المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌فصل

- ‌كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام أبي الحسين البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام السهرودي المقتول في "التلويحات

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام الآمدي في "دقائق الحقائق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الآمدي في أبكار الأفكار

- ‌الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌شرح الرازي لكلام ابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة

- ‌فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌الوجه السابع عشر

- ‌الوجه الثامن عشر

- ‌الوجه التاسع عشر

- ‌الوجه العشرون

- ‌الوجه الواحد والعشرون

- ‌الوجه الثاني العشرون

- ‌الوجه الثالث العشرون

- ‌الوجه الرابع العشرون

- ‌بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه

- ‌بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

بخلاف إضافته إلى غير المكلفين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجشمي:«أرب إبل أنت أم رب شاء؟» وقولهم: رب الثوب والدار.

فإنه ليس في هذه الإضافة ما يقتضي عبادة هذه الأمور لغير الله، فإن هذا لا يمكن فيها، فإن الله فطرها على أمر لا يتغير، بخلاف المكلفين، فإنهم يمكن أن يعبدوا غير الله، كما عبد المشركون به من الجن والإنس غيره، فمنع من الإضافة في حقهم تحقيقاً للتوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.

ولهذا لم يكن شيء يستلزم جود المفعولات إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وإن لم يشأ ذلك غيره، وما لم يشأ لا يكون، ولو شاءه جميع الخلق.

‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

فصل.

عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

وإذا عرف أنه ليس في المخلوقات ما هو مستقل بمفعول ولا معلول، فليس في المخلوقات ما هو رب لغيره أصلاً، بل فعل كل مخلوق له فيه شريك، وقد يكون له مانع، وهذا مما يدل على إثبات الصانع تعالى ووحدانيته، كما نبه عليه في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أنه من المعلوم بنفسه أنه لا يكون اثنان مستقلين بفعل، ولا يكون مفعول واحد قد فعله كل من الاثنين، ولا يكون نفس

ص: 342

مفعول الفاعل الواحد قد شاركه فيه غيره، فحيث حصلت المشاركة لم يكن هناك مفعول واحد لفاعل واحد، فإن الوحدة تناقض الشركة، ومفعولات المخلوقات لا بد فيها من الاشتراك، لكن لا يفعل أحد الشريكين نفس فعل الآخر، فلا تفعل اليد ما تفعله العين، ولا يفعل الدماغ ما يفعله القلب، وإن كان كل منها مفتقراً إلى غيره في فعله.

فكذلك السفينة إذا كان فيها ربانان، أو كان للقرية رئيسان، أو للمدينة ملكان، لم يمكن أن يكون فعل هذا هو نفس فعل هذا، بل يفعل هذا شيئاً وهذا شيئاًن وما يفعله كل منهما لا يفعله الآخر.

فلهذا قال هذا الرجل: إنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، وقوله: من نوع واحد -إن كان زيادة إيضاح، وإلا فلا حاجة إليه، فإنه لا يمكن أن يكون عن فاعلين فعل واحد، سواء كان فعلهما نوعاً واحداً أو نوعين مختلفين، بل الامتناع هنا أظهر.

وقوله: متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة، أو تمانع الفاعل، فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن فاعل واحد فحقيقته أن يقال: بل يمتنع الفعل والحال هذه، فلا يمكن وقوعه حتى يقال: إن المحل يفسد أو لا يفسد.

ولكن هو ظن -كما ظن من ظن من المتكلمين- أن الإله هو بمعنى الرب، وأن دلالة الآية على انتفاء إلهين إنما دلت به على انتفاء ربين فقط، وذلك يظهر بتقدير امتناع الفعل من ربين.

ص: 343

وسنبين إن شاء الله أن الآية دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا، وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم، ولا أثبت أحد إلهين متماثلين، ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال، ولا أثبت أحد قديمين متماثلين، ولا واجبي الوجود متماثلين.

ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله في الإلهية بعبادة غير الله تعالى، واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها، كما فعل عباد الشمس والقمر والكواكب والأوثان، وعباد الأنبياء والملائكة أو تماثيلهم ونحو ذلك.

فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين.

وقد قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25] .

وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84-89] .

وقال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] .

والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية، وذلك متضمن لتوحيد الربوبية.

كما قال كل منهم لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59] .

ص: 344

وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45] .

وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25] .

وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] .

وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون به، وذلك وحده لا ينفع.

وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة، يظنون أن هذا هو غاية التوحيد، كما يظن ذلك من يظنه من الصوفية، الذين يظنون أن الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية.

وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.

فإن هذا التوحيد -الذي هو عندهم الغاية- قد كان مشركو العرب يقرون به، كما أخبر الله عنهم.

ولكن كثير من الطوائف قصر فيه، مع إثباته لأصله، كالقدرية الذين يخرجون أفعال الحيوان عن قدرة الله ومشيئته وخلقه، ولازم قولهم حدوث محدثات كثيرة بلا محدث.

وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم، فلازم قولهم أن الحوادث جميعها ليس لها فاعل.

ثم هم يجعلون بعض مبدعات الرب هي الفاعلة لما سواه، كما يزعمون مثل ذلك في العقل.

ص: 345

ومشركو العرب كانوا خيراً في التوحيد من هؤلاء، فإن هؤلاء غايتهم أن يثبتوا أسباباً لبعض الموجودات.

لكن الأسباب لا تستقل، بل تفتقر إلى مشارك، وانتفاء معارض، وقد يثبتون أسباباً وعللاً لا حقيقة لها، كالعقول التي يزعمون أنها أبدعت ما سواها.

وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولاً بإلهين، لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات، وأما الظلمة -التي هي فاعل الشرور- فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور.

وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولاً للنور.

لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين، فجعلوه فاعلاً لأصل الشر، ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص، وجعلوها سبباً لحدوث أصل الشر.

والقول الآخر قولهم: إن الظلمة قديمة كالنور.

فهؤلاء أثبتوا قديمين، لكن لم يجعلوها متماثلين ولا مشتركين في الفعل، بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر.

ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب

ص: 346

وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي: واجب الوجود، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء، وأن سبب حدوث العالم أن النفس تعلقت بالهيولى، فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم، فتذوق ما فيه من الشرور.

وسبب قوله هذا القول أنه كان يقول بحدوث العالم، وطولب بسبب حدوثه، فأثبت نوعاً من الحركات سماها الحركة الفلتية، وشبهها بالريح والصوت الذي يخرج من الإنسان بغير اختياره، وجعل عشق النفس للهيولى من هذا الباب، وظهر الناس جهله في إلحاده، فإن هذه الحركة على أي وجه كانت حادثة بعد أن لم تكن، فيسأل عن سبب حدوثها، كما يسأل عن سب حدوث حركة أخرى، فلم يتخلص بهذا الجهل من السؤال.

والمقصود أن كثيراً من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات، أو حدوث بعض الحوادث، إلى غير الله.

وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب.

وهم مع شركهم، وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية، لا يثبتون مع الله شريكاً مساوياً له في أفعاله ولا في صفاته.

ص: 347

وإما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر، بل تفتقر إلى مشارك معاون، وانتفاء معارض مانع، وجعلها مخلوقة لله -فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن، ودل عليه العيان والبرهان.

وهو من دلائل التوحيد وآياته، ليس من الشرك بسبيل، فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات.

والمقصود هنا أن هؤلاء اعتقدوا أن قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] ، إنما يدل على نفي الشركة في الربوبية، وهو أنه ليس للعالم خالقان، ثم صار كل منهما يذكر طريقاً في ذلك.

فهذا الفيلسوف ابن رشد قرر هذا التوحيد كما تقدم.

قال: وأما قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يعقل في الآلهة المختلفة الأفعال، التي لا يكون بعضها مطيعاً لبعض، أن لا يكون عنها موجود واحد، بل موجودات كثيرة، فكان يكون العالم أكثر من واحد، وهو معنى قوله:{إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، ولما كان العالم واحداً، وجب أن لا يكون موجوداً عن آلهة كثيرة متفننة الأفعال.

قلت: لما قرر أولاً امتناع ربين فعلهما واحد، قرر امتناع أرباب تختلف

ص: 348

أفعالهم، فإن اختلافهم الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحداً والعالم واحداً.

