المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌فصل

- ‌كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام أبي الحسين البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام السهرودي المقتول في "التلويحات

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام الآمدي في "دقائق الحقائق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الآمدي في أبكار الأفكار

- ‌الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌شرح الرازي لكلام ابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة

- ‌فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌الوجه السابع عشر

- ‌الوجه الثامن عشر

- ‌الوجه التاسع عشر

- ‌الوجه العشرون

- ‌الوجه الواحد والعشرون

- ‌الوجه الثاني العشرون

- ‌الوجه الثالث العشرون

- ‌الوجه الرابع العشرون

- ‌بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه

- ‌بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

وسائر الباقيات والمحالات التي لا يصح وجودها، لأن مقدورات الباري ومعلوماته على ضربين: موجودات ومعدومات، فالموجودات من المقدورات والمعومات كلها متناهية، والمعدومات منها غير متناهية، ولا يصح فيها الزيادة والنقصان.

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، بطل ما قالوه.

فهذا الذي يذكره مثل هؤلاء، كالقاضيين وابن اللبان أو غيرهم.

وهذه الطريق هي طريق التطبيق، ومبناها على أن ما لا يتناهى لا يتفاضل، وعليها من الكلام والاعتراض ما قد ذكر في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا التنبيه على طرق الناس في الأصول، التي يقول القائل: إنها تستلزم ما يخالف النصوص.

‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

كلام الجويني في الإرشاد عن امتناع حوادث لا أول لها

ومنهم من يسلك في دعوى امتناع دوام الحوادث مسلك الضرورة، كما سلكه طوائف، منهم أبو المعالي في إرشاده الذي جعله إرشاداً إلى قواطع الأدلة، وجعل أصل الأصول، الذي بنى عليه جميع ما يذكره من أصول الدين، التي بها كفر أو بدع من خالفه هو دليل الأعراض المذكور، وسلك فيه مسلك من تقدمه من أهل الكلام، السالكين طريق المعتزلة في تقرير ذلك، وهو مبني على أربعة أركان: إثبات الأعراض، ثم إثبات حدوثها، ثم إثبات لزومها للجسم.

قال والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها.

ص: 177

قال: والاعتناء بهذا الركن حتم، فإن إثبات العرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة، فأصل مقالتهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه، فلم تزل دورة الفلك قبل جورة إلى غير أول، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح، فكل ولد مسبوق بوالد، وكل زرع مسبوق ببذر، وكل بيضة مسبوقة بدجاجة، فنقول: موجب أصلكم يقضي بوجود حوادث لا نهاية لأعدادها، ولا غاية لآحادها، على التعاقب في الوجود، وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول، فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها، ونقول من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها، وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإذا تصرمت الدورات التي قبل هذه الدورة أذن انقضاؤها بتناهيها، وهذا القدر كاف في غرضنا.

تعليق ابن تيمية

قلت: وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار

ص: 178

عليها، حتى أتباع أبي المعالي، كالرازي والآمدي والأرموي وغيرهم.

وهم ينازعونه في قوله: إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول، ويقولون: قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء، الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى، ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم، بل قد يقولون: إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم، وفضلاء الطوائف، لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء، بل يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبرت به الأنبياء، لكن يقولون: ما زال الله تعالى متكلماً، تكلم بما شاء، أو ما زال فاعلاً، يفعل بنفسه ما شاء، أو ما زال يفعل الحوادث شيئاً بعد شيء، أو نحو ذلك من المقالات، التي يقولون: إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم، وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها.

وأما قدم الأفلاك ودوامها، فهو قول طائفة قليلة، كأرسطو وأتباعه.

وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة، وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك، وقول أرسطو هذا وأتباعه، هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل، فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة، ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة.

