المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌فصل

- ‌كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام أبي الحسين البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام السهرودي المقتول في "التلويحات

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام الآمدي في "دقائق الحقائق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الآمدي في أبكار الأفكار

- ‌الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌شرح الرازي لكلام ابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة

- ‌فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌الوجه السابع عشر

- ‌الوجه الثامن عشر

- ‌الوجه التاسع عشر

- ‌الوجه العشرون

- ‌الوجه الواحد والعشرون

- ‌الوجه الثاني العشرون

- ‌الوجه الثالث العشرون

- ‌الوجه الرابع العشرون

- ‌بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه

- ‌بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

لم يمتنع حينئذ حدوث العالم من الحي بدون سبب حادث عن غيره.

‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

فذكر أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة وهو العلم الإلهي، الذي هو أصل حكمتهم، نهاية فلسفتهم، فيما حكاه عنه ثابت بن قرة، فإنه قال في كتاب تلخيص ما أتى به أرسطو طاليس فيما بعد الطبيعة: إن أرسطو طاليس يأتي في كتابه هذا بأقاويل فيها إغماض، يرمي فيها إلى غرض واحد، إذا وفى حقه من الشرح والبيان، قبل على هذه الجهة، مما جرى الأمر فيه على صناعة البرهان، سوى ما جرى من ذلك مجرى الإقناع.

وقال: إنما عنون أرسطو كتابه هذا بما بعد الطبيعة، لأن قصده فيه: البحث عن جوهر غير متحرك، وغير قابل للشوق، إلى شيء خرج عن ذاته.

وقال: إن الجوهر الجسماني كله الوجود مبتدأ لمتكون، إنما قوامه بطبيعته الخاصة به، وطبيعته الخاصة به إنما قوامها بصورته الخاصة به، وصورته الخاصة به المقومة لذاته، إنما قوامها بحركته الخاصة به، وكل متحرك بحركة خاصة به، فإنما يتحرك إلى تمام وتمام كل واحد من الأشياء ملائم لطبيعته، وموافق لها.

وكل متحرك إلى ما لاءمه، ووافق

ص: 272

طبيعته، فبالشوق والمحبة والتوق منه إليه يتحرك، والشيء المتشوق إليه، علة لحركة المتحرك إليه بالشوق، والشيء المشتاق معلول له من جهة تلك العلة، وفي تلك الحركة، وحركة كل واحد من الأجسام، فتنساق كلها، وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك كما بين أرسطو ذلك في كتابه المعروف بـ السماع الطبيعي.

لأنه وإن وجد بعضها يحرك بعضاً، فالمتحرك الأقصى متحرك عن محرك غير متحرك، والمحرك الأول علة الصورة المقومة لجوهر كل واحد من الأشياء المتحركة حركة خاصية، فقوام جوهر كل واحد من الأشياء المتحركة، ليس له في ذاته، لكنه من الشيء الذي هو السبب الأول في حركته.

فيقال لهم: هب أن الحركة الإرادية لا تتصور إلا بمحبوب منفصل عنها، لكن إذا كان المتحرك ليس واجباً بنفسه، لا هو ولا حركته، فما الموجب له ولحركته؟ وأنتم لم تجعلوا المحرك الأول محركاً إلا من جهة كونه محبوباً معشوقاً، لا من جهة أنه فعل شيئاً أصلاً.

قال ثابت: وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن كل ما يتحرك فحركته بالشوق إلى شيء، والصورة الأولى فيما هو في الكون، وفيما هو موجود الحركة الخاصة به، فالمحرك الأول إذن هو المبدأ والعلة في وجود صور الجواهر الجسمانية كلها وبقائها، إذ كنا متى توهمنا ارتفاع وجود الحركة الطبيعية، وإن شئت أن تقول: القوي من كل واحد من الأجسام التي له، فسد جوهره لا محالة.

ص: 273

ثم ذكر سؤالاً وجواباً مضمونه: إن الجوهر الجسماني لا قوام له إلا بطبيعته التي قوامها بحركته الخاصة به.