وكلامه في تفسير هذا الآية بهذا، من جنس كلامه في تفسير تلك الآية بذاك.

قال: وأما قوله تعالى: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، فهي كالآية الأولى، أعني أنه برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد.

ومعنى هذه الآية: أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله قادرة على إيجاد العالم وخلقه، غير الإله الموجود، حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له، لوجب أن يكون على العرش معه.

فكان يوجد موجودان متماثلان ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإن المثلين لا ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، لأنه إذا اتحدت نسبته اتحد المنسوب، أعني أن يكونا بالمحل، وإن كان الأمر في نسبة الإله إلى العرش ضد هذه

ص: 349

النسبة أعني أن العرش يقوم به، لا أنه يقوم بالعرش.

ولذلك قال: {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] .

قلت: قد سلك في هذه الآية هذا المسلك الذي ذكره.

والآية فيها قولان معروفان للمفسرين: أحدهما: أن قوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، أي بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له.

والثاني: بالممانعة والمغالبة.

والأول هو الصحيح، فإنه قال:{لو كان معه آلهة كما يقولون} [الإسراء: 42]، وهم لم يكونوا يقولون: إن آلهتهم تمانعه وتغالبه.

بخلاف قوله: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، فهذا في الآلهة المنفية، ليس فيه أنها تعلوا على الله، وأن المشركين يقولون ذلك.

وأيضاً فقوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، يدل على ذلك، فإنه قال تعالى:{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} [المزمل: 19] ، والمراد به اتخاذ السبيل إلى عبادته وطاعته، بخلاف العكس، فإنه قال:{فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء: 43]، ولم يقل: إليهن سبيلاً.

وأيضاً فاتخاذ السبيل إليه مأمور به، كقوله:{وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة: 35]، وقوله: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه

ص: 350

فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 56-57] .

فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة.

فهذا مناسب لقوله: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] .

وليس المقصود هنا بسط الكلام على ذلك، إذ المقصود بيان ما ذكره في طرق المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية.

قال: فهذا هو الدليل الذي بالطبع والشرع في معرفة الوحدانية.

وإنما الفرق بين الجمهور وبين العلماء في هذا الدليل أن العلماء يعلمون من اتحاد العالم وكون أجزائه بعضها من أجل بعض، بمنزلة الجسد الواحد، أكثر مما يعلمه الجمهور من ذلك.

ولهذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في آخر الآية: {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} [الإسراء: 43-44] .

قال: وأما ما يتكلفه الأشعرية -يعني والمعتزلة- من

ص: 351

الدليل الذي يستنبطونه من هذه الآية، وهو الذي يسمونه دليل التمانع، فشيء ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية ولا الشرعية.

أما كونه ليس يجري مجرى الطبع، فلأن ما يقولون في ذلك ليس برهاناً، وأما كونه ليس شرعياً لا يجري مجرى الشرع، فإن الجمهور لا يقدرون على فهم ما يقولون من ذلك، فضلاً عن أن يقع لهم به إقناع، وذلك أنهم قالوا: لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا، وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها: إما أن يتم مرداهما جميعاً، وإما أن لا يتم مراد أحدهما ويتم مراد الآخر، وإما أن لا يتم مراد واحد منهما.

قالوا: ويستحيل أن لا يتم مراد واحد منهما، لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان العالم لا موجوداً ولا معدوماً.

ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً، لأنه كان يكون العالم موجوداً معدوماً معاً.

فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما، ويبطل مراد الآخر.

والذي بطلت إرادته عاجز، والعاجز ليس بإله.

ص: 352

قال: ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا، قياساً على المريدين في الشاهد، كذلك يجوز أن يتفقا، وهو الأليق بالإلهية من الاختلاف.

وإذا اتفقا على صناعة العالم، كانا مثل الصانعين: اتفقا على صنع مصنوع ما.

وإذا كان هذا هكذا، فلا بد أن يقال: إن أفعالهم -ولو اتفقا- كان تتعاوق لورودهما على محل واحد، إلا أن يقول قائل: ولعل هذا يفعل بعضاً والآخر بعضاً، أو لعلهما يفعلان على المداولة، إلا أنه هذا التشكيك لا يليق بالجمهور.

