الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يقدر عليه إذا أراده، لم يكن قادراً عليه، فامتنع أن يكون الشيء قادراً على فعل ما يفعله غيره، حال كون الآخر فاعلاً له، ومفعول أحدهما مقدور له.
فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وإذا كان حينئذ يمتنع كون الآخر فاعلاً له، وذلك يمنع كونه قادراً عليه، امتنع أن يكونا قادرين على مقدور واحد في حال واحدة، وفاعلين لمفعول واحد في حال واحد، بل لا يقدر أحدهما على الفعل إلا إذا تركه الآخر يفعله، وسكت عن فعله استقلالاً ومشاركة، ولو أراد الآخر أن يفعله، كان الآخر غير قادراً على فعله، فصار المانع لأحدهما من القدرة على الفعل والاستقلال به، كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له.
وذلك يوجب بطلان الربين من وجوه:
منها: أن الممنوع الذي منعه غيره لا يكون قادراً، بخلاف من لم يفعل الفعل لكونه هو لم يرده، فإن هذا لا يمنع قدرته على الآخر.
فإذا كان الرجل قادراً على القيام والقعود فاختار أحدهما بدلاً عن الآخر، لم يكن عدم الآخر لعجزه عنه، بل لأنه لم يرده، وهو لا يريد اجتماعهما في حال واحدة، لأن ذلك ممتنع لنفسه، لا لكونه غير قادر، أو لكونه عاجزاً عنه، فإن الممتنع بذاته ليس بشيء يتصور وقوعه.
ولهذا اتفق النظار على أنه ليس بشيء، فلا يدخل في قوله:{إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 20] ، بخلاف من كان لا يقدر أن يفعل فعلاً لأن غيره فعله، فإنه حينئذ يكون غير قادر على أن يفعل مفعول ذلك ولو أراده.
ولهذا كان أحد الملكين غير قادر على أن يكون ملكاً مع ملك غيره، بل إنما يكون ملكاً مع انتفاء ملك غيره.
وأيضاً فإنه إذا كان أحدهما قادراً، ولم يمنعه أن يكون قادراً فاعلاً للفعل إلا كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له، لزم أن يكون كل منهما ممنوعاً حال ما هو مانع، وقادراً حال ما هو غير قادر، فإن أحدهما حينئذ لا يمنعه من الفعل المعين كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له، وذلك لا يكون قادراً فاعلاً، إلا إذا لم يكن ممنوعاً، ولا يكون ممنوعاً إلا إذا كان المانع قادراً، فيلزم ألا يكون هذا قادراً إلا إذا كان غير قادر، ولا ممنوعاً إلا إذا كان غير ممنوع، ولا فاعلاً إلا إذا كان غير فاعل، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا كله بين في فطر الناس، فإنه يعلمون أن من كان أميراً أو متولياً على فعل، أو إماماً لقوم، أو قاعداً في مكان، لم يقدر غيره أن يكون أميراً، أو متولياً أو إماماً، أو فاعلاً، حال كون الآخر أميراً، أو متولياً، أو إماماً، أو قاعداً.
فتبين أن القادر على الفعل لا يقدر حال فعل الآخر له، ولا حال قدرة الآخر عليه.
أما قدرته حال فعل الآخر، فظاهر الامتناع.
وأما حال قدرة الآخر، فلا يمكن أن يفعله، إلا إذا سكت الآخر عن فعله، وتركه وحده يفعل، وأما حال فعل الآخر فلا يكون قادراً.
فتبين أن اجتماع قادرين بأنفسهما ممتنع لذاته في فطر جميع الناس
وحينئذ فالقادر بنفسه هو واحد، فيجب أن يكون الإله العالي الغالب وما سواه مقهور مغلوب.
وحينئذ فلا يكون الواحد قادراً إلا إذا كان الآخر غير قادر، فإن كلاً منهم قادر حال عدم قدرة الآخر، فلا يكون أحدهما قادراً إلا مع كون الآخر غير قادر، وكل منهما قدرته من لوازم ذاته إن كان قادراً، فيلزم من ذلك أن يكون كل منهما لا يزال قادراً غير قادر، فيلزم الجمع بين النقيضين.
وكذلك إذا قيل: لا يكون أحدهما قادراً إلا إذا جعله الآخر قادراً، أو مكنه الآخر، وامتنع من منعه، فإنه يلزم ألا يكون واحد منهما قادراً للدور الممتنع، وهو قد جعل فاعلاً، فيلزم اجتماع النقيضين، فيلزم ألا يكون واحد منهما قادراً، مع وجوب كون الخالق قادراً، ويلزم أن يكون كلاً منهما غير قادر مع كونه قادراً.
وهذا كله من الممتنع بصريح العقل، وهو لازم من إثبات ربين قديمين واجبين بأنفسهما، فدل على امتناع ذلك.
وسواء قدر اتفاقهما على الفعل أو اختلافهما فيه، فنفس كونهما قديمين واجبين قادرين ممتنع، ونفس كونهما غير قادرين ممتنع، ونفس اجتماع القدرة وعدمها ممتنع، ونفس اتفاقهما على مفعول واحد يستقل به كل منهما ممتنع، ونفس الاشتراك بأن يفعل هذا بعضه وهذا بعضه ممتنع.
وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر أو الأقدار، فيعلو بعضهم
على بعض، ولا بد إذا كانا قادرين من أن يذهب كل إله بما خلق، فإن العالي هو الإله المعبود، فلا يكون معه إله، بل يكون ما يقال إنه إله مملوكه وعابده.
وهم مقرون بذلك، لكن بين لهم فساد عبادة المخلوق والعابد لغيره.
كما قال: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] .
وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56-57] .
فإنه سبحانه ينهي عن الشرك الواقع، وهو اتخاذ ما سواه إلهاً، وإن كان المشركون مقرين بأنه إله مخلوق عابد للإله الأعظم ولهذا يقول:{لو كان معه آلهة كما يقولون} [الإسراء: 42] .
وبين أيضاً امتناع أن يكون معه إله غني عنه بقوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91]، وبقوله:{لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد ذكرها العلماء في كتبهم.
وكذلك ما ذكره هذا الفيلسوف ذكره غير واحد من النظار، وذكروا أنه بتقدير الاتفاق يمتنع أن يكون مفعول أحدهما هو مفعول الآخر، والمفعول الواحد لا يكون مفعولاً لفاعلين باتفاق العقلاء.
لكن التقدير
الذي يحتاج إلى نفيه تقدير التعاون، كما ذكر من فعل هذا البعض وهذا البعض، وما ذكره من أن التداول نقص هو موجود في التبعيض، فإن الشريكين قد يتهابان بالمكان وقد يتهابان بالزمان.
وهذا التقدير قد أبطلوه بوجوه:
منها: أن هذا نقص في حق كل واحد منهما ينافي الإلهية.
ومنها: أن كلاً منهما إن لم يكن قادراً على الاستقلال كان عاجزاً، وإن كان قادراً عليه -وهو لا يمكنه مع معاونة الآخر كان ممنوعاً من مقدوره، وهو مثل العجز وأشد.
وكذلك إن لم يكن قادراً على خلاف مراد الآخر كان عاجزاً، وإن كان قادراً ولم يفعل إلا ما يوافق الآخر، فإن كان الفعل الآخر ممكناً لا مانع له من غيره أمكن تقديره، ويعود دليل التمنع، وإن لم يكن ممكناً، لزم تعجيزه، ومنعه بغيره.
وبالجملة فالدلائل العقلية على هذا متعددة، وإن كان من الناس من يزعم أن دليل ذلك هو السمع، لكن هذا المطلوب الذي أثبتوه هو متفق عليه بين العقلاء.
ومقصود القرآن توحيد الإلهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس.
ولهذا قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، فلم يقل: لو كان فيهما إلهان، بل المقدر آلهة غير الإله
المعلوم أنه إله، فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ غيره إلهاً مع كونه مملوكاً له؟.
ولهذا قال: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} [الروم: 28] .
وقال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] .
وقال: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} [الزمر: 43-45] ، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
والمقصود هنا ما ذكره هذا.
قال: ويدلك على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنته الآية: أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم، غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية.
وذلك أن المحال الذي أفضى إليه الدليل الذي زعموا أنه دليل الآية، هو أكثر من محال واحد، إذ قسموا الأمر إلى ثلاثة أقسام، وليس في الآية تقسيم.
فدليلهم الذي
استعملوه هو الذي يعرفه أهل المنطق بالشرطي المنفصل، ويعرفونه هم في صناعتهم بدليل السبر والتقسيم.
والدليل الذي هو الآية هو الذي يعرف في صناعة المنطق بالشرطي المتصل، وهو غير المنفصل.
ومن نظر فيه أدنى نظر في تلك الصناعة تبين له الفرق بين الدليلين.
وأيضاً فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب، وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم: إما لا موجوداً ولا معدوماً، وإما أن يكون موجوداً ومعدوماً، وإن أن يكون الإله عاجزاً مغلوباً.
وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد.
والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلاً على الدوام، وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص، وهو أن يوجد العالم فاسداً في وقت الوجود، فكأنه قال:(لو كان فيهما آلهة إلا الله) لوجد العالم فاسداً في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد.
