الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما، وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها.
وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وغيرهما.
بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس، وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية.
فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته، وهكذا، مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية، يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته، فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع، والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم.
كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية
قال أبو الخطاب في تمهيده: (اختلف أصحابنا: هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فقال أبو الحسن التميمي: في قضايا العقل ذلك، حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجاباً، كشكر المنعم، والعدل، والإنصاف، وأداء الأمانة، ونحو ذلك.
ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظوراً، نحو الظلم، والكذب، وكفر النعمة، والخيانة، وما أشبه ذلك) .
قال: (وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة) .
قال: (وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى -: (ليس قضايا العقل ذلك، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، وإنما هو الاتباع) .
قال أبو الخطاب: (وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها) .
قلت: قول أحمد: (لا تدركها العقول) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه وسلم، فإنها لو أدركت ذلك، لكان علم الناس كعلم الرسول.
ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئاً أمر به ونهي عنه.
ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معياراً على السنة، ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة) .
قال أبوالخطاب: (ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة، وهم الجهمية) .
قال: (وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله: هل هي واجبة بالشرع، حتى لو لم يرد ما يلزم أحداً أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا؟ فمن قال: يجب بالشرع، يقول: لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع.
ومن قال بالأول: قال: يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له.
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر، لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره، ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة، إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم.
وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب، وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص، وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء، والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها.
ولما وجب اطراح هذا القول، والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب، متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة، ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة) .
قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين.
ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح، كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه، وإن كان ذلك ممكناً مقدوراً له، لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة.
وهم يقولون: إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء.
والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه، وابن حامد، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق.
وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه، والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة، فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل.
وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر، وأبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.
وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل.
بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله، كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، والفلاسفة وغيرهم.
قال أبوالخطاب: (دليل آخر: أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه، إذ لو كانا قادرين على ذلك، لكان هو أيضاً قادراً، وكانا يقدران على خلق غيره.
وهو يعلم أنهما لا يقدران، فيعلم أن له خالقاً من غير جنسه خلقه وخلق أبويه، ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك، كإقداره عليهم، ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه، وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر.
فإن قيل: كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم، يجوز أن يخطر له أن له خالقاً أنعم عليه، وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه.
ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول: من أنت حتى تقابلني بالشكر، وتعتقد أنه جزاء نعمتي؟ وما أصنع بشكر مثلك؟ ونحو ذلك.
وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله) .
قال: (والجواب: أن العاقل، مع اعترافه بحكمة خالقه، لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه، وإن كان غنياً عن ذلك، لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر، ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه، فيمتنع، لعلمه بغناه عن ذلك.
وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل.
والتعظيم للمنعم من بدائه العقول.
والحكيم لايسخط ما هذا سبيله.
فإذاً قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر، ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه، فيجب في عقله توخي ذلك.
وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل: في الطريق مفسدون، يأخذون المال ويقتلون النفس، أو سباع تفترس الآدمي.
ويقال له: أنت ما معك قليل نذر، والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا، فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك.
والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا، فلعلهم لا يعرضون لك.
فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه، كذلك ها هنا) .
قلت: مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف.
قال: (دليل ثالث: أنه لو لم يكن في قضاء العقول: إلزام وحظر، لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلاً، لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب.
كما أخبر الله عن قوم نوح: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا} ، فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك، وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره، ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر، وحظر الإعراض عنه، وذلك وصية العقل لا السمع) .
قال: (دليل رابع: أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة، وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم: من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها.
ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان، بل أكثر.
فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء.
وإذا ثبت أن فيها تحسيناً وتقبيحاً، ثبت أن فيها حظراً وإباحة.
وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل.
دليل خامس: أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل، ويسقطان مع عدمه، فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنىً.
وإذا قد وجدنا ذلك، دل على أن في العقل حظراً أو إلزاماً.