والجواب في هذا لمن يشكك من الجدليين في هذا المعنى: أن الذي يقدر على اختراع البعض يقدر على اختراع الكل، فيعود الأمر إلى قدرتهما على كل شيء، فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا، وكيفما كان يتعاوق الكل.

ص: 353

وأما التداول، فهو نقص في حق كل واحد منهما.

والأشبه أن لو كانا اثنين أن يكون العالم اثنين.

فإذاً العالم واحد، فالفاعل واحد.

فإن الفعل الواحد إنما يوجد عن واحد، فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله:{ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، من جهة اختلاف الأفعال فقط، بل من جهة اتفاقهما، فإن الأفعال المتفقة تتعاوق في ورودها على المحل الواحد، كما تتعاوق الأفعال المختلفة.

قال: وهذا هو الفرق بين ما فهمناه نحن من الآية، وما فهمه المتكلمون، وإن كان قد يوجد في كلام أبي المعالي إشارة إلى هذا الذي قلناه.

قلت: بل الذي ذكره النظار عن المتكلمين، الذي سموه دليل التمانع، برهان تام على مقصودهم.

وهو امتناع صدور العالم عن اثنين وإن كان هذا هو توحيد الربوبية.

والقرآن يبين توحدي الإلهية وتوحيد الربوبية.

لكن المقصود هنا أن اعتراض هذا على دليل نظار المتكلمين هو اعتراض مشهور، قد ذكره غيره، وظنوا أنه اعتراض قادح في الدلالة، كما ذكر ذلك الآمدي وغيره.

وحتى ظن بعض الناس أن التوحيد إنما يعرف بالسمع.

وليس الأمر كما ظنه هؤلاء، بل هو برهان صحيح عقلي.

كما قدره

ص: 354

فحول النظار، وكما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع، وأفردت مصنفاً للتوحيد.

وذلك أن هؤلاء النظار قالوا: إذا قدر ربان متماثلان فإنه يجوز اختلافهما، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر، وحينئذ: إما أن يحصل مراد أحدهما، أو كلاهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما.

والأقسام الثلاثة باطلة، فيلزم انتفاء الملزوم.

أما الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حياً ميتاً، متحركاً ساكناً، قادراً عاجزاً، إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر.

وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما، لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية.

وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما، لزم ارتفاع القسمين المتقابلين، كالحركة والسكون، والحياة والموت، فيما لا يخلو عن أحدهما.

وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر، كان النافذ مراده هو الرب القادر، والآخر عاجزاً ليس برب، فلا يكونان متماثلين.

ص: 355

فلما قيل لهم: هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما.

أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس مفعول الآخر، فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول، يمنع استقلال الآخر به، بل لا بد أن يكون مفعول هذا متميزاً عن مفعول هذا.

وهذا معنى قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] .

وهذا ممتنع، فإن العالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطاً يوجب أن الفاعل هذا ليس هو مستغنياً عن فاعل الآخر، لا حتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض.

وأيضاً فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض، فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما، إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما.

وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادراً، فإنهما إذا كانا قادرين، لزم جواز اختلاف الإرادة.

وإن قدر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة، بل يجب اتفاق الإرادة، كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما، فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده لآخر ويفعله، لزم أن لا يكون واحد منهما قادراً، إلا إذا جعله الآخر قادراً، ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر.

ص: 356

وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد منهما قادراً، فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل، إلا ما يريده الآخر ويفعله، والآخر كذلك، وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين، لم يكن هذا قادراً مريداً، حتى يكون الآخر قادراً مريداً.

وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادراً مريداً، كان هذا دوراً قبلياً، وهو دور في الفاعلين والعلل.

كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا، ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر، فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل، ولم ينازع العقلاء في امتناع ذلك، وهذا يسمى الدور القبلي.

بخلاف ما إذا قيل: لا يكون هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأمور المتلازمة، فإن هذا يسمى الدور المعي الاقتراني.

وذلك جائز، كما إذا قيل: ذات الرب لا تكون إلا مع صفاته اللازمة لها، وصفاته اللازمة لها لا تكون إلا مع ذاته، وقيل: لا تكون حياته إلا مع علمه، ولا علمه وحياته إلا مع قدرته، ونحو ذلك.

