الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، كما نقله الرازي وغيره.
فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه، وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به، وأنه يوجبها، يعني على المميزين، يقولون مع ذلك: إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها، ودل الناس عليها، ووكدها وقررها، حتى تمت الحجة به على الخلق، فجعلوا ما جاء به الشرع متضمناً للمقصود بالعقل من غير عكس، حتى صارت العقليات النافعة جزءاً من الشرع، فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك، كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد، لما قسم الناس إلى أربعة أصناف، كما سيأتي.
فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فقد ذكرنا ما تيسر من طرق الناس في المعرفة بالله، ليعرف أن الأمر في ذلك واسع، وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته، مثل الإيمان بالله ورسوله، فإن الله يوسع طرقه وييسرها، وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلاً عظيماً.
وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها، وقد يكون الخطأ الحاصل بها يناقض حقيقة الإيمان، كما أن كثيراً منهم يذكر أقوالاً متعددة، والقول
الذي جاءت به الرسل، وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه.
وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل، مثل كتاب أبي عيسى الورق، والنوبختي، وأبي الحسن الأشعري، والشهر ستاني: تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار، ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئه والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواعاً من المقالات.
والقول الذي جاء به الرسول، وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين، لا يعرفونه ولا يذكرونه.
بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق، تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدهما، ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل.
والقول الذي جاء به الرسول، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه، فيبقى الناظر في كتبهم حائراً ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على علمه ببطلان تلك المقالات كلها.
وهذا موجد في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم
ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والالهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصوراً ولا تصديقاً فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها.
وأما المطالب العالية والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولايذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول.
وابن رشد الحفيد واحد من هؤلاء.
ولهذا لما ذكر أصناف الأمة، وجعلهم أربعة أقسام: باطنية، وحشوية، ومعتزلة، وأشعرية: جرى
في ذلك على طريق أمثاله من أهل الكلام والفلسفة.
وهو قد نبه على كثير مما جاء به القرآن، كما سنذكره عنه.
لكن المقصود أنه في تقسيم الأمة لم يذكر القسم الذي كان عليه السلف والأئمة، وعليه خيارها إلى يوم القيامة.
لكنه صدق في وصفه من ذكره بالتقصير عن مقصود الشرع فإنه كما قال.
قال: وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري تعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها، مثل قوله تعالى:{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} ومثل قوله {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
قال: وليس لقائل أن يقول: إنه لو كان واجباً على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة،
لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أحداً إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة، فإن العبر كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى.
ولذلك قال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ منه فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئاً من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور.
وهذا فهو أقل الوجود، فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع.
قال: فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع.
قال: وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل.
لكن سلكوا في ذلك طرقاً ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها، وذلك أن طريقهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث، وانبنى عندهم
حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث بحدوثه.
وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد _ وبالجملة حدوث الأجسام - طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلاً عن الجمهور، ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى.
وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم - كما يقولون - أن يكون له - ولا بد - فاعل محدث، وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزلياً ولا محدثاً، أما كونه محدثاً فلأنه يفتقر إلى محدث، وذلك المحدث إلى محدث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل.
وأما كونه أزلياً فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزلياً فتكون المفعولات أزلية، والحادث يحب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث، اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم.
فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل، وهم لا يسلمون ذلك، فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث.
قلت: من أصولهم التي تلقوها عن المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص، فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثاً، وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل.
وكثير من الناس لايميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث، وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل، حتى أن كثيراً من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة، أو غيرها من الأعراض، اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث، ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين، وما لا يسبق النوع الدائم الذي آحاده حادثة، فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده.
ولما تفطن كثير من أهل الكلام للفرق، أرادوا أن يثبتوا امتناع حوادث لا تتناهى بطريق التطبيق وما يشبهه، كما قد ذكر ذلك في موضعه.
فهم لايسلمون وجود حوادث لا أول لها عن فاعل قديم، ويسلمون وجود فعل حادث العين عن فاعل قديم.
وهو يقول: الحادث يجب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث، ثم ذلك الحادث متعلق بفعل حادث، فيكون فعل حادث الأفراد دائم النوع عن فاعل قديم.
فهو يقول: لا يمكن وجود
حادث عن فاعل أزلي إلا بفعل حادث الأفراد دائم النوع، وهم لايسلمون ذلك.
قال: وأيضاً إن كان الفاعل حيناً يفعل وحيناً لا يفعل، وجب أن يكون هنالك علة صيرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى، فلنسأل أيضاً في تلك العلة مثل هذا السؤال وفي علة العلة، فيمر الأمر إلى غير نهاية.
قال: وما يقوله المتكلمون في جواب هذا من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ليس بمنج ولا مخلص من هذا الشك، لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً، سواء فرضنا الإرادة قديمة أو حادثة، متقدمة على الفعل أو معه.
فكيفما كان فقد يلزمهم أن يجوزوا على القديم أحد ثلاثة أمور: إما إرادة حادثة وفعل حادث، وإما فعل حادث وإرادة قديمة، وإما فعل قديم وإرادة قديمة.
والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا وسطة، إن سلمنا
لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة.
ووضع الإرادة نفسها هي الفعل المتعلق بالمفعول شيء لا يعقل، وهو كفرض مفعول بلا فاعل، فإن الفعل غير الفاعل وغير المفعول وغير الإرادة.
والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل.
وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لانهاية له، إذا كان الحادث معدوماً دهراً لانهاية له فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده، إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له، وما لانهاية له لا ينقضي، فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل، أو ينقضي دهر لا نهاية له، وذلك ممتنع.
وهذا هو بعينه برهان المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك.