قلت: الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص، والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين، إذا أراد أحدهما شيئاً وأراد الآخر نقيضه، ولا هو أيضاً امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين، فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود.
وأما الفساد فهو ضد الصلاح، كما قال تعالى:{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11] .
وقال تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [الأعراف: 142] .
وقال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56] .
وقال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة 205] .
وقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة: 32] .
وقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] .
وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} [المائدة: 33] .
وقال: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} [المؤمنون 71] .
وجماع الصلاح اللآدميين هو طاعة الله ورسوله، وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم، والفساد بالعكس.
فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته.
وفساده بالعكس،.
والخلق صلاحهم وسعادتهم
في أن يكون الله هو معبودهم، الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم، ويكون ذلك غاية الغايات، ونهاية النهايات.
ولهذا كان كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره، وكانت أعمال الذي كفروا:{كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18] .
قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] .
فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم، فإن الإنسان حارث همام.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» والحارث هو الكاسب، والهمام هو الذي يكثر الهم، الذي هو أول الإرادة، فالإنسان متحرك بالإرادة، وكل مريد لا بد له من مراد.
والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله، فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك، وهكذا العالم العلوي أيضاً.
والحركات ثلاثة، طبيعية، وقسرية، وإرادية.
لأن الحركة: إما أن يكون مبدأها من المتحرك، وإما من غيره.
فما كان مبدؤها من غيره فهي القسرية الكرهية، وما كان مبدؤها من المتحرك، فإن كان على شعور منه فهي الإرادية، وإلا فهي الطبيعية.
والطبيعية لا تعرف إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه، كصعود الحجر
والماء إلى فوق، ففي طبعه الهوي والنزول، فهي تابعة للقسرية، فكل من الطبيعية والقسرية تابعة لغيرها.
فمبدأ الحركات كلها هي الإرادية، وكل إرادة لا يكون الله هو المراد المقصود بالقصد الأول بها، كانت ضارة لصاحبها مفسدة له، غير نافعة ولا مصلحة له.
وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته: إلا الله.
كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا رب غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون رباً له، ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها.
وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يحب ويراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يجب أن يحب لله، لا يحب واحد منهما لذاته، إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة.
والله فطر عباده على ذلك، وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم، فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم، فإن ذلك وإن كان كذلك، ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم.
وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله، فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته
أن يكون للعالم مبدع غير الله.
قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 30] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» .
والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب، لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد، ففسد إدراكها، كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مراً، وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به، والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه، والشرك لا يغفره الله، فإنه فساد لا يقبل الصلاح.
ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله، فالأول شرك.
والثاني إيمان.
قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] ، فليس لأحد أن يحب شيئاً مع الله.
وأما الحب لله، فقال تعالى:{أحب إليكم من الله ورسوله} [التوبة: 24] .
وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواه، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار» .
وفي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» .
وهذا حقيقة قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك» .
فمكان الفعل الواحد ممتنع أن يكون من فاعلين مستقلين، فيمتنع أن يكون المرادين مستقلين بالإرادة، فإن كون هذا مستقلاً بكونه هو المراد المحبوب، يناقض كون الآخر كذلك، ومتى لم يكن المراد مستقلاً
بالإرادة، لم يكن هو المراد، بل بعض المراد وما كان بعض المراد لم يحصل به صلاح النفوس، وهو المراد الذي لا يصلح المتحرك بالإرادة إلا به، فمن أراد غير الله بعلمه امتنع أن يكون الله مراده بعمله، ومن لم يكن الله هو مراده، لم يحصل صلاحه، بل كان الحاصل فساده بالشرك لا يغفر، بخلاف ما دونه.
وأفضل الكلام قول: لا إله إلا الله.
والإله هو الذي يستحق أن تألهه القلوب بالحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء، فهو بمعنى المألوه، وهو المعبود الذي يستحق أن يكون كذلك.
ولكن أهل الكلام الذي ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية، فهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء، اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله: اسم فاعل، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع، كما يقول الأشعري وغيره، ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع.
ومن قال: إن أخص وصف الإله هو القدم، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، قال ما يناسب ذلك في الإلهية، وهكذا غيرهم، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على هذه الأمور، وأن هؤلاء غلطوا في معرفة حقيقة التوحيد، وفي الطرق التي بينها القرآن، فظنوا أنه مجرد اعتقاد أن العالم له صانع واحد.