فتبين أنه يمتنع أن تكون قدرة كل منهما مستفادة من قدرة الآخر.

وإن قيل: بل كل منهما قادر مريد، من غير أن يستفيد أحدهما ذلك من الآخر.

وهو دور معي لا قبلي، كان هذا أيضاً باطلاً.

فإنه حينئذ يجب أن تكون قدرة كل منهما من لوازم ذاته، فلزم أن صانع العالم لا بد أن يكون قادراً، قدرة لا يحتاج فيها إلى غيره، بل تكون من لوازم ذاته، وهذا حق.

ص: 357

وحينئذ فإذا قدر ربان، لزم أن يكون كل منهما قادراً قدرة لازمة لذاته، لا يحتاج فيها إلى غيره، فيكون الفعل بتلك القدرة ممكناً، فيلزم أن يكون الرب قادراً متمكناً من الفعل بمجرد قدرته، لا يحتاج في ذلك إلى غيره.

وحينئذ فيمتنع وجد ربين: كل منهما كذلك، لأنه إذا كان كل منهما قادراً بنفسه على الفعل، أمكنه أن يفعل دون الآخر، وأمكن الآخر أن يفعل دونه، وهذا ممتنع، فإنه إذا فعل أحدهما شيئاً، امتنع أن يكون الآخر فاعلاً له، أو شريكاً فيه، مع استقلال الأول بفعله، فيلزم عجز كل منهما عما يفعله الآخر، ويلزم أنه لا يمكنه الفعل إن لم يمكنه الآخر منه، فلا يفعله هو، فيلزم أن يكون كل منهما عاجزاً غير قادر على الفعل.

وقد تبين أنه لا بد أن يكون كل منهما قادراً على الفعل، فيلزم الجمع بين النقيضين، ويلزم أيضاً أنه لا يكون هذا قادراً إلا إذ كان الآخر غير قادر، فيلزم أن يكون كل منهما قادراً غير قادر، وهذا جمع ثان بين النقيضين.

فتبين أن الخالق لا بد أن يكون قادراً بنفسه على الاستقلال بالفعل.

وهذا وحده برهان كاف.

وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر، فيلزم علو بعضهم على بعض.

ص: 358

ولهذا بين الله تعالى في كتابه: أن كل واحد من ذهاب كل إله بما خلق، ومن علو بعضهم على بعض، برهان قاض بأنه ليس مع الله إله.

كما قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] .

فجعل هنا لازمين، كل منهما يدل على انتفاء الملزوم.

أحدهما قوله: {إذا لذهب كل إله بما خلق} فإن الإله لا بد أن يكون قادراً مستقلاً بالقدرة على الفعل، لا يحتاج في كونه قادراً إلى غيره، كما تقدم من أنه لو كانت قدرة أحدهما يحتاج فيها إلى من يجعله قادراً، كان ذلك ممتنعاً.

فإن الذي يجعله قادراً: إن كان مخلوقاً له، فهو الذي جعل المخلوق قادراً، فلو كان المخلوق هو الذي جعله قادراً، كان هذا دوراً ممتنعاً، كما يمتنع أن يكون المخلوق خالقاً للخالق.

وإن كان قديماً واجباً بنفسه مثله.

كان القول في قدرته كالقول في قدرة الآخر.

فإن كانت قدرته من لوازم ذاته، لا يحتاج فيها إلى غيره، ثبت المدعى.

وإن كان يحتاج فيها إلى غيره، لم يكن قادراً حتى يجعله ذلك الآخر قادراً، وهذا دور ممتنع، كما يمتنع أن لا يكون أحدهما موجوداً أو عالماً حتى يجعله الآخر موجوداً وعالماً، فإنه حينئذ يكون كونه موجوداً وقادراً وعالماً، مستفاداً من الآخر ومفعولاً له، فلا يكون هذا حتى يكونه هذا، ولا يكون هذا حتى يكونه هذا.

فلا يكون هذا ولا هذا.

ص: 359

وهذا أعظم امتناعاً من أن يقال: لا يكون الشيء حتى يكون نفسه، فإنه ذلك يقتضي كون نفسه فاعلة لنفسه ومتقدمة عليها.