قال: فإن ظن أحد أن هذا الجوهر إذ قدرت صورته الطبيعية باطلة منه، انحل إلى شيء آخر أبسط منه، ليس في طبيعته حركة خاصة به، فيكون حينئذ في ذاته، لا معلول، لكن المركب فيه معلول.

فأرسطو طاليس يقول: إن هذا الظن باطل محال، لأن ذلك البسيط إنما يوجد حينئذ في الوهم الفكري فقط.

فأما في خاصة نفسه مفرداً، فلا وجود له بالحقيقة، لا قوام لذاته.

وليس بهذا المعنى فقط يترك هذا الظن، لكنه يرى أنه يوجد في ذلك البسيط الذي ينحل إليه الجوهر الجسماني في الوهم، إذا توهمنا فساد صورته تلك، قبول صورة أخرى، فهو معلول في ذلك القبول من المحرك الأول.

فإن ظن ظان أنه معلول من جهة ذلك القبول فقط، قلنا: فإن أنزلنا إزالة ذلك القبول نفسه من أنه قد بطل، وجب أن تبطل ذاته، يعني فتفسد وتنحل طبيعته التي بها هو حينئذ ما هو، إذ كانت ذاته تلك حينئذ إنما هي التي في طبيعتها القبول.

فإن قيل أيضاً: إنها تنحل إلى شيء آخر كان الجواب فيه كما أجبنا في الانحلال الأول، وليس يمكن أن ينحل هذا دائماً إلى ما لا نهاية له.

قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر جسماني معلول في جوهره، ووجوده، وبقائه للعلة التي هي المبدأ الأول بحركة الجميع.

قلت: فهذا هو تقريرهم لوجود العلة الأولى، التي هي المبدأ الذي

ص: 274

يسميه المتأخرون: واجب الوجود بذاته، وهي طريقة المتقدمين من المشائين.

وأما الطريقة المشهورة عند المتأخرين: وهي الاستدلال بمطلق الوجود على الواجب، فهذه هي التي سلكها ابن سينا ومتبعوه، ثم هذه طريقة أرسطو وأتباعه المشائين: مضمونها أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته، ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية، لا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك، ثم إن أرسطو أورد على نفسه سؤالاً بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته، بانحلاله إلى شيء أبسط منه، فلا يكون المحرك علة لذاته، بل علة للتركيب فقط.

وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج.

وأجاب أتباعه بجواب ثان، وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول، والقبول حركة.

وهذا الجواب ساقط، فإنه إذا قدر أن فيه قبولاً، لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية.

وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب، بل يستلزم وجود فاعل مبدع.

وهم لم يثبتوا ذلك.

وكذلك تقدير أرسطو تقدير فاسد، فإنه إذا قدر أن الحركة لا تتم إلا بطبيعة تستلزم الحركة الإرادية، مع أن في تقدير هذا كلاماً ليس هذا موضع بسطه، لكن بتقدير أن هذا سلم له، فغاية ما في هذا أن يكون الجسم المتحرك بالإرادة مفتقراً إلى المعشوق الذي هو غايته وأنه لا يتم وجوده إلا به، فيكون وجوده شرطاً في وجوده، بأن يقال: لا قوام للجسم إلا بطبيعته، ولا قوام لطبيعته إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا

ص: 275

بالمحرك المنفصل الذي هو محبوب معشوق، فغاية ما في هذا أنه لابد من وجود محبوب معشوق، ولا يمكن وجود الجسم المتحرك إلا به، لكن مجرد المحبوب المنفصل لا يكفي في وجود الجسم الممكن الذي ليس بواجب بذاته، ولا في وجود طبيعته، ولا في وجود احتياجه إلى المبدع لذلك، ولا دليلاً على وجود المبدع لذلك كله، بل اكتفوا بوجود المعشوق المنفصل.

وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم، لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم، الذي ينقله أصحابه عنهم، فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان، ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله، ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق.

وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي، وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده، فكيف إذا أخذ الكلام أولئك على وجهه؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله، أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له.

ولا ريب أن الفلاسفة أتباع أرسطو يقل جهلهم ويعظم علمهم، بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم، فكل بالنبوات أعلم وإليها أقرب، كان عقله ونظره أصح.

ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة ويوجد لأبي البركات صاحب المعتبر من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا.

وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات.

ص: 276

ثم إنهم مع أنهم لم يذكروا المبدع للأجسام الممكنة المتحركة، اللهم إلا أن يكون هؤلاء قائلين بأن الأجسام الفلكية المتحركة واجبة الوجود بنفسها، وأنها مع ذلك مفتقرة إلى المحرك الأول.

وهذا حقيقة قول أرسطو، فهذا أعظم في التناقض، فإنه إذا قدر إن الأجسام الفلكية واجبة الوجود بنفسها، وهي متحركة حركة تفتقر فيها إلى غيرها، كان واجب الوجود متحركاً مفتقراً في حركته إلى غيره.

وحينئذ فكونه متحركاً لا يفتقر في حركته إلى غيره أولى، فإنهم حينئذ يكونون قد أثبتوا واجباً بنفسه لا يتحرك أصلاً، وواجباً بنفسه يفتقر في الحركة إلى محبوب غيره، لا قوام له إلا به.

وحينئذ فإثبات واجب يتحرك لا يفتقر في الحركة إلى غيره، أولى بالإمكان من هذا، فإن كلاهما متحرك، لكن هذا يفتقر إلى غيره، وهذا مستغن عنه.

هم قد جعلوا على هذا التقدير واجب الوجود بنفسه اثنين: واجباً لا يفتقر إلى غيره، وواجباً يفتقر إلى غيره.

فإذا قدر واجباً يتحرك بنفسه لنفسه، من غير افتقار إلى غيره، كان أولى بالجواز، ولم يكن في ذاك محذور، إلا لزمهم فيما أثبتوه ما هو أشد منه، وسيأتي تمام كلامهم في ذلك، وقولهم: إن الجسم لا يجوز أن يتحرك بنفسه حركة لا نهاية لها.

فهذا فصل، وهنا فصل ثان، وهو أنهم مع إثباتهم لكون الفعل معلولاً، إنما أثبتوه بكونه محتاجاً إلى معشوق يكون هو مبدأ الحركة الإرادية، من جهة كونه غاية لا فاعلاً، وليس في هذا ما يدل على أن الفلك له علة مبدعة فاعلة له، كما لا يخفى على عاقل.

ص: 277

ثم ادعوا أن ذلك المعشوق الذي هو العلة الغائية لا يجوز أن يكون متحركاً، ولا له حركة أصلاً.

ومن هنا قالوا بقدم العالم، إذ كان حدوث المحدثات يقتضي حركة يحدث بها، فمنعوا حدوث الحوادث عن المعشوق الذي سموه المحرك الأول، لئلا يكون فيه تغير.

وحدوث الحوادث عن علة لا تغير فيها ممتنع بصريح العقل.

وكلامهم في ذلك في غاية التناقض.

وهذا منتهى نظر القوم وعلمهم وحكمهم.

فلما قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر إنساني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ لحركة الجميع فهذا كلامهم.

قلت وقد عرف أنه لم يبين، إن سلم له ما ذكره من المقدمات، إلا أنه لا بد للحركة من محرك، ولم يبين بعد أن المحرك لا يتحرك، ولا أن المحرك للأجسام أمر منفصل عنها.

فقال في بيان ذلك: ولأنه ليس يلزم أن يكون كل عدم أقدم بالزمان من الوجود، فيما علة وجوده شيء غيره، ولا كل الأنظام أقدم من النظام، ولا كل بسيط أقدم من المركب، لأنه ليس كل ما كان تقدمه لغيره، فإن قوام غيره به وبسببه، أو وجود غيره عنه، وجب أن يكون متقدمه في الزمان، وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن الأفضل في المبدأ الأول ما يوجد الأمر عليه، من أنه علة وجود كل موجود، وسبب بقاء كل باق منذ الأبد، من غير أن يكون إنما صار كذلك في زمان، وبعد أن لم يكن كذلك، إذ ليس موجود ولا شيء له بقاء إلا به.