وما الأقوال التي قالها الرسل، أو قالت ما يستلزمها، ولم تقل نقيض ذلك، فهذه لا تضاف إلى الملاحدة، بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله، وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء، واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء، ولم يوافقه عليه الأنبياء، كان أقرب إلى أقوال

ص: 179

أهل الإلحاد، ولكن قد تشتبه على كثير من النظار، فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلاً عقلياً، ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس، لا القول من أقوال الأنبياء، بل قد يكون مناقضاً لها، ولا الدليل دليلاً صحيحاً في العقل بل فاسداً، فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما، ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع، وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء، وما فطر الله عليه العقلاء.

فمن خالف هذين كان مخالفاً للشرع والعقل، كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال.

والمقصود هنا أن المعترضين على ما ذكر في تناهي الحوادث، يقولون: لم يذكر على وجوب تناهيها دليلاً، فإن عمدته قوله: ما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإذا تصرمت الحوادث أذن انقضاؤها بتناهيها.

وهم يقولون لفظ الانتهاء لفظ مجمل: أتريد به الانتهاء، بمعنى أنه لا أول لها؟ أو الانتهاء بمعنى انقضاء ما مضى؟

أما الانتهاء بالمعنى الثاني، فإنهم لا ينازعون فيه، بل يسلمون أن ما انتهى فقد انتهى، لكن لا يسلمون أن الحوادث انتهت، بل يقولون: لم تزل ولا تزال، فإن الانتهاء انقطاعها وانصرامها ونفادها، وهي لم تنفد ولم تنقطع.

وإن قيل: الماضي قد وجد بخلاف المستقبل.

ص: 180

قيل: وجود ما وجد مع دوامها لا يوجب انتهاؤه.

فإن قيل: فنحن نقدر أنها انتهت وفرغت.

قيل: إذا قدر تناهيها لزم تناهيها على هذا التقدير.

وقيل: إن أريد بتناهيها أن ما مضى هو محدود بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهذا انتهاء.

قيل: هب أن هذا يسمى انتهاء، لكن على هذا التقدير فهي منتهية من هذا الطرف الذي انتهت إليه، لا من الطرف الأول الذي لا ابتداء له.

وعلى هذا فهؤلاء لا ينازعون في الانتهاء بهذا المعنى، بل يقولون: كل ما مضى من الحوادث فقد انتهى وانقضى وانصرم وفرغ.

وهذا هو الذي نفاه الله عن كلماته، وعن نعيم أهل الجنة.

كما قال تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [ص: 54] .

وقال: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35] وقال: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 33] .

وقال: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109] .

وأما عدم الانتهاء، بمعنى أنه لا ابتداء لها، فلم يذكر دليلاً على امتناعه.

فإن القائل إذا قال: ما انتفت عنه النهاية، بمعنى أنه لا ابتداء

ص: 181

له، يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإن الحوادث إذا انصرمت أذن انقضاؤها بتناهيها.

قيل له: انقضاؤها يؤذن بتناهيها من آخرها، فالانتهاء والانصرام هنا معناهما واحد فكأن القائل قال: إذا انتهت فقد انتهت، وإذا انصرمت فقد انصرمت.

وأما كون الانقضاء والانتهاء من الآخر يؤذن بأن لها مبدأ كان بعد أن لم يكن، فليس في الانتهاء ما يؤذن بحدوث الابتداء، بل هذا هو رأس المسألة، وليس الاطراد بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها، بل المراد انتهاء ما مضى منها، فإن ما انقطع بالكلية فعدم جنسه، يمكن أن يقال إن له مبتدأً، ولو كان قديم الجنس لم يعد، فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، سواء كان شخصاً أو نوعاً.

وأما إذا أريد بالانتهاء انتهاء ما مضى مع دوام النوع في المستقبل، فليس في هذا الانتهاء ما يستلزم أن يكون أوله محدوداً.

ومن المعلوم أن العقل إذا قدر حوادث متوالية لم تزل ولا تزال، كان يعلم أن كل واحد منها قد انصرم وانصرم ما قبله، مع أنه قد قدر دوام هذا النوع، كما يعلم أن كل واحد منها له أول، مع تقديره أنه لا أول لها، فعلم أن هذا التقدير ينافي انصرام ما انصرم، ولا حدوث ما حدث، وإذا لم يتناف هذا وهذا لم يكن ثبوت أحدهما دليلاً على انتفاء الآخر، فعلم أن ما ذكروه لا ينافي جواز دوام الحدوث.

