الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ممتنع، وإذا كان ممكناً، فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد، وإما أن لا يحصل.
فالتقدير الأول أنه ممتنع، لاستلزام تسلسل الحوادث.
والثاني أنه وإن قدر إمكانه، لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى، أو قدرته، أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن، أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به.
فمن قال: إن دوام الفعل ممتنع، فقد أبطلوا قوله، كما ذكر.
ومن قال: إنه ممكن، لكن لم يوجد تمام شرطه.
قالوا له: فهو قبل ذلك كان ممتنعاً، ثم صار ممكناً، بل موجوداً مع تساوي الحالين، فيلزم الترجيح بلا مرجح.
وإذا قال: إنه ممكن وما به يحصل موجود.
قالوا: فيلزم وجوده.
ولما ذكر الرازي هذه الحجة قال: عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها، وقد مضى القول فيه في باب الزمان، فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول.
كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
كلام الرازي في المباحث المشرقية عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
والموضع الذي أحال فيه ذكر فيه الحجج التي احتج بها هو وغيره على حدوث الزمان، ولوازم ذلك من حدوث الحركة والجسم، وأبطل ذلك كله، فذكر ما احتج به المعتزلة والأشعرية، وما ذكره هو في الأربعين ونهاية العقول في مسألة حدوث العالم، وأبطل ذلك كله فركب لهم
سبع حجج: أولها: الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان، وما كان كذلك فبه بداية، فللحوادث الماضية بداية.
بيان الأولى بأربعة أوجه.
أحدها أن الحوادث الماضية إلى زمن الطوفان أقل من الحوادث إلى زماننا بمقدار ما بين الطوفان وزماننا.
الثانية: أن الدورات الماضية إما أن تكون شفعاً أو وتراً، وكيفما كان فهو ناقص عن العدد الذي فوقه.
الثالث: أن عودات القمر لا شك أنها أقل من عودات زحل والمشتري.
الرابع: أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية، فكانت النفوس البشرية غير متناهية، لامتناع التناسخ، فكانت النفوس البشرية الموجودة في زماننا غير متناهية، لوجوب بقاء الأنفس البشرية، لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا غير متناهية، لوجوب بقاء الأنفس البشرية، لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا قابل للزيادة
والنقصان، فهو متناه.
فالنفوس التي كانت موجودة في زمان الطوفان لا شك أنها أقل عدداً من عدد النفوس إلى زماننا، وكل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه، فالنفوس الموجودة البشرية متناهية، ثم يستدل بتناهيها على تناهي الأبدان وتناهي الأبدان على تناهي الحركات والمتحركات، وتناهي كل العالم.
قال: وأما بيان أن كل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه، فقد زعموا أن العلم بذلك بديهي.
قال: والحجة الثانية: لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية، لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له، وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده، وكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي، فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية.
قلت: وهذه هي التي ذكرها من ذكرها من شيوخ المعتزلة والشيعة، وقد ذكرها أبو المعالي وأمثاله من أئمة الكلام.
والثالثة: أن كل واحد واحد من الحوادث: إذا كان له أول، وجب أن يكون للكل أول، كما أن كل واحد واحد من الزنج لما كان أسود، وجب أن يكون الكل سوداً.
قلت: وهذه حدة أبي الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة.
والرابعة: أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا، فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية، لكان ما لا نهاية له متناهياً، وذلك محال.
وأمثاله من المعتزلة.
والرابعة: أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا، فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية، لكان ما لا نهاية له متناهياً، وذلك محال.
وهذا من جنس الثاني.
والخامسة: أن الأزل إما أن يكون قد وجد فيه حادث أو لم يوجد.
والأول محال، لأن ذلك الحادث يكون مسبوقاً بالعدم، والأزل لا يكون مسبوقاً بالعدم، وإن لم يوجد شيء من الحوادث في الأزل، فقد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجوداً، فإذاً كل من الحوادث مسبوق بالعدم.
السادسة: أن الأمور الماضية قد دخلت في الوجود، وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، وما حصره الوجود كان متناهياً، فالحوادث الماضية يجب أن تكون متناهية.
السابعة: أن كل واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أول له، فإذا فرضنا جسماً قديماً، وفرضنا حوادث لا أول لها، لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدماً، لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها، ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أموراً، ولا يتقدم ما هو سابق على كل واحد واحد من تلك الأمور، فيصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكماً واحداً.
ثم قال: قالت الفلاسفة: الجواب عما ذكروه أولاً من وجوه ثلاثة.