وهذا وإن كان ممتنعاً في صريح العقل، فكونه فاعلاً لفاعل نفسه، ومتقدماً على المتقدم على نفسه، أبلغ في الامتناع.

فإذا كان يمتنع أن لا يكون الواحد قادراً، حتى جعل نفسه قادراً، فكون كل منهما لا يكون قادراً، حتى يجعله الآخر قادراً -أولى بالامتناع.

وذلك أنه لا يجعل نفسه قادراً حتى يكون هو قادراً، فيلزم أن يكون حينئذ قادراً غير قادر.

وكذلك يلزم إذا لم يكن أحدهما قادراً ألا يجعل الآخر، أن يكون كل منهما قادراً غير قادر مرتين: حين جعل مجعوله قادراً، وحين جعله مجعوله قادراً.

ولما كان هذا من المعالم البديهية الضرورية لمن تصوره، لم يحتج إلى تقرير، وإذا كان ذلك الإله لا بد أن يكون قادراً على الاستقلال بالفعل، فاستقلاله بالفعل يمنع أن يكون غيره فاعلاً له ومشاركاً له فيه، فيلزم أن ينفرد كل إله بما خلق، ولا يحتاج فيه إلى غيره.

وحينئذ يلزم أن لا يحتاج مخلوق هذا إلى مخلوق هذا، لأن ذلك يوجب حاجة كل منهما إلى الآخر، وأنه لا يقدر أن يفعل إلا مع فعل الآخر، ويكون فعل كل منهما مستلزماً لفعل الآخر ملزوماً له، والملزوم لا يوجد

ص: 360

بدون لازمه، فيلزم العجز عن الانفراد بالفعل، وذلك بنفي القدرة التي هي من لوازم الربوبية.

وأما البرهان الثاني: وهو لزوم علو بعضهم على بعض، وذلك بمنع إلهية المغلوب فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر، لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله، مع كونه فعل الأول.

ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره، فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادراً، فيمتنع أن يكون كل منهما قادراً على الاستقلال، ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد، فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد، لا بطريق استقلال أحدهما، ولا بطريق اشتراكهما فيه، وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادراً.

وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة، فإنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل، لزم امتناع الفعل، وانتفاء القدرة عن كل منهما.

وإن لم يمكنه ذلك، لزم أن لا يكون قادراً على ما يقدر عليه الآخر، إذا لو كان قادراً عليه، لأمكنه فعله.

وذلك ممتنع.

وإذا لم يكن قادراً على ما يقدر عليه الآخر، لم تكن قدرته مثل قدرته، فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر، ويقوم مقامه.

وإذا امتنع تماثل القدرتين، وجب كون أحدهما أقدر من الآخر، وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف.

وهذا معنى قوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] .

ص: 361

فإن قيل: قد أوردوا هنا سؤالاً معروفاً، أورده الآمدي وغيره، وذكروا أنه لا جواب عنه.

وهو أنه يجوز أن يكون كل منهما قادراً، بشرط أن لا يفعل الآخر معه.

ولا يقدح ذلك في القدرة كما يكون هو قادراً على أحد الضدين، بشرط عدم الآخر.

فإن اجتماع الضدين محال، فالقدرة على فعل أحدهما ينافي القدرة على فعل الآخر معه، ولا ينافي القدرة على فعل الآخر حال عدمه.

بل كل من الضدين مقدور بشرط عدم الآخر، وهو مقدور على سبيل البدل، لا على سبيل الجمع، فكذلك يقال في القادرين: كل منهما قادر على الفعل المعين، حال عدم قدرة الآخر عليه.

قيل: هذا تشبيه باطل.

وذلك أن القادر على الضدين يفعل كل منهما بمشيئته.

وإذا فعل أحدهما لم يكن عاجزاً عن فعل الآخر، لكنه قادر عليه إن اختاره والجمع بينهما ممتنع لذاته، ليس بشيء.

وذلك لا ينافي القدرة بوجه من الوجوه، فإن الفاعل لأحد الضدين يختار هذا دون ذاك، فلم يكن عدمه إلا لكونه لم يرده، لا لأن غيره منعه منه.