دليل سادس: أن التكليف محال إلا مع العقل، ولهذا لا يكلف الشرع شيئاً إلا بعد كمال عقولنا.
فدل على أن السمع يعلم بالعقول.
وإذا كان معلوماً به، والعقل متقدم عليه، ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال: طريق معرفة الله السمع.
وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول؟ ولا نعلم أنه رسول
حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل، الذي هو نوع من العلوم الضرورية؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل.
دليل سابع: لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته، وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب، كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات، ويوجب ما كان قد نهى عنه.
فلما لم يكن ذلك، دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع، وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير، ولا يجوز نكثه ونسخه.
دليل آخر: أن الله وهب العقل وجعله كمالاً للآدمي.
وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيراً، وإذا كان لا يقبح شيئاً ولا يحسنه، فوجوده وعدمه سيان، وهذا لا يقوله عاقل.
وأيضاً يدل على ذلك عبارة ملخصة: أن من وجد نفسه مؤثراً بآثار الصنعة، مستغرقاً في أنواع النعمة، لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه، وتولى تدبيره، وأنعم عليه، وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره، عوقب على ما أغفل من النظر، وضيع من الاعتراف والشكر، فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله، إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر، فدل على وجوبه بالعقل) .
قلت: هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب، كما ذكر في موضعه.
وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب، وغيره من أهل النظر: من المعتزلة وغيرهم، بنوها على أن معرفة الله تحصل
بالاستدلال بنفس الإنسان، ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام، كما سلك الأشعري أيضاً هذه الطريقة.
قال أبو الخطاب: (احتج الخصم بظواهر الآية، كقوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، ولم يقل: حتى نجعل عقولاً.
وقوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} ، ولم يقل: بعد العقل.
وقوله: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} ، وغير ذلك من الآيات، فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل.
فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب) .
وقال: (والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام، وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال، ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود، ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد، ويكونوا شهوداً على أعمالهم.
وقد قال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} .
وقال: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} .
وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم، ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل
والتشبه، بالحكمة التي جعلها الله فيهم، والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل، وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق، والرسول لعله متخرص متمترق، لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة، وهو يتوهم فيها ما ذكرنا.
إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول، وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب، وعرف محكم الكتاب من متشابه، وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها، فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله) .
قال: (فإن قيل: هذا توهين لأمر الرسل، وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئاً، وإنما يفيد بعثهم في الفروع، وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه) .
ثم قال: (والجواب: أنا نقول: بل لهم في الأصول أعظم فائدة، لأنهم ينبهون العقول الغافلة، ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر، ليسهل سبيل الوقوف عليها.
كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز، ويبين له مواضع الحجة والفائدة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته.
وأيضاً فإنه بعثهم لتأكيد الحجة، فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا: خلقت لنا الشهوات، وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا.
فقطع الله سبحانه حجتهم
ألا ترى أنه تعالى قال: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} ، فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر، ثم التدبر للتنبيه) .
قلت: فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل، وأنها لا تحصل إلا بالعقل، ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر، كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة، إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه، من كتب المصنفين، لا تقليداً لهم فيما ذكروه، لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله.
فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب، وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة، والطرق الموصلة، التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة، أعظم من كلام كل متكلم، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ، بل تجب قبل البلوغ، بخلاف الواجبات الشرعية.
قال: (واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر، لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه.
ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلاً؟ ولو كان ذلك كذلك، لكان من أنكر الحسن والقبح مكابراً لعقله مغالطاً لنفسه، لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر) .
قال: (والجواب أن للحسن والقبح أصلاً في بدائه العقول، وهو علمنا بحسن شكر المنعم، والإنصاف، والعدل، وقبح الكذب، والجور، والظلم.
ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء.
إلا أن من العقلاء من قال: لا أعرف ذلك بضرورة العقل، وإنما أعرفه بالنظر والخبر.
فذلك مقر بالحسن والقبح، ومدع غير طريق الجماعة فيه، فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك، كما يعلمه أهل الأديان، فسقط أن يكون طريقه إلا العقل.
وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع.
ولا يقال: إن مخالفنا مكابر عقله.
واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاماً وحظراً، على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه، فإذا ثبت هذا، قلنا: يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر، لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة، وما أشبه ذلك.
وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها، والتفتنا إلى ما تؤثر به، وهو خبر الشرع.
فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك) .
وقال: (والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه، فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة، سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام.
ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة.
ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سبباً لهلاكه وعقابه، وأن يكون ضده سبباً
لنجاته، فإنه يلزمه النظر في ذلك، سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان.
فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء، ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه، ثم ذلك خاطر عقلي، ولا يقال: يقف على تنبيه الشرع) .
قال: (واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ، وليس العقل موصوفاً بذلك، من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلاً، وإنما ذلك عقل قبل بلوغه، فبان أن العقل لا يوجب شيئاً ولا يحظره.
وقال: (الجواب: أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة.
فأما الأحكام المتستفادة بالعقل، فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح، فلا نسلم ما ذكروه) .
قلت: هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه.
فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان: وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ.
وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم، قالوا: وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة.
وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى
عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض، وخلق نفسه، وسائر خلق ربه.
قالوا: ويروى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم.
قالوا: وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة، حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل: إنه يجب عليه معرفة الله، وإن لم يبلغ الحنث.
قالوا: وهو قول كثير من مشايخ العراق.
ومنهم من قال: لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ، كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق) .
قلت: هذا الثاني قول أكثر العلماء، وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كما يقول به هؤلاء الحنفية، وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة، وأن الأعيان قبل ورود الشرع، هل هي على الحظر أو الإباحة؟ لا يصح إلا على قول من يقول: إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة.
وأما من قال: إن العقل لا يعلم به ذلك، ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظراً أوإباحة، فقد تناقض في ذلك.
وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت.
كقول طائفة: إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة، ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة، وليس هذا موضع بسط ذلك.
لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم:«رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» .
وهو معروف في السنن وغيرها، متلقى عند الفقهاء بالقبول، من
حديث عائشة وغيرهما.
وأيضاً فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء.
وأيضاً فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار: هل يدخلون الجنة أو النار، أو يتوقف فيهم؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره، بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم.
وذهب طائفة إلى أنهم في النار، كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره.
وذكروا أن أحمد نص على ذلك، وهو غلط عن أحمد.
فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفي الصحيح أيضاً من حديث ابن عباس.
لكن هذا الحديث روي أيضاً في حديث يروى «أن خديجة سألته عن أولادها من غيره، فقال: هم في النار.
فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» .
فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث
خديجة، كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد.
وهذا غلط على أحمد.
فإن هذا الحديث ضعيف، بل موضوع.
وأحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث، والحديث متناقض، ينقض آخره أوله.
وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة، كأبي الفرج بن الجوزي وغيره.
والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة، كما جاء في ذلك عدة آثار.
وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث، وقد بسطنا هذا فيما تقدم.
والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة، بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف، كالقتل والقطع، لا تكون إلا لبالغ.
لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال: الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ.
وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف.
فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان.
بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة، فضربهم على الكذب والظلم أولى.
وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع: أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته.
وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي، نظير النزاع في الواجبات الشرعية، فإن أحد القولين في مذهب أحمد، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز: أن الصلاة تجب على ابن عشر.
وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه.
وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا.
بل يقال: لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال: إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه، فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق.
وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره، والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله، فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين، بل يجب ذلك في مال المجنون أيضاً، وفي مال الطفل.
وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه، وغير ذلك من أقواله وأفعاله، كلام معروف، ليس هذاموضع بسطه.
وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم، ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه، وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيماً للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر، ويحسن ويقبح، كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك، ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء.
وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم، فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح، كما نقله أبو الخطاب عنهم.
ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم: إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات، لما رأى الناس أنه يناقض ذلك، صاروا