الأول: المحكوم عليه بالزيادة والنقصان: إما كل الحوادث، وإما كل واحد واحد منهما، والأول محال، لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية، وما لا يكون موجوداً امتنع أن يكون موصوفاً بالأوصاف الثبوتية، من الزيادة والنقصان وغيرهما، لما بينا في باب الوجود: أن ما لا يكون ثابتاً في نفسه، لا يمكن أن يكون موصوفاً بالأوصاف الثبوتية.
قلت: هذا كقولهم: الحركة غير موجودة، والصوت غير موجود.
والكلام غير موجود.
وهذا لفظ مجمل، فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد، فهذا غير موجود.
وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك، بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئاً بعد شيء، فهذا كله موجود، وهو من حيث هو موجود شيئاً بعد شيء، لا موجود على سبيل الاقتران.
الثاني: أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهياً من جانب، وغير متناه من جانب آخر، فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء، حتى ازداد هذا الجانب، فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر، فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهياً، إلا أن يقال: إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص، فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر.
ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق، فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص، إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد، ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبداً، من غير أن ينقطع الناقص، بل يبقى أبداً مع الزائد بتلك الفضلة العددية.
الثالث: معارضة ذلك بأمور أربعة: أولها: صحة حدوث
الحوادث من الأزل إلى الطوفان، أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا، مع أنه لا يلزم تناهي الصحة.
وثانيها: صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد، أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد، مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد.
وثالثهما: تضعيف الألف مراراً غير متناهية، أقل من تضعيف الألفين مراراً غير متناهية.
ورابعها: معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية.
قال: والجواب عما ذكروه ثانياً-يعني الحجة الثانية- أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت، وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله، فإن كان الأمر على هذا، فقد وجدنا أمراً معدوماً، ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة، فيبتدي في الوجود من وقت
ما اعتبر هذا الاشتراط، فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود، وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له، ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال، فهذا هو نفس المطلوب، فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
والجواب عما ذكروه ثالثاً أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد، ثبوت الأول للكل، لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفاً لحكم الآحاد، لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة، وكل واحد من الأجزاء ليس بكل، مع أن كلها كل، وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم، مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم، بل نقول: إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساوياً لجزئه من حيث هو جزء، وإلا لم يكن أحدهما كلاً والآخر جزءاً.
وأما المثال الواحد فلا يكفي، لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفاً لحكم الآحاد، حتى يضرنا المثال الواحد، بل نقول: إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون، والأمر فيه موقوف على البرهان.
قال: والجواب عما ذكروه رابعاً أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا، وثبوت النهاية من أحد
الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر، والدليل عليه الصحة، فإنه لا بداية لها، مع أنها قد تناهت إلينا، وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها، مع أنها في جانب البداية لها نهاية.
قال: والجواب عما ما ذكروه خامساً وهو قولهم: الأزل هل وجد فيه حادث أم لا؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة، بل هو عبارة عن نفي الأولية، فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم، يمتنع وقوعه في الأزل، فأما قولهم: لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل، فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجوداً، فنقول: قد بينا أن الأزل ليس وقتاً مخصوصاً، حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية، فقولنا: الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث، معناه: أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث، أي كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم، فلم قلتم: إنه لما كان واحد منها مسبوقاً بالعدم، وجب أن يكون الكل كذلك، فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة، فنقول: صحة
حدوث الحوادث: هل كانت حاصلة في الأزل أم لا؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي، وذلك محال، وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول، وهو محال.
ولما لم يكن هذا الكلام قادحاً في أن الصحة لا بداية لها، لم يكن قادحاً في هذه المسألة.
قال: والجواب عما ذكروه سادساً، وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف، ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا، أما لم قلتم: إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا، ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث؟
والجواب عما ذكره سابعاً من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها، فنقول: إن عنيتم به أنه يكون موصوفاً بوجود كل الحوادث، ويكون موصوفاً بعدمها معاً، فذلك باطل، لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفاً بعدمها معاً، فذلك باطل، لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفاً به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفاً بواحد من تلك
الحوادث، فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفاً بعدم ذلك الحادث، حتى يلزم التناقض، بل يكون موصوفاً بعدم سائر الحوادث، والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفاً بالحادث المعين، وبعدم ذلك الحادث معاً، فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفاً بوجوده وبعدم غيره، فأي تناقض فيه؟.
قال: هذا جملة ما قيل في هذه المسألة.
قلت: فهذا كلام الرازي في هذا، مع أنه من عادته في الكتاب المذكور الذي صنفه في الفلسفة، وهو أكبر كتبه في ذلك، إذا تمكن من القدح فيما يورده الفلاسفة، قدح فيه، كما قدح في قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، والشيء الواحد لا يكون قابلاً وفاعلاً، ونحو ذلك مما يتوجه له القدح فيه، وكما تقرر ما ذكره بزيادات وتكميلات لم يذكروها هم، إذا توجه له تقرير ذلك، فإنه بحسب ما يتوجه له من البحث والنظر.
