الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق ابن تيمية
قلت: ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع: أحدها: هو الذي يعرف بالعقل، والثاني: المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع.
والثالث: ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع.
فالأول: المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع.
ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه، فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة.
وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية، فإنما تدل على أمر مطلق كلي، إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية، والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات، فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال، لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي.
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثاً، وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا، فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه، وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فلا يكون في ذلك معرفة عينه، ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقاً كلياً.
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات، من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة، حيث أثبتوا وجوداً واجباً قديماً، ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه، وأنه لا يكون إلا مطلقاً، وقد علم أن ما لا يكون مطلقاً كلياً، لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج.
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه،
فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز، وإن كان دليله لم يدله على عينه، بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقاً كلياً، أو قال ما يستلزم ذلك، فإن هذا معطل له في الحقيقة.
ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه، فهذا قد علمه علماً مطلقاً.
وأما من قال: إن هذا النبي إنما يوجد مطلقاً لا معيناً، فهذا قد نفى وجوده في الخارج.
فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية، فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع، فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام.
ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف.
فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو، فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع، وإن أراد بذلك معرفة أخرى، مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل، فهذا أيضاً يعلم بالسمع، ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي، ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا؟
وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده، فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهراً أو باطناً: إما بالإحساس بعينه، أو بالإحساس بخصائصه.
فمن علم اسم شخص ونعوته، أو اسم أرض وحدودها، فإنه يعرف عينها بالرؤية: إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى، وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات.
قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} .
فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه وسلم التي نعت
بها في الكتب المتقدمة، ثم رآه ورأى خصائصه، علم أن هذا هو ذاك، لعدم الاشتراك في تلك الصفات.
وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه، وقد لا تكون بمشاهدة عينه، بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو، كما يعلم أن القرآن تلقي عنه، وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها، وأنه هو المذكور في الأذان، وهو الذي يسميه المسلمون محمداً رسول الله، وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون.
فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة.
وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس، وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم، معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة.
لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع، ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من كل وجه، وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه.
فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره.
وأما القدر الفارق، فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر، فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضاً.
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة.
لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك، علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته.
وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك.
ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع، وقد يحصل بالعيان، وقد يحصل بالاستدلال.
والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة، فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته.
وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين.
ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته، فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي.
وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين.
وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب، وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر، أو شهد شهود فرع على شهود أصل، فإنه يعلم عين المسمى المنسوب، كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك، فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه، وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك، وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة؟ فيه نزاع بين الفقهاء.
وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق، فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق.
والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة، وقد يكون بالمشاهدة الباطنة، وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار.
ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق، ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة.
فإن المبيع قد يكون معيناً وقد لا يكون، والمعين قد يكون مشاهداً، فهذا يصح بيعه بالإجماع.
وقد يكون غائباً، وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء، وهي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أنه لا
يصح بيعه، كظاهر مذهب الشافعي.
والثاني: يصح، وصف أو لم يوصف، كمذهب أبي حنيفة.
والثالث: وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد: أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدونها.
ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية، انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء، ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله، لأن حقه تعين في عين معينة.
وأما المبيع المطلق في الذمة، فمثل دين السلم.
فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه.
وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين، وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة، كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك.
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك.
فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين، بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود.
ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه، كان للمستحق المطالبة بعين أخرى.
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق، كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين، كما لو نذر هدياً بعينه، فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه، لم يكن عليه بدله، بخلاف ما وجب في الذمة.
فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله.
وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين.
لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه، وقد لا يكون مع العلم بعينه، كالمبيع إذا كان مشاهداً فقد عرف المشتري عينه، وإذا كان غائباً فهو معين في نفسه، والمشتري لا يعرف عينه، وإنما يعرف منه أمراً مطلقاً، سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه، أو يحتمله ويحتمل غيره، فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من
صفتها كذا وكذا، ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها، وهذا بخلاف المسلم فيه، فإنه لا يكون معيناً، ومتى كان معيناً بطل السلم، كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه، أو زرع أرضاً بعينها، قبل بدو الصلاح، كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم، وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق، أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان، مثل أنه رب العالمين، وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه، فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه، بخلاف ما يمكن الشركة فيه.
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، ويقول: التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات، فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره.
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية، أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم، إنما يثبتون وجوداً مطلقاً لا يعين ولا يشار
إليه، بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين، وهؤلاء يثبتون وجوداً مطلقاً كلياً، لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم.
ولهذا يبقون في حيرة واضطراب، تارة يجعلونه حالاً في المخلوقات لا يختص بشيء، وتارة يسلبونه هذا وهذا، ويقولون: الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين، نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج، فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره، مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره.
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم، وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج، لكنهم ضالون في ذلك.
وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنوناً ثابتة في الأعيان.
ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم: هل هو شيء أم لا؟ وفي مسألة الأحوال، وفي مسألة وجود الموجودات: هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك؟ والكلي الطبيعي: هل هو ثابت في الخارج أم لا؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أموراً موجودة ثابتة في الخارج، وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل، وذلك ضلال.
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة، ليس مما لا يمكن الإحساس به، لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت، وفي الدار الآخرة.
وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان.
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة، لأن أحدهما معقول والآخر محسوس، كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية، ومن شركهم في بعض ذلك، وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن، والآخر غائب عنا لا نشهده الآن، ولهذا سماه الله تعالى غيباً.
قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} ، لم يسمه مقولاً، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس، إما بذاته وإما ببعض خصائصه.
والله تعالى يختص بما فوق العالم، فالعباد يشيرون إلى ذلك، ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم، لا يشركه في ذلك أحد.
وهذا العلم قد يحصل بالفطرة، وقد يحصل بالاستدلال والقياس، وقد يحصل بالسمع من الرسل، كما أخبرت بأن الله فوق العالم.
ولهذا قال فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} .
ولهذا كان معراج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه.
وقد يقال: هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع.
وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا، فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق، كما يعرف عين الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يشاهده، بمعرفة ما يعرفه من خصائصه.
وأما القائل: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، فقد يقول: إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع.
والناس متنازعون في كونه فوق العالم: هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة، وهو قول ابن كلاب وابن كرام، وآخر قولي القاضي أبي يعلى.
أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع، كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري، وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه.
فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا، ويقولون: لم نعلم ذلك إلا بالسمع.
ويقولون: لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع، لكن كلامه أعم من ذلك.
وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع، كالصفات الخبرية.
أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين، وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك، أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية، التي يوصف الله بها.
أو أراد بذلك أن كثيراً من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع.
وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات، أو أول الواجبات: المعرفة، يقولون مع ذلك: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع، كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي، وابنه عبد الوهاب، وابن
درباس، وغيرهم، كما قال من قال قبلهم: إنها لا تحصل إلا بالشرع.
وهؤلاء يريدون بالعقل: الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء، وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة، بل لا بد من أمر زائد على ذلك.
كما قالوا في استدلالهم: إن المعرفة لو كانت بالعقل، لكان كل عاقل عارفاً، ولما وجد جماعة من العقلاء كفاراً، دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل.
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية، وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع.
وأيضاً فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية.
وهو أيضاً يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع، ولا يحصل عليها الإجماع.
وهوكما قالوا.
فإن الطرق القياسية العقلية النظرية، وإن كان منها ما يفضى إلى العلم، فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض.
تارة لدقتها وغموضها، وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية، كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة.
قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا