جزئي يتغير بتغيرها، ليبين أن الأول تعالى، بل كل عاقل، فهو إنما يدرك الجزئيات من حيث هو عاقل على الوجه الأول دون الثاني.
وإدراكها على الوجه الثاني لا يحصل إلا بالإحسان أو التخيل، أو ما يجري مجراهما من الآلات الجسمانية.
قال: وقبل تقرير ذلك نقول: كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها.
فلا تدخل التصديقات في ذلك يعني بذلك أن التصديق إنما يكون كلياً أو جزئياً باعتبار ما فيه من التصور: هل هو جزئي أو كلي؟.
قال: فإن قولنا: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت، جزئي.
وقولنا: الإنسان يقول القول في وقت، كلي.
ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان، والقول، والوقت، والجزئية بالكلية.
ولقائل أن يقول: بل نفس النسبة لا تكون جزئية وكلية، فإنه إذا قيل: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت كان الجميع جزئياً.
وإذا قيل: يقول أقوالاً حسنة، أو يقول هذا القول دائماً، كان الثاني كلياً، فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة فيه.
فإن قلت: المحمول، الذي هو خير المبتدأ عن أحدهما، قول معين، وفي الآخر قول مطلق، فالجزئية والكلية إنما وقعا في التصورين.
قيل إن أريد ذلك لم يكن لنا تصديق غير التصورات، فلا حاجة إلى نفي الكلية عنه.
ولكن المعروف أن هذا القول هو الخبر المحمول على المبتدأ المخبر به عنه، وهو قول معين جزئي، ونسبته إليه هو التصديق المغاير للتصورين، فإن التصديق يراد به الجملة كلها، فيكون التصور بعضه بعينه، ويراد به النسبة الحكمية، فيكون التصور شرطاً فيه.
وإذا أريد به هذا فنسبة القول المعين إلى المعين تصديق، فإن عنيت النسبة من جميع الوجوه، بحيث يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها، فهي جزئية، وإن لم يمنع ذلك فهي كلية.
مثل كونه يقوله دائماً، أو الإخبار عنه بأنه يقوله في وقت ما، فإن هذا لا يمنع كونه يقوله في هذا الوقت وفي غيره، بل لا يمنع أن يقوله بالعربية وبالعجمية، فهو كلي بالنسبة إلى العربية والعجمية.
وبالجملة فما لم يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو كلي، سواء كان احتمال الشركة لدخوله أشخاصاً أو أزمنة أو أمكنة أو لغات أو غير
ذلك من الأمور، وهذا مما يبين أنه من لم يقل أن الرب يعلم الجزئيات، فإنه يلزمه أن لا يعلم شيئاً من الموجودات، فإنه ما من موجود إلا وهو متميز عن غيره بحيث يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
ولهذا لم يمنع ابن سينا كونه يعلم الجزيئات الثابتة الدائمة على أصله، كالسموات والنجوم، وإنما منع علمه بالمتغيرات، فراراً من قيام الحوادث به، مع أن أساطين من أساطين الفلاسفة، ومن وافقهم من المتأخرين، يقولون: إنه تقوم به الحوادث، ولا حجة له على نفي ذلك أصلاً، إلا ما ينفي به قيام الصفات، وإثباته للعلم يستلزم إثبات الصفات كما تقدم بيانه، فعلم أن إثباته للعلم بالكليات دون الجزئيات في غاية التناقض.
قال الطوسي: وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه، وما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل، ولا يتناولها البرهان والحد، بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها، وما يجري مجراها من المخصصات، التي لا سبيل إلى إدراكها إلا بالحس وما يجري مجراه، فإن أخذت تلك الطبيعة مجردة عن تلك المخصصات، صارت كلية يدركها العقل، ويتناولها البرهان والحد،
وكان الحكم المتعلق بها -حين كونها جزئية- باقياً بحاله، اللهم إلا أن يكون الحكم متعلقاً بالأمور المخصصة من حيث هي مخصصة.
قال: وإذا ثبت هذا فنقول: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع.