ص: 278

وقال: وذلك أنه لم يزل، ولا وجود ولا قوام للفلك ولسائر الأجسام الطبيعية إلا بالمبدأ الأول، يعني المحرك الأول، إذ صورة كل واحد منها هي حركته الخاصة به، وحركته الخاصة به هي المقومة لجوهره، التي بارتفاعها يرتفع وجوده.

فإذن المحرك الأول علة وجود هذه الحركة.

قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود العالم في زمان.

فيقال له: أنت لم تذكر إلا أنه لا وجود للجسم المتحرك إلا بحركته، وهذا إذا سلم لك لم يدل على أنه مبدع وفاعل له أصلاً، بل ولا يثبت أن له غاية منفصلة عنه، بل ادعيت ذلك دعوى.

نعم: إذا ثبت أن الحركة إرادية فلا بد لها من مراد، أما أن كون المراد منفصلاً عن المتحرك أو غير منفصل، فهذا يحتاج إلى دليل ثان ولم تبينه، ثم إذا بينته يلزم افتقار المتحركات إليه، وكونه شرطاً في وجودها لا يقتضي كونه مبدعاً لها وفاعلاً لها، إذ مجرد العلة الغائية من هذه الجهة، لا تكون هي الفاعلة المبدعة بالضرورة وواتفاق العقلاء، وهم لم يدعوا ذلك.

لكن لو قال قائل غيرهم بجواز أن يكون الأول غاية وفاعلاً، قلنا: نعم، لكن هذا ينقض ما بنوه من حيث يكون فاعلاً للحوادث مبدعاً لها، وهم يأبون ذلك، حيث يكون فيه جهتان: جهة كونه مراداً محبوباً، وجهة كونه فاعلاً مبدعاً.

وهذا إذا قيل: إنه حق، أفسد أصولهم ومذهبهم.

والمسلمون لا ينكرون أن يكون الله رب كل شيء وإلهه، فهو من

ص: 279

جهة كونه رباً هو الخالق المبدع الفاعل، ومن جهة كونه إلهاً هو المعبود المألوه المحبوب.

لكن هذا القول الذي يقوله المسلمون ينقض قولهم ويبطله، فثبت بطلان قولهم على ما ذكروه، وعلى ما يقوله المسلمون.

فتبين أن قوله: إن الأفضل في الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود كلام مبني على محض الدعوى والكذب.

أما الدعوى: فإنه ادعى أن المتحرك لا بد له من معشوق منفصل.

وأما الكذب: فقوله: إن ذلك هو العلة في وجود المتحرك، وإنما هو مجرد شرط، وغايته أن يكون جزءاً من أجزاء العلة في وجوده.

فهذا إذا سلمت المقدمات كلها، وهو أن الفلك يتحرك بالإرادة، وأن المتحرك بالإرادة لا وجود له إلا بحركته، وأن حركته لا بد لها من معشوق منفصل -لم يثبت إلا مجرد كون ذلك شرطاً في وجوده، لا علة تامة لوجوده، فكيف إذا قيل: إن المقدمات الثلاث باطلة، كما هو مذكور في موضعه؟

ثم قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود هذا العالم في زمان.

قال: وكان يجب من هذا أن الأشياء الموجودة لم يكن لها بتة وجود ثم أخرجت إلى الوجود، فيلزم من ذلك أن يكون لوجود العالم علة أخرى مشاركة للعلة الأولى فيه، أو فوق العلة الأولى، لأنه إن لم يكن للعلة الأولى في إخراج العالم إلى الوجود أمر من الأمور، ولا ها هنا علة تعين، أو تدعو العلة الأولى إلى إخراج العالم إلى الوجود غير ذاتها، ولا علة ترتبها

ص: 280

وتعوقها، فليس لتأخر وجود العالم عن وجود ذات العلة الأولى سبب يوجبه، فكيف يمكن أن يتأخر وجود زماناً بلا نهاية، ثم يخرج إلى الوجود، كحال من كان نائماً فانتبه؟.

فيقال لهؤلاء الذين مثلهم، كما قال عبد الله بن عمر، لما سأله بعض الناس عن المحرم يقتل البعوض: انظروا إلى هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

وكما يقال عن بعض الناس إنه كان يزني بامرأة وهو صائم، فقال لها: غطي وجهك فقد كره العلماء القبلة للصائم.

