الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
فإن قالوا: نحن إذ قلنا: الوجود: إما واجب، ذاته لا تقبل العدم، وإما ممكن يقبل العدم، وما كان قابلاً للعدم فلا بد له من واجب، لزم ثبوت الواجب على التقديرين، مع قطع النظر عن الممكن: هل يكون قديماً أم لا؟
بل نفس تصور هذه الحقيقة، وهو كونه يقبل العدم، فيلزم افتقاره إلى فاعل.
قيل صحيح.
لكن هذا التقسيم لا يستلزم ثبوت القسمين في الخارج، إن لم يبين ثبوت الممكن، ولكن يلزم ثبوت موجود لا يقبل العدم على التقديرين.
وهذا لا يناقض قول القائل بأن الموجود واحد لا يقبل العدم، وإنما يبطل قول هؤلاء إذا بين أن في الوجود ما هو ممكن يقبل العدم.
وليس في مجرد التقسيم ثبوت القسمين، وإنما يثبت القسمان إذا ثبت أن في الوجود ممكناً يقبل العدم، وهذا الممكن لا بد له من واجب.
وحينئذ فيكون استدلالاً بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم، وهذا استدلال بالمحدثات على القديم، لا استدلال بالوجود من حيث هو جود الواجب، كما ظن ابن سينا وأتباعه بأن الوجود من حيث هو
وجود، إذا دل على وجود واجب، لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجباً
فإذا قال أنا أبين بعد أن فيه محدثاً.
قيل: إذا بين ذلك ثبت أن فيه قديماً، ويكون الدليل على ثبوت القديم وهو الحوادث.
وهذه طريقة صحيحة، وهي تدل على إثبات قديم، لا على ثبوت واجب له مفعول قديم، لكن نفس الوجود يدل على كل تقدير ثم يقال: وليس الوجود كله واجباً قديماً، فإن نشهد حدوث المحدثات، والمحدث ليس بقديم، وليس بواجب الوجود وعدمه.
ولا بممتع الوجود يجب عدمه، فإنه كان موجوداً تارة، ومعدوماً أخرى.
فعلم أنه يمكن وجوده وعدمه.
وما كان هكذا فلا بد له من فاعل قديم أزلي يمتنع عدمه، فثبت وجود الموجود القديم الأزلي من نفس الوجود ومن وجود المحدثات، وثبت من وجود المحدثات أنه ليس كل موجود قديماً ولا واجباً، بل ثبت انقسام الوجود إلى قديم واجب وإلى محدث ممكن بهذه الطريق، وهي طريق الحدوث، وطريق الإمكان الذي لا يناقض الحدوث بل يلازمه، فأما الإمكان الذي ابتدعوه، فلا يثبت هو بنفسه، ولا يثبت به شيء.
ثم الكلام في تعيين القديم الواجب، وأن السماوات محدثه، له طرق
متعددة ضرورية ونظرية، كما قد بسط في موضع آخر، وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية: معرفته بعينه، وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقه له، حادثه بعد أن لم تكن، وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء، ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس، فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة.
ولهذا قالت الرسل: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار، لما قال موسى: إني رسول من رب العالمين، قال:{وما رب العالمين} قال له موسى: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون *قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} .
ولما قال لموسى وهارون: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} .
قال ابن رشد: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة: إن الجائز
محدث، فهي مقدمة غير بينة بنفسها، وقد اختلف فيها العلماء.
فأجاز أفلاطون أن يكون شيئاً جائزاً أزلياً، ومنعه أرسطوطاليس، وهو مطلب عويص، ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادتة وشهادة ملائكته.
قلت: أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوته الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة، فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر، ولا ممن يقول بقدم الأفلاك، ولا ممن يقول قولاً يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل، ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفاً على ما انفرادوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس، كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية، وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ما هيتها، وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود، وأمثال ذلك.
وهذا الذي ذكره من ينازع هذين، فإنه ينصر قول
أرسطو طاليس، ويقول: إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً، وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديماً أزلياً، وحكايته لهذا عن أفلاطون، قد يقال: إنه لا يصح فيما يثبته قديماً من الجواهر العقلية، كالدهر والمادة والخلاء، فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية، لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة، ونقل ذلك عنه فيه نظر.
وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيرة أنها محدثة، فإن أرسطو طاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس، وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة، وعلى أصله يكون أزلياً، وهم ينقلون: إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطو طاليس، وهو صاحب التعاليم.
وأما القدماء كأفلاطون وغيرة، فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك، وإن كانوا يقولون- أو كثير منهم -بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء أخر، ويخلق من ذلك شيء آخر، إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم.