يعني طبائع كلية وأدراك أحوالها الجزئية وأحكامها، كتلاقيها وتباينها، وتماسها وتباعدها، وتركبها وتحللها، من حيث هي متعلقة بتلك الطبائع، وأدرك الأمور التي تحدث: معها وبعدها وقبلها، من حيث يكون الجميع واقعاً في أوقات يتحدد بعضها ببعض، على وجه لا يفوقه شيء أصلاً، فقد حصل عنده صورة العالم منطبقة على جميع كلياته وجزئياته الثابتة، والمتجددة المنصرفة، الخاصة بوقت دون وقت، كما عليه الوجود، غير مغادر إياها بشيء، وتكون تلك الصورة بعينها منطبقة على عوالم أخر، لو حصلت في الوجود، مثل هذا العالم بعينه، فتكون صورة كلية منطبقة على الجزئيات الحادثة في أزمنتها، غير متغيرة بتغيرها.
هكذا يكون إدراك الجزئيات على الوجه الكلي.
فيقال: فعلى هذا التقدير لا يكون الرب عالماً بشيء من هذه الأمور
الموجودة، ولا فاعلاً لها، إذا كان علمه بها هو إبداعه لها، فإن العلم بالجزئيات، على هذا الوجه الكلي، لا يتضمن العلم بشيء من المعينات، ولا يكفي هذا العلم في وجودها، فضلاً عن أن يكون هو إيجادها.
فإنا إذا علمنا أن بني آدم لا بد أن تحصل لهم شهوة الأكل فيأكلون، وإذا أكلوا فلا بد أن تحصل لهم فضلة فيتغوطون، ولا بد أن تحصل لهم شهوة النكاح فيجامعون، ولا بد أن يحصل إنزال وحبل، فتحبل النساء ويلدن، ولا بد أن يموتوا -كان هذا علماً كلياً يتضمن أنه لا بد من وجود أكل وتخل، ونكاح وإنزال، وحبل وولادة وموت، بحيث لو قيل: إن في الآدميين من لا يموت، أو من لا يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك- كان ذلك العلم الكلي مناقضاً لهذا القول.
ولو قيل: إنه لم يبق من ينكح ويحبل، ويلد ويموت، كان ذلك العلم الكلي دافعاً لهذا القول، كما إذا علمنا أن نبياً لا يخبر إلا بالصدق، وعلمنا أنه أخبر بأخبار لا نعرف أعيانها -علمنا أنها كلها صادقة، ولم يكن في مجرد هذا العلم الكلي علم شيء منها.
وإذا علمنا أن كل دليل شرعي دل على الإيجاب أو التحريم، وجب إثبات موجبه من الإيجاب أو التحريم، كان هذا علماً كلياً، ولم يكن فيه علم بشيء من أعيان الأدلة الشرعية، ولا بالأحكام المعينة الشرعية.
وإذا علمنا أن الإهلال لا يكون إلا في أول الشهر، والإبدار لا يكون إلا في وسطه، وأن كسوف الشمس لا يكون إلا عند الإجتماع قبل الإهلال، وخسوف القمر لا يكون إلا في الليالي البيض في الإبدار -لم يكن في مجرد هذا العلم ما يوجب أن يعلم: هل الهلال طالع في هذا الوقت أم لا؟ وهل هو مبدر أم لا؟ وهل هو خسوف أم كسوف أم لا؟
وكذلك إذا علمنا أن الشمس تدور ما بين رأس السرطان والجدي، لا يصعد هذا غاية صعودها، وهذا غاية هبوطها، وفي صعودها يكون الصيف، وفي هبوطها يكون الشتاء، ونحن لا نعلم هل هذا الوقت صيف أو شتاء، وهل هي صاعدة أو هابطة -لم يكن في هذا العلم الكلي ما يفيد معرفة ما وجد في الخارج من أحوالها، لكن فيه أنها لا تخرج عن هذا القانون الكلي، وهكذا سائر العلوم الكلية.
لكن العلم بجميع حوادث الوجود على الوجه الكلي، أعم من العلم ببعض حوادثه.
ومع ذلك فليس في ذلك علم بشيء من الموجودات الحادثة.
وأيضاً فمجرد هذا العلم الكلي لا يكفي في وجود المعينات، فالمعين لا يوجد إلا بتصور معين وإرادة معينة، وإلا فمن أراد أن يكرم الأبرار، ويعاقب الفجار، ويقبل شهادة العدول، ويرد شهادة أهل الزور، وهو لا يعرف أعيان هؤلاء وهؤلاء -لم يمكنه فعل شيء من ذلك الأمر الكلي الذي عزم.
ومن أراد أن يأكل طعاماً، ويلبس ثوباً، وليس له قصد من طعام بعينه، وثوب بعينه، إن لم يحصل له طعام معين، وثوب معين، بحيث تكون له إرادة معينة وتصور معين -امتنع أن يأكل ويلبس، لكن قد يكون قصده للمعين، هو لكونه هو الميسور المقدرور عليه، ولو حصل غيره لقام مقامه، ليس له إرادة في أحدهما دون الآخر، إلا لكونه هو الذي تيسر وقدر عليه، فهنا يكون سبب تعين الإرادة هي القدرة.
وكذلك من قصده أن يعطي الزكاة للأنواع الكلية التي ذكرها الله في كتابه، وليس له غرض في شخص بعينه، فهو يعطي من علم أنه منهم، ومن أمكنه أعطاه.
ومن أراد شخصاً معيناً، فلا يتعين حتى يحصل له تصور معين وإرادة معينة، لكن التعين يكون لأجل علمه المعين وقدرته المعينة، لا لكون إرادته الأولى دعته إلى أداء الزكاة وصرفها في الأنواع المذكورة في القرآن -فكانت إرادته لمعين.
وكذلك من قصده أن يتطهر كما أمره الله، فهو يقصد الطهارة بماء، أي ماء كان، وهذه إرادة كلية، ثم لا يمكنه أن يتطهر إلا بماء معين، يتصور تصوراً معيناً، ويريد التطهر به إرادة معينة.
وكذلك من قصده أن يعتق رقبة وجبت عليه في كفارة، وكذلك من غرضه أن يزوج وليته من كفو، ومن قصده أن يشتري طعاماً من
شخص، وكذلك من غرضه أن يستفتي من يفتيه بحكم الله، ومن غرضه أن يحاكم خصمه إلى من يحكم بينهما بالحق، وأمثال ذلك.
فهؤلاء قصدهم ابتدأ أمراً مطلقاً كلياً، ليس غرضهم شخصاً بعينه، لكن لا يحصل مقصودهم إلا إذا قصدوا شيئاً معيناً، وإلا فما دامت ليس معهم إلا الإرادة المطلقة، لا يفعلون شيئاً، إذ المطلق لا وجود له في الأعيان، فلا يمكن وجود كلي في الخارج مع كونه كلياً قط، فمن لم يعلم إلا الكليات، لم يمكنه أن يفعل شيئاً قط، ولا يكون عالماً بشيء من الموجودات، فإن الموجودات في الخارج ليس فيها كلي.
فعلى قول هؤلاء لم يعلم الله شيئاً من الموجودات، بل ولا فعل شيئاً من الموجودات.
وهذا أمر قطعي لا حيلة فيه، كلما تدبره العاقل تبين له فساد هذا القول.
وما استثناه ابن سينا من كونه يعلم الموجودات الثابتة بأعيانها، لا يصح استثناؤها، فإن تلك أيضاً حادثة على القول الحق، ويلحقها التغير كما يلحق غيرها، فيجب أذا لم يعلم إلا الكليات أن لا يعلمها، وعلى قول أولهم إنها أزلية أبدية، فهي مستلزمة للتغيرات، أما الأجسام فإنها لا تزال متحركة، وأما المعقول فلا حقيقة لها، وبتقدير ثبوتها فإنها علل الأجسام المتغيرة عندهم.
وقد تقدم أصله: أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فالعلم بالعلل إنما يوجب العلم بمعلولها، والعلة أوجبت معلولات جزئية متغيرة،
فيجب أن يعلم عليتها على هذا الوجه.
وحينئذ فيلزم أن يعلم المتغيرات متغيرة، لا يكون علمها على وجه كلي كما ذكروه.
ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية، مثل إيجاب الزكوات، وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به، ونهيه عما نهاه الله عنه، إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها، لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور، إلا بعلم معين، بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه.
وهذا الذي يسمى تحقيق المناط.
إذا تبين هذا، فقول القائل: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع إلى آخره.
يقال له: أتريد أنه أدركها كلية، مثل أن يدرك أن في العالم حاراً وبارداً، وأنهما يلتقيان على وجه كذا؟ أو تريد أنها إدراك الطبائع الموجودة المعينة؟.
فإن أردت الأول، لم يكن في العلم بذلك علم بشيء من الموجودات.
وإن أردت الثاني، فإنه يلزم من العلم بها، العلم بلوازمها، كما تقدم من أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، فيلزم من ذلك أن يعلم جميع معلولاتها ولوازمها.