وكما يقال عن بعض النصارى، إذ قال لبعض المسلمين: أنتم تقولون: إن راعياً هو رسول الله، فيقال له: أنتم تقولون: إن جنيناً في بطن أمه هو الله.

ونظائر هذه الأمثال كثيرة، التي ينكر فيها الرجل شيئاً، وقد التزم ما هو أولى بالإنكار منه.

فإن هؤلاء قالوا: إذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن، لزم افتقار العالم إلى شيء غير العلة الأولى.

وهم لم يذكروا أن العلة الأولى أبدعت العالم أصلاً، بل قولهم مضمونه: إن العالم أبدعه غيرها، أو هو واجب آخر بنفسه ليس هو مبدع، ولكن هو محتاج إليها احتياج المحب إلى محبوبه.

وهم لم يثبتوا هذا الاحتياج إلا بمقدمات، إذا حقق الأمر عليهم فيها ظهر جهلهم وتناقضهم.

فغاية ما أثبتوه ليس فيه أن العالم إبداع الأول أصلاً، مع أنهم ينكرون على من جعله محدثاً للعالم، لكون الحادث يفتقر إلى سبب حادث، فهل يكون أعظم تناقضاً من مثل هذا القول؟!

ص: 281

ثم يقال: الأجسام المتحركة: إما أن تكون -أو شيء منها- واجب الوجود بذاته، وإما ألا تكون ولا شيء منها واجب الوجود بذاته.

فإن كان منها شيء واجب الوجود بذاته، بطل ما أثبتوه من أن الواجب بنفسه، وهو العلة الأولى، لا يمكن أن يتحرك، إذ كان على هذا التقدير قد قيل: إن شيئاً واجباً بنفسه هو متحرك.

وعلى هذا التقدير فلا يبقى لهم طريق إلى إثبات محرك لا يتحرك إذا أمكن أن يكون الواجب بنفسه متحركاً.

وإن لم يكن في الأجسام المتحركة ما هو واجب بنفسه، فقد ثبت أن الأفلاك المتحركة كلها ممكنة مفتقرة إلى واجب يكون فاعلاً مبدعاً لها، سواء قيل: إنها قديمة أو حادثة، فإن الممكن لا بد له من فاعل، سواء قيل بقدمه أو حدوثه، إذ كان لا يكون بنفسه.

ولو قيل: إنه لا فاعل له ولا مبدع، كان واجباً بنفسه، فالشيء إما أن يكون وجوده بنفسه، وإما أن يكون وجوده بغيره.

فالأول هو الممكن بنفسه، والثاني هو الواجب بنفسه.

وقد نازعهم من نازعهم في أن الممكن لا يجوز أن يقارن وجود الواجب، بل لا بد من تأخره عنه.

لكن ليس مقصودنا في هذا المقام منازعتهم في ذلك، بل نتكلم على تقدير ما يدعونه من أن الممكن يقارن وجوده وجود الواجب، مع كونه معلولاً موجباً له صادراً عنه، وهم يسمون الواجب علة ومبدعاً وفاعلاً، وقد يسمونه محدثاً، لكن هذه تسمية بعض من أظهر الإسلام منهم، لئلا

ص: 282

يخالف المسلمين في الظاهر، كما فعل ذلك ابن سينا وغيره.

لكن بكل حال لا بد للمكن الذي لا يوجد بنفسه من موجب يوجبه، بل يوجب صفاته وحركاته، لا يكفي في وجوده مجرد وجوده محبوبه، بل لا بد من موجب لذاته وصفاته، بل وموجب لنفس حبه.

ثم إذا قيل: إنه محب لشيء منفصل عنه، لزم احتياجه إلى المحبوب.

وأما كون مجرد المحبوب هو المبدع له، الموجب لذاته وصفاته وأفعاله، من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب، بل لمحض كونه محبوباً -فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده.

وهم، وكل عاقل، يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية، ولا بد من علة فاعلية، فإن جعلوا المحبوب هو العلة الفاعلية، لزم كونه مبدعاً له، وهو المطلوب، وحينئذ يخاطبون على هذا التقدير بما يبين فساد قولهم.