فهذا قول قدمائهم، أو كثير منهم، وهو خير من قول أرسطو وأتباعه.
قال ابن رشد: وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة
بمقدمات: إحداها: أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني والثانية: أن هذا المخصص لا يكون إلا مريداً والثالثة: أن الموجود على الإرادة حادث.
ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة، أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة، وإما عن الإرادة.
والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة.
مثال ذلك أن السقمونيا ليس تدذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر.
وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة.
ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه، من الجو الذي خلق فيه، يريد الخلاء، لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء، فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة.
قال: والمقدمة القائلة: إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة، والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها، ويلزم أيضاً عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم، وهو أن يكون قديماً، لأنه إن كان محدثاً احتاج إلى خلاء.
قلت: أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين، فيناقض ما قد ذكر أولاً من أنه لا بد من المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر.
والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة.
ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة، بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به، وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول.
ومتى تسلم هذا أمكن أن يقال: إن مجرد اختيار الفاعل، وهي إرادته، خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل، وبقدر دون قدر، وبوصف دون وصف.
وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به، فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمراً واحداً وجودياً يكون العالم فيه، بل هم يقولون: إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة، وإن كان ما وراءه عدم محض، وتسمية ذلك موضعاً، كقول القائل: العالم في موضع.
ولفظ الموضع والمكان والحيز يراد به أمر موجود وأمر معدوم.
قال ابن رشد: وأما المقدمة القائلة: إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين.
وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل، فهي مع فعل المراد نفسه، لأن الإرادة من المضاف.
وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل، وجد الآخر بالفعل، مثل الأب والابن.
وإذا وجد أحدهما بالقوة، وجد الآخر بالقوة، فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة، فالمراد لا بد حادث، وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة، فالمراد الذي بالفعل قديم.
وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل، إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد.
ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل، إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل.
فإذاً لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثاً ولابد.
قال: والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور
ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة، بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة.
وذلك قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وإنما كان ذلك كذلك، لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة، بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم، لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر، وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم.
لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها، وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث، وسنبين هذا المعنى بياناً أتم عند القول في الإرادة قلت: الكلام في الإرادة وتعددها، أو وحده عينها، أو عمومها، أو خصوصها وقدمها، أو حدثها أوحدوث نوعها، أوعينها.
وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه، وهي من أعظم محارات النظار.
والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه، لكن نفس تسليم
الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه، بل تسليم كون الشيء مفعولاً يستلزم حدوثه.
فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارناً لفاعله المريد له، الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم، فهذا مما يعلم جمهور العقلاء بضرورة العقل.
وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريداً لأن يفعل شيئاً بعد شيء، يكون كل ما سواه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وتكون الإرادة قديمة، بمعنى أن نوعها قديم، وإن كان كل من المحدثات مراداً بإرادة حادثة.
قال: فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقاً نظرية يقينية، ولا طرقاً شرعية يقينية.
وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز، على هذا المعنى، أعني معرفة وجود الصانع تعالى.
وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما: أن تكون يقينية.
والثاني: أن تكون بسيطة غير
مركبة، أعني قليلة المقدمات، فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول.
قال ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقاً نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة.
وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب.
ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة ونحن نقول: إن هذه الطريقة، وإن سلمنا وجودها، فليست عامة للناس بما هم ناس.
ولوكانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس، لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها في الإنسان عبثاً.
مثل قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} البقرة: 282.
ومثل قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} العنكبوت: 69، ومثل قوله:{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} الانفال: 29، إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى
والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر، نعم لسنا ننكر أن إماته الشهوات قد تكون شرطاً في صحة النظر، لا أن إماته الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطاً فيها، كما أن الصحة شرط في العلم، وإن كانت ليست مفيدة له.
ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها، كما ظن القوم، بل إن كانت نافعة في النظرية، فعلى الوجه الذي بينا.
وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه.
قلت: العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به، لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على حصول العلم النافع، كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح، كما أن الشرع أمربالعلم بالله تعالى لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع.
قال ابن رشد: وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئاً من جنس طرق الأشعرية.
قلت: طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية، وإنما أخذها من أخذها ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم، وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، ذم هذه الطريقة، كما تقدم ذكر كلامه في ذلك، فذمها وعابها موافقه للسلف والأئمة في ذلك.
وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية، فرأى اعتمادهم عليها، فذلك تكلم عليها.
وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري، وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد، حتى في كتابه الذي سماه غرر الأدلة.