وليس في المعينات إلا ما هو معلولها
ولوازمها، فيلزم العلم بكل شيء جزئي على سبيل التعيين، ويلزم العلم بطوله وعرضه وعمقه وقدره، سواء كان من الكل المتصل أو المنفصل.
ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عدداً، فهو يعلم أوزان الجبال، ودورات الزمان، وأمواج البحار، وقطرات المطر، وأنفاس بني آدم:{وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .
يبين هذا أنه قد تقدم أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، وهي الموجب، والرب سبحانه هو موجب بمشيئته وقدرته لكل ما يشاؤه.
وهم يسمونه علة، وهو إنما يوجد شيئاً معيناً، لا يوجد شيئاً كلياً، إذ الخارج ليس فيه شيء كلي، فيجب أن يكون عالماً بكل شيء جزئي، كما انه خالق لكل شيء جزئي.
وإن كان له علم عام كلي بالأمور الكلية، فلا منافاة بين هذا وهذا، بل مخلوقه له بالكلي والجزئيات، فالخالق أولى بذلك.
وقوله: إن إدراكها على هذا الوجه إنما يحصل بالإحساس أو التخيل.
فيقال لهم: لا ريب أن الله سميع بصير، يسمع ويرى، سبحانه وتعالى.
وقد روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى:{إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143] ، ونحو ذلك.
قال: إلا
لنرى.
ففسر العلم المقرون بالوجود بالرؤية، فإن المعدوم لا يرى، بخلاف الموجود، وإن كانت الرؤية تتضمن علماً آخر.
وقال الطوسي في شرح كلام ابن سينا: قوله: الأشياء الجزئية قد تعقل، كما تعقل الكليات، إشارة إلى إدراكها من حيث هي طبائع مجردة عن المخصصات المذكورة، وقيدها بقوله: من حيث تجب بأسبابها ليكون الإدراك لتلك الأشياء، مع كونه كلياً يقينياً، غير ظني.
ثم قال: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه: أي منسوبة إلى مبدأ، طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك، لا أنها غير موجودة في غير ذلك الشخص، بل مع تجويز أنها موجودة في غيره.
والمراد أن تلك الأشياء إنما تجب بأسبابها، من حيث هي طبائع أيضاً.
ثم قال: تتخصص به أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ، وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك، لأن الجزئي، من حيث هو
جزئي، لا يكون معلولاً لطبيعة غير جزئية، ولا الطبيعة علة له من حيث هو كذلك.
قال: وقوله: إن العاقل لأن بين كون القمر في موضع كذا إلى آخره، معناه: أن من يعقل أن بين كون القمر في أول الحمل مثلاً، وبين كونه في أول الثور يكون كسوف معين في وقت محدود من زمانه كونه في أول الحمل، كالوقت الذي سار فيه القمر من أول الحمل عشر درجات، فإنما يكون تعقل ذلك العاقل لهذه الأمور أمراً ثابتاً قبل وقت الكسوف ومعه وبعده.
فيقال له: هذا الذي تصور هذا الكسوف تصور أنه يكون في عام معين، أو تصوره مطلقاً، كتصوره أنه إذا كان في عشر درجات من الحمل، مع أمور أخرى، يكون كسوف.
فإن كان الأول، فذاك كسوف جزئي معين.
وتصوره يكون قبله ومعه وبعده.
وإن كان الثاني، فهذا يكون محققاً تارة، ومقدراً أخرى.
أما المقدور، فأن يعلم أنه كلما حصل القمر في موضع كذا، والشمس في موضع كذا، حال القمر بين نور الشمس وبين الناس فانكسفت.
ولكن هذا ليس فيه علم بوقوعه لا مطلقاً ولا معيناً.
والثاني أن يعلم أنه لا بد أن تقع هذه المحاذاة بين الأرض والقمر والشمس، وإنما تقع إذا كان كذا.
فهذا علم كلي، لا يعلم به شيء من الكسوف الموجود.
ثم يقال: والعلم بهذا ممتنع، إن لم يعلم الكسوفات الجزئية.
وذلك أن أسباب الكسوفات حركات أجسام معينة في أوقات محدودة.
والعلم بمجموع ذلك يوجب العلم بكل كسوف جزئي، والعلم به قبل وقوعه ومع وقوعه وبعد وقوعه، فلا يتصور مع العلم بأسباب الحوادث، أن يعلم علم كلي، إلا وتعلم الجزيئات الواقعة، وإلا فلا يكون العلم بجميع الأسباب حاصلاً.
ولهذا لما كنا لا نعلم عامة الأسباب لم نعلم ما يكون، وإذا علمنا أسباب شيء، علمنا وقوعه قبل وقوعه ومعه وبعده، كمن علم أنه سيبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبعث إذا كانت أمور، فإذا علم أنها لم تكن، علم أنه لم يبعث، وإن علم أنها كانت، علم أنه بعث.
وكثير مما يتكلم فيه الناس من مقدمة المعرفة، يكونون قد علموا جزء السبب، ولم يعلموا تمام السبب، ولا علموا مانعه، فيصيبون أحياناً، ويكون خطأهم أكثر من صوابهم، لأن ما فاتهم من العلم بتمام السبب والموانع أكثر مما علموه.
وقد تقدم قول ابن سينا: قد تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه من يخصه يتخصص به.
وقد قال في شرحه: أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك
المبدأ، وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك، لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولاً لطبيعة غير جزئية.
فيقال: هذا الكلام بين في أنها لا تعقل على هذا الوجه إلا جزئية لا كلية، لأنها إذا عقلت من حيث يجب بسببها المعين الجزئي، لزم أن تعقل جزئية.
وأما إذا عقلت من حيث تجب بسبب كلي عقلت كلية، لكن رب العالمين هو واحد معين، ليس أمراً مطلقاً كلياً، فهو يعلم نفسه علماً معيناً، يمنع من وقوع الشركة فيه، لا يعلمها علماً كلياً، لا يمنع من وقوع الشركة فيه.
وحينئذ فيعلم كل ما صدر عنه على هذا الوجه، وقوله: انحصر نوعه في شخصه دليل على ذلك.
وقول الطوسي: قوله: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه، ذلك لأنها غير موجودة في غير ذلك الشخص، بل مع تجويز أنها موجودة في غيره، إنما تستقيم في طبائع المخلوقات.
وأما الخالق تعالى فلا يجوز أن تكون صفته ثابتة لغيره.
والكلام إنما هو في أن علمه بنفسه يوجب العلم بالمخلوقات، وبه تجب الممكنات، وليس في الأسباب ما يوجب شيئاً من الممكنات، إلا وهو سبحانه وتعالى، وكل ما سواه فإنما يوجب بشركة من غيره، وهو سبحانه لا شريك له.
ثم كيف يتخصص بالمبدأ إن لم يكن مختصاً، كما تقدم؟.
ففي الجملة كل حجة يذكرونها هم أو غيرهم -على علمه بشيء من الأشياء، يدل على علمه بالجزئيات.
وقول القائل: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، كلام متناقض، يستلزم أنه لم يخلق شيئاً ولا يعلم شيئاً من الموجودات.
وقوله مع ذلك إنه: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، تلبيس منه، كقولهم: العالم محدث، يريدون به أنه معلول مع قدمه، وإلا فكل ذرة من ذرات المحدثات عازبة عنه عندهم.
وكونها تجب وصف كلي باق أزلاً وأبداً، لا يوجب العلم بها كما ذكروه.
ومضمون كلامه أنه يعلم ولا يعلم، فهو كلام متناقض.
ثم الأدلة الدالة على علمه تستلزم علمه بالجزئيات، وليس لابن سينا ما يبطل ذلك، إلا كون ذلك يفضي إلى تغير العلم، لكونه يعلم أن سيكون الشيء، ثم يعلم أنه قد كان، وهذا إن أبطله من جهة أنه نقص في العلم فهو باطل، فإن هذا هو علم للشيء على ما هو عليه، فإنه علمه معدوماً لما كان موجوداً، وعلم أنه سيوجد، ثم لما وجد علمه موجوداً، ثم إذا عدم بعد ذلك علم أن قد كان ثم عدم.
فهذا هو العلم المطابق للمعلوم، وما سوى ذلك فهو جهل لا علم وإن أنكره من جهة أنه يحدث تحول العلم بتحول المعلوم، وأن ذلك تغير -فقد عرف قول المانعين من هذا الأصل، وأنه في غاية الضعف والفساد، مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، لا سيما ومن منع ذلك، من الجهمية ومن اتبعهم، إنما منعوه لاعتقادهم أن ذلك ينافي القدم.
وابن سينا وإخوانه يجوزون قيام الحوادث بالقديم، فلا حجة لابن سينا وأتباعه في منعه، إلا حجتهم في نفي الصفات.
وإثبات العلم