ص: 182

وقد عارضهم المعترضون بالحوادث المستقبلة، وأوردوا سؤالهم.

قالوا: فإن قيل: مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد، فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها، لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها.

قلنا: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحاداً على التوالي، وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى، ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى: ما لا يحصره عدد، ولا يحصيه أمد.

والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول، وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض، وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر.

وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج، فليس هو الساعة داخلاً في الوجود، وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج، فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود، وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه، فقد استوى هذا وهذا، في الدخول والخروج، وفي العدم الآن.

لكن دخول هذا وخروجه ماض، ودخول هذا وخروجه مستقبل، وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما، فهما اشتركا فيه، لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان، فما من

ص: 183

حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال، فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده، ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله، فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل، وهكذا كل حادث.

وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال، لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله، وكلا الأمرين منتف هنا.

والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا، فإما أن يصحا جميعاً وإما أن يبطلا جميعاً.

ولهذا كان من طرد هذا الدليل، وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات: الجهم بن صفوان إمام الجهمية، وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة، كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي.

وإذا قال القائل: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحاداً على التعاقب.

قيل له: فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحاداً على التعاقب، لكن لم تدخل بعد، وذاك دخل ثم خرج.

وقوله: يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد هو محل النزاع إذا قصره على الماضي، وإن كان اللفظ عاماً فهو خلاف ما سلمه، بل هؤلاء يقولون: يجب أن يدخل

ص: 184

في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادراً ثم صار قادراً، أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس.

وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال، وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه، وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول.

ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم: إن الرب في الأزل لم يكن قادراً ثم صار قادراً، وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام، لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادراً، والقدرة لا تكون إلا على ممكن، فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال.

وقول القائل: من هؤلاء: أنه كان قادراً في الأزل على ما لم يزل، كلام متناقض.

فإنه يقال لهم: حين كان قادراً: هل كان الفعل ممكناً؟ فلا بد أن يقولوا: لا، فإنه قولهم.

فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه: قادر على الفعل.

وأما قوله: إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض.

فيقولون: هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول، وهو كل واحد واحد من الحوادث.

أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية، وهو نوع الحوادث، لم يتناقض كما تقدم.

ص: 185

ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي.

قال: وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين.

قالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهماً.

ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك بعده درهماً، ولا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً، فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط.

فيقول المعترضون: هذا التمثيل ليس مطابقاً لمسألتنا، فإن قوله: لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض، فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله ديناراً، ولا أعطيتك ديناراً إلا أعطيتك قبله درهما فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث.

كما أن قوله: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده ديناراً، أو لا ديناراً إلا وبعده درهم هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في

ص: 186

قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في قوله في الماضي، وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل، إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله: لا أعطيك حتى أعطيك وبين قوله: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك.

فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والإعتبار، وهم في القياس الذي جعلون أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه، علم أن ذلك قياس باطل.

وهذا من أعظم أصولهم، أو أعظم أصولهم الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته، وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته.

وقوله: لا أعطيك حتى أعطيك مثل قول: ما أعطيتك حتى أعطيتك.

فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل.

وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء.

وحقيقته الجمع بين النقيضين، حتى يجعل الشيء موجوداً معدوماً، كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه، فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده، بل في حال عدمه، فيكون قد جعل موجوداً حال كونه معدوماً، وهذا ممتنع بين الامتناع.

بخلاف قوله: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا أعطيك بعده فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، وقبل كل حادث ماض حادث ماض، فأين هذا من هذا؟

ص: 187

وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب، فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، كما إذا قال: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً.

واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول لا أعطيك درهماً حتى أعطيك ديناراً وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا؟ فمنهم من منع ذلك، وقال: هذا مثل أن نقول: لا أعطيك درهماً حتى أعطيك ديناراً.

ومنهم من جوز ذلك وقال: ليس هذا مثل هذا الممتنع، ولكن هذا نظير ذلك الجائز، وهو قوله: لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده ديناراً، فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث، وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث.

وهذا المعنى هو هذا المعنى، لكن هذا قدم اللفظ بما بعد، وهناك قدم التلفظ بما قبل، وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما.

قالوا: وأما الممتنع فنظيره أن نقول: ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك فهذا نظير قوله: لا أعطيك حتى أعطيك، ليس نظيره: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله.

فهنا أصل متفق على جوازه، وأصل متفق على امتناعه، بل أصلان متفق على امتناعهما، وأصل متنازع فيه، هل هو نظير هذا الجائز، أو نظير الممتنعين؟

ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين، كالرازي والآمدي وغيرهما، قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام، ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى، وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى: أن الله خلق السموات

ص: 188

والأرض في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري، لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له، فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك، معظمين لأرسطوا وأتباعه كابن سينا، وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث، وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة، حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلاً جهل، أو ربما مالوا أحياناً إلى دين الملاحدة، حتى قد يصنفون في الشرك والسحر، كعبادة الكواكب والأصنام.

وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى، كما دل عليه المنقول والمعقول، فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى، وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به، ليس لهم على ذلك حجة صحيحة: لا عقلية ولا سمعية، بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به.

فإن كان هذا الأصل في المعقول، ولزومه للطوائف، ودلالة الشرع عليه، بهذه القوة، وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعاً وعقلاً، على أقوال المرسلين الثابة شرعاً وعقلاً، أو تكافي المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد -تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد.

ومصداق ذلك أن الرازي -مثلاً- إذا قرر في مثل نهاية العقول

ص: 189

وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث، واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج، عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة، ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه، مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك، ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به، كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري: اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته، كما أنه واجب الوجود لذاته، فهو واجب الوجود من جميع جهاته.

وإذا كان كذلك، وجب أن تدوم أفعاله بدوامه.

وبينا أيضاً أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل، وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني، وحللنا فيه الشكوك والشبه.

قال: وأيضاً العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود، وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود، يجب أن يكون دائم الوجود، فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود.

أما الصغرى فقد مضى تقريرها، وأما الكبرى فهي أن الذي لا يمتنع أن يكون موجوداً دائماً، لو كان جائز العدم لكان: إما أن يكون عدمه ممكناً دائماً، أو لا يكون دائماً، فإن لم يكن

ص: 190

له إمكان العدم دائماً، كان ذلك الإمكان محدوداً، وإذا تعدى ذلك الحد، وجب فيه وجوده وامتنع عدمه، مع أن الأحوال واحدة، وهذا محال، يبقى أنه إن كان عدمه ممكناً، فهو ممكن العدم دائماً، وكل ما كان ممكناً فإنه إذا فرض موجوداً، أمكن أن يعرض منه كذب، وأما المحال فلا يعرض البتة، إذا فرض معدوماً، لكن فرض هذا العدم يعرض منه محال، وبيانه هو: أنا نفرض أن أحد طرفي الممكن، وهو الوجود الدائم، وجد وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائماً، فلا يمتنع أن يقع ذلك الممكن، فإن استحالة وقوعه لم يكن ذلك ممكناً، لكنه يستحيل مع فرض وجوده دائماً عدمه دائماً، وإلا لكان الشيء، في زمان غير متناه، معدوماً وموجوداً معاً، وهو محال.

نعم يمكن فرض عدمه بعد وجوده، ولكن ذلك العدم غير دائم، بل هو عدم متجدد.

وإذا كان هذا محالاً بالوضع ليس بكذب غير محال بل هو محال، فالحكم على ما يمكن وجوده دائماً بأنه جائز العدم محال، فإذاً وجوده واجب، وهو المطلوب.

ص: 191