ولا أن قدرته عاجزة عنه إذا أراد أن يفعله، بخلاف القادر إذا قيل: إنه لا يمكنه الفعل إلا إذا أمكنه غيره، ولم يرد أن يفعل معه، ولو أراد الآخر أن يفعل ما فعله، لم يقدر أن يفعله هو، فإنه حينئذ لا يكون قادراً بنفسه، بل يكون غير قادراً حتى يمكنه الآخر، ويمتنع من أن يفعل ما يفعله.

ومما يوضح هذا أن الخالق لا بد أن يكون قادراً، وأن يكون قادراً بنفسه، لا بقدرة استفادها من غيره، ويمتنع أن يكون معه آخر قادر

ص: 362

بنفسه، فإن القادر لا بد أن يقدر أن يفعل وحده مفعولاً لا يشركه فيه غيره، فإنه إذا كان لا يقدر إن لم يعاونه غيره، لم يكن قادراً بنفسه، بل كان تمام قدرته من ذلك المعنى له.

ويمتنع أن يكون كل منهما لا يكون قادراً إلا بإعانة الآخر، فإن هذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، وهذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، فليس واحد منهما قادراً بنفسه، ومن لم يكن قادراً بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادراً، فإنه إذا لم يكن القادر قادراً بنفسه، امتنع أن يجعل غيره قادراً بطريق الأولى، فلو لم يكن الوجود من هو قادر بنفسه، بمعنى أنه قادر على أن يستقل بالفعل، فيفعل وحده من غير شريك ومعين، لم يكن في الوجود حادث، لامتناع وجود الحوادث بدون القادر بنفسه.

والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه، ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل، بحيث يكون كل منهما مستقلاً بالفعل وحده، فإنه إذا قدر ذلك، فحال ما يفعل أحدهما الفعل، يمتنع أن يكون الآخر قادراً على ذلك الفعل بعينه، فاعلاً له وحده، فإنه إذا فعله أحدهما وحده، لم يكن له شريك، فضلاً عن أن يفعله غيره مستقلاً، فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدوراً لقادر مستقل، أو مفعولاً لفاعل مستقل، لا يكون مقدوراً ولا مفعولاً لآخر مستقل.

فتبين أن ما يقدر عليه يفعله القادر المستقل، يمتنع أن يقدر عليه غيره ويفعله غيره، بل يكون هذا عاجزاً عما يفعله هذا، ولا يكون هذا قادراً

ص: 363

إلا إذا مكنه الآخر وخلاه يفعله، فلا يكون واحد منهما قادراً حتى يجعله الآخر قادراً، فلا يكون واحد منهما قادراً.

فتبين امتناع وجود قادرين مستقلين، وتبين امتناع وجود الفعل بدون قادر مستقل، أنه لا يكفي وجود قادر غير مستقل، ولا يجوز وجود قادرين مستقلين، فعلم أن القادر على الخلق واحد، لا يجوز أن يكون اثنان قادرين على الخلق، سواء اتفقا أو اختلفا، وهو المطلوب.

وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم، وإن تنوعت العبارات عنه، وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ والمعاني إلى بسط وإيضاح، فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك.

إن لم يكن ملك هذا منفصلاً عن ملك هذا، وإلا فإذا كان أحدهما يتصرف فيما يتصرف فيه الآخر، امتنع أن يكون كل منهما قادراً مالكاً لما يقدر عليه الآخر ويملكه، لأنه يجب حينئذ أن يكون كل منهما قادراً على ما يقدر عليه الآخر، بل فاعلاً مدبراً لما يفعله الآخر ويدبره، وذلك ممتنع، فإن قدرة أحدهما على الشيء وفعله له، يمنع أن يكون الآخر قادراً عليه وفاعلاً له، إلا في حال عدم قدرة الآخر وفعله، فيمكن أن يفعله هذا إذا لم يفعله هذا، ويقدر أحدهما على فعله إذا لم يفعله الآخر.

فأما حال فعل الآخر له، فيمتنع أن يكون الآخر فاعلاً له إذا أراد فعله، وإذا امتنع كون أحدهما فاعلاً له إذا أراده، امتنع كونه قادراً عليه، فإن كونه قادراً عليه، مع امتناع فعل له إذا أراده، جمع بين النقيضين، فإن القادر هو الذي يقدر على الشيء إذا أراد فعله، فإذا كان

ص: 364