المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌فصل

- ‌كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام أبي الحسين البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام السهرودي المقتول في "التلويحات

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام الآمدي في "دقائق الحقائق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الآمدي في أبكار الأفكار

- ‌الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌شرح الرازي لكلام ابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة

- ‌فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌الوجه السابع عشر

- ‌الوجه الثامن عشر

- ‌الوجه التاسع عشر

- ‌الوجه العشرون

- ‌الوجه الواحد والعشرون

- ‌الوجه الثاني العشرون

- ‌الوجه الثالث العشرون

- ‌الوجه الرابع العشرون

- ‌بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه

- ‌بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

فإذا سميتم كل ما كان كذلك فاعلاً بالطبع، فلم قلتم: إن كل ما كان كذلك مشتاق إلى حال لا يملكها؟

‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

فصل.

عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

ثم قال ابن رشد: فإن قيل: فإذ قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري، فما هي الطريق الشرعية التي نبه الكتاب عليها وكان يعتمدها الصحابة؟

قلنا: الطرق الشرعية التي نبه الكتاب عليها، ودعا الكل من بابها، إذا استقرئ الكتاب، وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما طرق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله، وتسمى هذه دليل العناية.

ص: 321

والطريق الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الخمسة والعقل، ولنسم هذا دليل الاختراع.

أما الطريق الأولى فتبنى على أصلين: أحدهما: أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان.

والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فيحصل اليقين بذلك، بدليل موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر، لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضاً وهو الأرض.

وكذلك أيضاً يظهر موافقة كثير من الحيوان له، والنبات والجمادات، وجزيئات كثيرة: مثل الأمطار، والأنهار، والبحار، وما تحمله

ص: 322

الأرض والماء والهواء والنار.

وكذلك أيضاً تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده.

وبالجملة فمعرفة منافع الموجودات داخلة في هذه الجنس.

ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن صانع جميع الموجودات.

قال: وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات، ووجود السموات.

وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في فطر جميع الناس.

أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات.

كما قال تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} الآية [الحج: 73] ، فإنا نرى أجساماً جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعاً أن ها هنا موجداً للحياة ومنعماً بها، وهو الله تبارك وتعالى.

وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة

ص: 323

بالعناية بما هو ها هنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.

قلت: هذا يبين بأن حركات الأفلاك ليست من قبل أنفسها، بل من محرك منفصل عنها، حتى يكون ذلك المحرك لها هو الآمر المسخر.

وهذا يتبين بوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع، مثل أن يبين المحرك من جهة الفاعل والسبب، ومن جهة المقصود والغاية، أي أنها لا بد أن تقصد بحركاتها شيئاً منفصلاً عنها، مثل ما يقول المسلمون وغيرهم من أهل الملل: إنها عابدة لله تعالى، ويقول المتفلسفة -كأرسطو وأتباعه-: إنها تقصد التشبه بالإله على قدر الطاقة.

وعلى القولين فتكون حركتها من جنس حركة المحب إلى محبوبه، والطالب إلى مطلوبه، وما كان له مراد منفصل عنه مستغن عنه -فهو محتاج إلى ما هو مستغن عنه، ومن احتاج إلى ما هو مستغن عنه لم يكن غنياً بنفسه، بل يكون مفتقراً إلى ما هو منفصل عنه، وهذا لا يكون واجب الوجود بنفسه، بل يكون ممكناً عبداً فقيراً محتاجاً، فتكون السموات مفتقرة ممكنة ليست بواجبة.

والوجه الثاني: أن كل فلك فإنه يحركه غيره من الأفلاك المنفصلة عنه، فتكون حركته من غيره، والفلك المحيط بها المحرك لها لا يحرك ولا يؤثر في غيره، إلا بمعاونة غيره من الأمور المنفصلة عنه، فليس هو وحده المحرك

ص: 324

لسائر أنواع حركاتها، بل يجب أن يكون المحرك غيره، والمتحركات المنفصلة عنه ليست منه وحده، بل منه ومن غيره، فليس فيها ما هو مستقل بالتحريك، وما كان مفتقراً إلى غيره لم يكن واجباً بنفسه.