ولهذا كان تارة يعارض ما ذكره الفلاسفة بما يناقضه من كلام المتكلمين، كما يعارض من الكتب الكلامية ما يذكره المتكلمون بما يذكره في مناقضة الفلاسفة، ويرجح ما يترجح له في تلك الحال.
وهو مع هذا ذكر هذه الحجج التي هي عمد القائلين بأن الحوادث لا تدوم، وعليها
بنوا حدوث الجسم، وأبطلها كلها، وذكر أدلة أولئك في دوام فاعلية الرب تعالى ولم يبطلها.
وقد ذكر أيضاً حجج هؤلاء في دوام الزمان بكلام طويل ليس هذا موضع بسطه.
والمقصود هنا أن من يريد هذا وأمثاله من كلام هؤلاء، تبين له أن ما ذكره أئمتهم الأشعرية وشيوخ أئمتهم المعتزلة في هذا الباب، كان مما تبين لهم فساده، ثم مع هذا لا يمكنهم القدح في أدلة الفلاسفة، إن لم يقروا بما أنكروه من مدلول الكتاب والسنة الموافق لصريح المعقول، فحينئذ يمكنهم القول بالمعقولات الصريحة، ويتبين لهم أنها موافقة للمنقولات الصحيحة، وليس مما أمر الله به ورسوله، ولا مما يرتضيه عاقل، أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء.
وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم، إذ هم -ولله الحمد- أكمل الناس عقلاً وأتمهم إدراكاً وأصحهم ديناً، وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً، وأحسنهم شريعة.
ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل، وأصح عقلاً وديناً، ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى ملة من الملل.
وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية، وعلى حل ذبائحهم ونسائهم، وإن خالف في ذلك أهل البدع.
وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين، وإما أن يكونوا من المجوس، وإما يكونوا من الصابئين، وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث.
فمن كان من المشركين، كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم، أو من المجوس، كفلاسفة الفرس ونحوهم، فاليهود والنصارى
خير منه، ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين والصابئون للعلماء فيهم طريقتان: إحداهما: أنهم هل يقرون بالجزية أم لا؟ على قولين.
والثانية: إنه يفصل الأمر فيهم، فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم، وإلا فلا، وهاتان الطريقتان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
والنزاع في إقرارهم الجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
وأما من يقر مشركي العجم بالجزية ك أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم، ولذلك ينتازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل، وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل، كما هو قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، بناءً على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم، وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل.
لكن جمهور العلماء، ك مالك وأبي حنيفة وأحمد في المنصوص عنه، على أن الاعتبار بنفس الرجل لا ينسبه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة، التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل، كان شراً ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين.
وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب
والاختصاص من أهل الكلام، يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام، علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين، وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيراً من قول الأنبياء والمرسلين، فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين، مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم باطلة، وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة، لزم الأول.
وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم، وقول سلفهم هو قول الأنبياء، لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيراً من قول الأنبياء، فإن طرودا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم، أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء.
وممن كان أقل علماً وإيماناً منهم مال إلى القول الثاني، ومن كان أعظم علماً وإيماناً كان ميله إلى الأول أهون عليه، فإن كفر لا حيلة فيه، اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية، فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة، وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه.
وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف.
هم شر من اليهود والنصارى، ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل، فإن أولئك، وإن كانوا ضالين، فهؤلاء شركوهم في الضلال، ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله، ومن كفرهم
الذين يستحقون العقوبة عليه، ما لم نعلمه من حال أولئك.
وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء، وأرسل إليهم رسول، فليس هو مثل محمد صلى الله عليه وسلم، بل نعلم قطعاً أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن، ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شريعة كشريعته.
وكل من علم حاله يعلم بالاضرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية، فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار موسى وغيرهما من المرسلين، مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك، وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار.
وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول، ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول، وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول، وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة.
وأما أهل المعرفة العالمون بالمعقول والمنقول، فلا يقولون في سلفهم ما هو من لوازم قولهم، كما أنهم لا يقولون في الأنبياء ذلك، بل يعلمون قطعاً أن كلام الأنبياء هو الحق وكل ما ناقضه من قول متفلسف أو متكلم أو غيرهما فباطل، وأنه لا يجوز أن يكون في العقل ما يناقض قول الأنبياء، ولا يجوز تعارض الأدلة العلمية السمعية والعقلية أبداً، ويعلمون أن جنس