ومنهم من ضم إلى ذلك نفي الصفات أو بعضها، فجعل نفي ذلك داخلاً في مسمى التوحيد.
وإدخال هذا في مسمى التوحيد ضلال عظيم.
وأما الأول، فلا ريب أنه من التوحيد الواجب، وهو الإقرار بأن خالق العالم واحد، لكنه هو بعض الواجب وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد، بل المشركون الذي سماهم الله ورسوله مشركين، وأخبر الرسل أن الله لا يغفر لهم، كانوا مقرين بأن خالق كل شيء.
فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه، فإنه به يعرف التوحيد، الذي هو رأس الدين وأصله.
وهولاء قصروا في معرفة التوحيد، ثم أخذوا يثبتون ذلك بأدلة، وهي، وإن كانت صحيحة، فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم، وليس الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم، كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد.
قال ابن رشد: فقد تبين من هذا القول الطرق التي دعا الشرع من قبلها الناس إلى الإقرار بوجود الباري تعالى، ونفي الإلهية عما سواه، وهما المعنيان اللذان تضمنتها كلمة التوحيد: أعني لا إله إلا الله، فمن نطق بهذه الكلمة، وصدق بهذين المعنيين اللذين تضمنتهما بهذه الطرق التي وصفنا، فهو المسلم الحقيقي الذي عقيدته العقيدة
الإسلامية، ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة، وإن صدق بهذه الكلمة، فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم.
ثم تكلم على الصفات الثبوتية فقال: الفصل الثالث في الصفات: أما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع لوجود العالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله تعالى:{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] .
ووجه الدلالة: أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة، وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية فوجب أن يكون عالماً به.
مثال ذلك: إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما
صنع من أجل الحائط وأن الحائط من أجل السقف -تبين أن البيت إنما وجد عن فاعل عالم بصناعة البناء، وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه أن يتصف بها وقتاً ما.
لكن ليس ينبغي أن نتعمق في هذا فنقول ما يقوله المتكلمون: إنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم، فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت وجوده وعدمه علماً واحداً.
وهذا أمر غير معقول، إذ كان العلم واجباً أن يكون تابعاً للموجود.
ولما كان الموجود تارة يوجد فعلاً، وتارة يوجد قوة، وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفاً، إذ كان في وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.
وهذا -يعني قول المتكلمين- شيء لم يصرح الشرع به، بل الذي صرح به خلافه، وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها.
كما قال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .
فينبغي أن يوضع في الشرع أنه عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون وعالم بالشيء إذا كان على أنه قد كان، وعالم بما تلف أنه تلف في وقت تلافه.
وهذا هو الذي تقتضيه أصول الشرع.
وإنما كان هكذا لأن الجمهور لا يفهمون من العالم في الشاهد غير هذا المعنى، وليس عند المتكلمين برهان يوجب أن يكون بغير هذه الصفة، إلا أنهم يقولون: إن العلم المتغير بتغير المعلومات الموجودات هو محدث، والباري تعالى لا يقوم به حادث، لأن ما ينفك عن الحوادث، زعموا أنه حادث.
قال: والذي يقال للخواص: إن العلم القديم لا يشبه علم
الإنسان المحدث، فالذي يدركه الإنسان من تغاير العلم المحدث بالماضي والمستقبل والحاضر هو شيء يخص العلم المحدث وأما العلم القديم فيجب فيه اتحاد هذه العلوم، لأن انتفاء العلم عنه بما يحدثه من هذه الموجودات الثلاثة محال، فقد وقع اليقين بعلمه سبحانه بها، وانتفى التكييف، إذ التكييف يوجب تشبيه العلم القديم بالمحدث.
قلت: هذا الكلام من جنس ما حكاه عن المتكلمين، فإنه إذا اتحد في العلم القديم العلم بالماضي والحاضر والمستقبل، ولم يكن هذا مغايراً لهذا، كان العلم بالموجود حال وجوده وحال عدمه واحداً، وهذا مناقض لما تقدم من قوله، يجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفاً.
غاية ما في هذا الباب أن هذا الرجل يقول: إن عدم التغاير هو ثابت في العلم القديم دون المحدث.
ولا ريب أن أولئك المتكلمين يقولون هذا، ولكن يقولون: ولو فرض بقاء العلم الحادث لكان حكمه حكم القديم، ويقولون: إن هذا من باب حدوث النسب والإضافات، التي لا توحب حدوث المنسوب المضاف، كالتيامن والتياسر.
وهكذا هذا يقول: إنما تتجدد النسب والإضافات، وقد ذكر ذلك في مقالة له في العلم، لكن المتكلمون خير منه، لأنهم يقولون بعلمها