فلا بد من محرك منفصل عنها.

ومثل أن يقال: ليس شيء منها مستقلاً بمصالح السفليات والآثار الحادثة فيها، بل إنما يحصل ذلك بأسباب منها اشتراكها، ومنها أمور موجودة في السفليات ليست من واحد منها، فكل واحد منها لا بد له من شريك معاون، له مانع يعوقه عن مقتضاه، فلا يتم أمره إلا بمشارك غني عنه، وانتفاء مانع معارض له، فيمتنع أن يكون مبدعاً لشريكه الغني عنه، ولمانعه المضاد له، وأن يكون ما يحصل من المصالح التي في العالم السفلي بمجرد قصده وفعله، فوجب أن يكون هناك ما يوجب فعله وحركته من غيره، وذلك هو الأمر والتسخير.

لأن الحركة إن كانت قسرية فلها قاسر.

وإن كانت طبيعية فالطبعية لا تكون إلا إذا خرجت بالعين من محلها، فهي مقسورة على الخروج.

وإن كانت إرادية فالمريد لآثار لا يستقل بها ولا يحصل إلا بمشاركة غيره، ويمتنع بمعارضة غيره له فيها، هو مفتقر في مقصوده إلى غيره.

ويمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه، لأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقراً إلى غيره المستغني عنه بوجه من الوجوه، إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، لم يكن من ذلك الوجه غنياً عن الغير، بل مفتقراً إليه.

ص: 325

ولا يتم ذلك الوجه إلا بذلك الغير المستغني عنه.

والمريد لأمر إذا لم يكن قادراً على تحصيل مراده كان عاجزاً، وكان فقيراً إلى ما به يحصل مراده والمفتقر إلى ما يعجز عنه لا يكون واجباً بنفسه، ولا يكون كماله حاصلاً به، بل بما هو مستغن عنه.

فهذه الأمور وغيرها مما يستدل به على هذا المطلوب.

قال: وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيصح من هذين الأصلين أن للوجود فاعلاً مخترعاً له.

وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات، ولذلك كان واجباً على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع.

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: 185] .

وكذلك أيضاً من تتبع معنى الحكمة في موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم.

فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.

وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع

ص: 326

سبحانه في الكتاب العزيز هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فذلك بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى.

وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع:

إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعاً.

فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى:{ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا} [النبأ: 6-7] إلى قوله: {وجنات ألفافا} [النبأ: 16] .

ومثل قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} [الفرقان: 61]، إلى قوله:{أو أراد شكورا} [الفرقان: 62] .

ص: 327

ومثل قوله: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الآيات [عبس: 24] .

ومثل هذا كثير في القرآن.

وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى:{فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق} [الطارق: 6] .

ومثل قوله: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] الآية.

ومثل قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا} [الحج: 73] .

ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا} [الأنعام: 79] ، إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

وأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضاً، بل هي الأكثر، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من

ص: 328

قبلكم} [البقرة: 21]، إلى قوله تعالى:{فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة: 22] .

وذلك أن قوله: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] ، تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله:{الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء} [البقرة: 22] ، تنبيه على دلالة العناية.

ومثله قوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون} [يس: 33] .

وقوله: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191] .

وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الأدلة.

قال: فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى.

ص: 329

وإلى هذا الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم} إلى قوله: {قالوا بلى شهدنا} [الأعراف: 172] .

ولهذا يجب على كل من كان وكده طاعة الله تعالى، في الإيمان به وامتثال ما جاءت به رسله، أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذي يشهدون لله بربوبيته، مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له.

كما قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] .

قال: ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] .

قلت: في هذه الآية وآية أخذ الميثاق من الكلام ما ليس هذا موضعه.

وكذلك دعواه انحصار الطريق في هذين النوعين.

ص: 330

وقوله: إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع وغير ذلك -كلام ليس هذا موضعه، بل كل ما دل على العناية دل على الاختراع، ولكن المقصود هنا حكاية ما ذكره.

قال: فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع.