وإن لم يجعلوه مبدعاً له لم يكن لهم دليل على إثبات علة فاعلة لوجود العالم.

وقيل لهم: افتقار الممكن إلى مبدع له ولصفته ولحركته، أبين من افتقاره إلى محبوب له.

قال ثابت بن قرة: وأرسطو طاليس ينكر هذا الرأي المجدد.

والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأى أرسطو: أن العالم أبدي، أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه- ظن كاذب.

فيقال له: الذين يظنون هذا يقولون: إن هذا لازم لأرسطو، لأنه لم يثبت أن العالم معلول بعلة فاعلة مبدعة له، وإن كان مقارناً لها.

بل إنما

ص: 283

أثبت بما ادعاه من المقدمات أنه لا بد من محبوب يتحرك لأجله، وليس مجرد كون الشيء محبوباً يوجب أن يكون علة فاعلة مبدعة لمحبة، فلهذا ألزموه ذلك.

ثم هذا اللازم له: إن اعتقده وإن لم يعتقده يقتضي بطلان قوله، لأن إذا كان العالم واجباً بنفسه ليس له مبدع، مع كونه مفتقراً إلى محبوب له، كما يقوله أرسطو، لزم كون الواجب بنفسه مفتقراً إلى شيء منفصل عنه في بعض صفاته.

وحينئذ فإذا قيل بأن الواجب المبدع للعالم مفتقر إلى شيء بعينه على إبداع العالم، لم يكن باطلاً على هذا القول الذي يلزم أرسطو.

وأيضاً فعلى هذا التقدير إذا كان الواجب بنفسه متحركاً لغيره، فلأن يكون متحركاً لنفسه أولى وأحرى، وأرسطو أبطل كون الأول متحركاً بحجج تنقض مذهبه.

قال ثابت: وأرسطو طاليس يقول: فإن كان الأمر كما يظن من رأى أن للعالم ابتداءً زمانيا، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إخراج العالم إلى الوجود بعد أن لم يكن موجوداً زمانا بلا نهاية؟ وما هذه العلة الباعثة للعلة الأولى على ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة؟.

فيقال له: هذا كله يبين فساد قولك، فإنه يقال: إما أن يكون العالم واجب الوجود بنفسه، وإما أن يكون ممكناً.

فإن كان واجباً بنفسه، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إحداث ما فيه من الحوادث، وحركته المتحددة، وتحريكه لما يحركه؟ وما هذه العلة الباعثة للواجب بنفسه على

ص: 284

ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة له عن إحداث الحوادث المتأخرة؟ فإنه لا يزال تحدث فيه أمور بعد أمور، فما الموجب لتأخر هذه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة؟

فأي شيء أجاب به عن ذلك كان جواباً له.

فإن قال: ليستكمل الشروط التي بها تتم الحوادث فقد جوز أن يكون فعل الواجب الوجود لا يتم إلا بشروط تحدث، وحينئذ فيجوز أن يقال: إن الموجب لتأخر فعله للعالم لتتم شروط إحداثه للعالم، إذ كان فعل الواجب بنفسه، على هذا التقدير، قد يتوقف على الشروط التي بها يحدث.

وإن قال: إن العالم ممكن.

قيل له: فلا بد له من واجب فعله.

وحينئذ فقد فعله على الوجه الذي هو عليه من تأخر الحوادث، فما الذي أوجب للفاعل أن يؤخر ما يحدث من الحوادث؟ وما الذي دعاه إلى إخراج الحوادث إلى الوجود بعد أن لم تكن؟ وما العلة الباعثة للفاعل إلى ذلك؟

وأيضاً فيقال لهم: إن كان ممكناً صادراً عن الواجب، فما الذي أوجب الأول أن يفعله؟ وما الذي دعاه إلى ذلك؟

فإن قالوا: مجرد ذاته المجردة أوجبت ذلك.

قيل: فإذا كانت موجبة لما يصدر عنها، لا يقف شيء من فعلها على غير الذات المجردة، وجب اقتران كل ما صدر عنها بها، ووجب اقتران الصادر عن الصادر به، فحينئذ لا يتأخر شيء عن العالم، بل يكون كله

ص: 285