قال: وبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما: طريقة الخواص، ويعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور.

وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفضيل: أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس.

وأما العلماء فيزيدون إلى ما يدركون من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان، هو قريب من عشرة آلاف منفعة.

ص: 331

قال: وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والفلسفية الحكمية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواجب بنفسه، فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعها، فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجوداً.

ومثلا العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده ببعض صنعها وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط.

وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعرف أنها مصنوعات، بل ينسب ما

ص: 332

رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته.

قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم، المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين، كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، من طريقة الأعراض ونحوها، وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة، والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك، هي مع طولها وصعوبتها، لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة.

هذا مع أنه يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق، كما قد بسط في موضعه.

والذي قاله من أن هذه الطرق المعتزلية، كطريقة الأعراض المبنية على امتناع حوادث لا أول لها، لم يبعث الرسول بدعوة الخلق إليها، ولا كان سلف الأمة يتوسلون بها إلى معرفة الله -هو أمر معلوم بالاضطرار لكل من كان عالماً بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والسلف، ولكل من تدبر القرآن والحديث.

وكل متكلم فاضل، كالأشعري وغيره، يعلم ذلك، كما تقدم كلام الأشعري.

وأما كون هذه الطرق المعتزلية -كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص- هي برهانية أو ليست برهانية، وهي تفيد العلم أو لا

ص: 333

تفيده، فهذا مما يعلم بنظر العقل الصريح، فمن كان ذكياً طالباً للحق، عرف الحق في ذلك.

ولنا مقصودان: أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله، لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية.

وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية، ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع، فإذا تبين أنها ليست أصلاً للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلاً لثبوته في نفسه بالاتفاق، بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع، وهو المطلوب.

والمقصود الثاني أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها، وإن لم نقل إنها أصل للعلم به، وقد ذكرنا من قدح فضلاء أهل الكلام والفلسفة فيها بالأدلة العقلية ما يحصل هذا المقصود.

فمن كان له نظر ثاقب في هذه الأمور عرف حقيقة الأمر، ومن كان لا يفهم بعض الدقيق من كلامهم، كفاه أن يعلم أن هؤلاء النظار يقدح بعضهم في أدلة بعض، وأنهم لم يتفقوا على مقدمتين عقليتين، ولا مقدمات ولا مقدمة واحدة يمكن أن يستنتج منها دليل عقلي، يصلح لمعارضة أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن اتفقوا على مطلوب، كاتفاق طائفة من أهل الكلام وطائفة من أهل الفلسفة على نفي العلو مثلاً -فهؤلاء يثبتون ذلك وينفقون التجسيم بدليل الأعراض، والآخرون يطعنون في هذا الدليل ويثبتون فساده في العقل، وهؤلاء يثبتون ذلك بدليل نفي التركيب العقلي، وأولئك يثبتون فساد هؤلاء، فصار هذا بمنزلة من ادعى حقاً وأقام عليه بينتين، وعلى بينة تقدح في الأخرى، وتقول:

ص: 334

إنها كاذبة فيما شهدت به، وتبدي ما يفسد شهادتها، وأنها غير صادقة، فلا يمكن ثبوت الحق بذلك، لأنا إن صدقنا كلاً منهما فيما شهدت به من الحق، وفي فسق أولئك الشهود لزم أن لا تقبل شهادة أولئك الشهود، فلا تقبل شهادة لا هؤلاء ولا هؤلاء، فلا يثبت الحق.

وإن عينا إحدى البينتين بالقبول، أو قبلنا شهادتهما في الحق دون جرح الأخرى، كان تحكماً.

مع أنه ما من مطلوب من المطالب إلا وقد تنازع فيه أهل الكلام والفلسفة جميعاً، فأهل الفلسفة متنازعون في الجهة وحلول الحوادث، وأهل الكلام متنازعون أيضاً في ذلك.

والمثبتون من هؤلاء وهؤلاء يقدحون في أدلة النفاة بالقوادح العقلية.

وأهل السنة، وإن كانوا يعرفون بعقولهم من المعاني الصحيحة نقيض ما يقول النفاة، فلا يعبرون عن صفات الله بعبارات مجملة مبتدعة، ولا يطلقون القول بأن الله جسم، وأنه تحله الحوادث، وأنه مركب، ولا نحو ذلك.

ولا يطلقون من نفي ذلك ما يتناول نفي ما أثبته الرسول ودلت العقول عليه، بل يفسرون المجملات، ويوضحون المشكلات، ويبينون المحتملات، ويتبعون الآيات البينات، ويعلمون موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح.

وهؤلاء المتفلسفة، مثل هذا الرجل وأمثاله، وإن وافقوا النفاة في الباطن في بعض ما نفوه، فهم معترفون بأن الشرع لم يرد بذلك، ومبطلون

ص: 335

لأدلة إخوانهم النفاة، ثم يذكرون من أدلة النفي ما هو أضعف وأفسد مما ضعفوه وأفسدوه.

ونحن نذكر كلامه في ذلك، وذلك أنه لما تكلم على الطريق العقلية الشرعية في إثبات الصانع، تكلم أيضاً على إثبات التوحيد والصفات الثبوتية والسلبية والأفعال..

فقال: القول في الوحدانية: فإن قيل: إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في معرفة وجود الصانع سبحانه، فما طريقة معرفة وحدانيته الشرعية أيضاً، وهو معرفة أنه لا إله إلا هو، فإن هذا النفي هو معنىً زائد على الإيجاب الذي تضمنته هذه الكلمة، والإيجاب قد ثبت من القول المتقدم، فبماذا يصح النفي؟

قلنا: أما نفي الألوهية عما سواه، فإن طريق الشرع في ذلك هي الطريق التي نص الله عليها في كتابه.

ص: 336

وذلك في ثلاث آيات: إحداها قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .

والثانية قوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 91] .

والثالثة قوله: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] .

فأما الآية الأولى فدلالتها مغروزة في الفطر بالطبع، وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه، أه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا معاً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكون أحدهما يفعل ويبقى الآخر عطلاً، وذلك منتف في صفة الإلهية، فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد، فسد المحل ضرورة، أو تمانع الفعل، فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن واحد.

فهذا معنى قوله سبحانه: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .

ص: 337

قلت: المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلاً لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون، ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولاً لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين، وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره، فإنه إذا كان أحدهما مستقلاً به، لزم أن يحصل جميع المفعول المعلول به وحده، فلو قدر أن الآخر كذلك، للزم أن يكون كل منهما فعله كله وحده، وفعله له وحده ينفي أن يكون له شريك فيه، فضلاً عن آخر مستقل، فيلزم الجمع بين النقيضين: إثبات استقال أحدهما ونفي استقلاله، وإثبات تفرده به ونفي تفرده به، وهذا جمع بين النقيضين.

ومن المعلوم بنفسه أن عين المفعول، الذي يفعله فاعل، لا يشركه فيه غيره، كما لا يستقل به، فإنه لو شرك فيه غيره، لم يكن مفعوله، بل كان بعضه مفعوله، وكان مفعولاً له ولغيره، فيمتنع وقوع الاشتراك فيما هو مفعول لواحد.

ولهذا كان المعقول من الاشتراك هو التعاون، بأن يفعل كل منهما غير ما يفعله الآخر، كالمتعاونين على البناء: هذا ينقل اللبن، وهذا يضعه.

أو على حمل الخشبة: هذا يحمل جانباً، وهذا يحمل جانباً.

والمخلوقات جميعها يعاون بعضها بعضاً في الأفعال، فليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول ينفرد به، بل لا بد له من مشارك معاون مستغن عنه، ثم مع احتياجه إلى المشارك، له من يعارضه ويعوقه عن الفعل، فلا بد له من مانع يمنع التعارض المعوق.

ص: 338

وهذا في كل ما يقال إنه مؤثر واحد يصدر عنه وحده شيء أصلاً.

فلا واحد يفعل وحده إلا الله سبحانه.

وهذا مما يبين ضلال هؤلاء المتفلسفة القائلين بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.

وجعلوا هذه قضية كلية ليدرجوا فيها واجب الوجود.

ويقولوا: لم يصدر عنه إلا واحد بسيط، وهو ما يسمونه العقل.

فإن هذا القول، وإن كان فساده معلوماً من وجوه كثيرة، لكن المقصود هنا أن هذه القضية الكلية لا تصدق في موضع واحد غير محل النزاع.

ومحل النزاع علم فيه أن الفاعل واحد، لكن لم يعلم فيه أنه لا يفعل إلا واحداً.

وأيضاً فالوحدانية التي يستحق الرب أن يوصف بها، ليست هي الوحدة التي يدعونها، فإن تلك الوحدة التي يدعونها لا تصدق إلا على الممتنع الذي لا يمكن وجوده إلا في الذهن لا في الخارج، إذ يثبتون وجوداً مطلقاً أو مشروطاً بسلب الأمور الثبوتية أو الثبوتية والعدمية.

وهذا لا يكون إلا في الأذهان، كما قد قرروا ذلك في منطقهم، وهو معلوم بصريح العقل، وقد بين هذا في موضعه.

والمقصود هنا أنهم لا يعلمون واحداً يصدر عنه شيء غير الله تعالى.

فإذا قالوا: الشمس يصدر عنها الشعاع، فالشعاع لا يحصل إلا مع وجود جسم قابل له ينعكس عليه الشعاع، فصار لوجوده سببان: الشمس،

ص: 339

والجسم المقابل لها.

ثم له مانع، وهو الحجب التي تحول بين الشمس وبين ما يقبل الشعاع.

وهكذا النور الخارج من السراج، ونحوه من النيران، لا يحصل إلا بالنار، وبجسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وارتفاع الحجب الحائلة بينهما.

وكذلك تسخين النار، وتبريد الماء، وما يحصل بالخبز والماء من شبع وري، وسائر الآثار الحاصلة بالأغذية والأدوية وغير ذلك، فإنه لا بد من النار، ومن جسم يقبل أثرها، وإلا فالياقوت والسمندل ونحو ذلك لا تحرقه النار.

وكذلك الغذاء لا ينفع إلا بقوة قابلة لأثره في الجسم، وأمثال ذلك كثيرة.

وكذلك الفاعل المختار كالإنسان، فإن حركته الحاصلة باختياره، لا تحصل إلا بقوة من أعضائه يحتاج إليها، وليس هو الفاعل لأعضائه ولا لقواها، فهو محتاج في فعله إلى أسباب خارجة عن قدرته، وقد يحصل في بدنه من العوائق ما يعوقه عن الحركة.

هذا فعله في نفسه، فأما الأمور المنفصلة عنه التي يقال: إنها متولدة عن فعله، فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى، كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر.

ومنهم من يقول.

بل هو مفعول له على طريق التولد، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ويحكى عن بعضهم: أنه قال: لا فاعل لها بحال.

وحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل

ص: 340

عنه، فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسبب آخر من الحجر والهواء.

وكذلك الشبع والري حصل بسبب أكله وشربه، الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك، والله خالق هذا كله.

وهذا مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول أصلاً، فالقلب الذي هو ملك البدن، وإن كان منه تصدر الإرادات المحركة للأعضاء، فلا يستقبل بتحريك، إلا بمشاركة الأعضاء وقواها كما تقدم.

وولاة الأمور، المدبرون للمدائن والجيوش، لا يستقل أحدهم بمفعول، إن لم يكن له من يعينه عليه، وإلا فقوله وعمله أعراض قائمة به لا تجاوزه، وكل ما يصدر خارجاً عنه فمتوقف على أسباب أخرى خارجة عن محل قدرته وفعله.

وهذا كله مما يبين عجز كل مخلوق عن الاستقلال بمفعول ما، فلا يكون شيء من المخلوقات رباً لشيء من المخلوقات رباً لشيء من المخلوقات ربوبية مطلقة أصلاً، إذ رب الشيء من يربه مطلقاً من جميع جهاته، وليس هذا إلا لله رب العالمين.

ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لا يقل أحدكم: اسق ربك أطعم ربك» .

ص: 341