وأيضاً فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص دون وقت، لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت، لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل قدر زائد على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل، وإلا لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه.
وأيضاً كيف يتعين وقت للحادث من غير أن يتقدمه زمان ماض محدود الطرف، إلى ما في هذا كله من التشغيب والشكوك العويصة التي
لا يخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام والحكمة، فضلاً عن العامة، ولو كلف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق.
وأيضاً فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت هذين الوصفين معاً، أغني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية، فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور.
ونحن ننبه ها هنا على ذلك بعض التنبيه، فنقول إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان:
أحدهما: وهو الأشهر الذي اعتمد عليها عامتهم ـ ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الاصول لما يرومونه من إثبات حدوث العالم.
إحداهما: أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض، أي لا تخلو منها والثانية: أن الأعراض حادثة
والثالثة: أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، أعني ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فأما المقدمة الأولى، وهي القائلة: إن الجوهر لا يعرى من الأعراض، فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة، وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد، ففيها شك ليس باليسير، وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند، وليس في قوة صنا عة الكلام تلخيص الحق منها، وإنما ذلك صناعة البرهان، وأهل هذه الصناعة قليل جداً، والدلائل التي يستعملها الأشعرية في إثباته خطا بية في الأكثر.
وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو انهم يقولون: إن من المعلومات الأولى أن الفيل مثلاً إنما يقولون فيه: إنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزائه على أجزاء النملة وإذا كان ذلك كذلك
فهو مؤلف من تلك الأجزاء، وليس هو واحداً بسيطاً، فإذا فسد الجسم فإليها ينحل، وإذا تركب فمنها يتركب.
وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة، فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة، وذلك إنما يصدق هذا في العدد، أعني أن نقول: إن عدداً أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه، أعني الوحدات.
وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه.
ولذلك نقول في الكم المتصل: أنه أعظم وأكبر، ولا نقول: اكثر.
ونقول في العدد: إنه أكثر ولانقول: إنه أكبر.
وعلى هذا القول فتكون الأشياء كلها أعداد، ولا يكون هناك عظم متصل أصلاً فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها.
ومن المعروف بنفسه أن كل عظم فإنه ينقسم بنصفين: أعني الأعظام الثلاثة، التي هي: الخط، والسطح، والجسم.
وأيضاً فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يفرض عليه في وسطه نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعاً، وليس يمكن ذلك في العدد.
ولكن يعارض هذا أيضاً أن الجسم، وسائر أجزاء الكم المتصل، يقبل
الانقسام، وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم، أو إلى شيء غير منقسم فإن انقسم إلى غير منقسم، فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم، وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال في ذلك المنقسم: هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم؟ فإن انقسم إلى منقسم إلى غير النهاية، كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها، ومن المعلومات الأولى أن أجزاء المتناهي متناهية.
قلت: هذا الموضع هو الذي أوجب قول النظام ونحوه بالطفرة، وقول طائفة من المتفلسفة والمتكلمين بقبول انقسام إلى غيى نهاية بالقوة لا بالفعل.
وقد أجاب عن هذا طائفة من نفاة الجزء بأن كل ما يوجد فهو يقبل القسمة، بمعنى امتياز شيء منه عن شيء، وهي القسمة العقلية المفروضة، لكن لا يلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء، لأن الموجود إن قيل: إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى، وإن قيل: إنه يقبلها بالفعل، فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفني، كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء، وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قاتلة لانقسامات لا تتناهى، ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى.
قال: ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ: ما القابل لنفس الحدوث؟ فإن الحوادث عرض من الأعراض، وإذا وجد الحادث فقد ارتفع الحدوث، فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر فيضطرهم الأمر إلى أن يضعوا الحدوث في موجود ما وبوجود ما.
قلت من يقول: إن الإحداث هو نفس المحدث، والمخلوق هو نفس الخلق، والمفعول هو نفس الفعل، كما هو قول الأشعرية لا يسلم أن لحدوث عرض، ولا أن له محلاً، فضلاً عن أن يكون وجودياً، لكنه قد قدم إفساد هذا، وأنه لا بد للمفعول من فعل.
وحينئذ فيقال: الإحداث قائم بالفاعل المحدث، وحدوث الحادث ليس عرضاً موجوداً قائماً بشيء غير إحداث المحدث.
ويقال أيضاً: إن هذا ينبني على أن المعدوم شيء وأن الماهيات في الخارج زائد على وجودها، وكلاهما باطل.
وبتقدير صحته فيكون الجواب: أن القابل للحدوث هو تلك الذوات والماهيات.
لكن هذا الذي ذكره يتقرر بطريقة أصحابه المشهورة: أن الحادث
مسبوق بالإمكان لا بد له من محل، فلا بد للمحدث من محل.
قال: وأيضاً فقد يسألون إن كان الموجود يكون عن عدم، فبم يتعلق فعل الفاعل ولا يتعلق عندهم بما وجد وفرغ من وجوده فقد ينبغي أن يتعلق بذات متوسطة بين العدم والوجود، وهذا الذي اضطر المعتزلة إلى أن قالت: أن في القدم ذاتاً ما.
وهؤلاء أيضاً - يعني المعتزلة - يلزمهم أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل.
وكلتا الطائفتين يلزمهم أن يقولوا بوجود الخلاء.
قلت هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك: إن قيل: يتعلق بالشيء وقت عدمه، لزم كونه موجوداً معدوماً.
وإن قيل يتعلق به وقت وجوده، لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين.
وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده، بمعنى أنه هو الذي يجعله موجوداً، لا بمعنى أنه كان موجوداً بدونه، فجعله هو أيضاً موجوداً.
قال: فهذه الشكوك - كما ترى - ليس في قوة صناعة الجدل حلها، فإذاً يجب أن لا يجعل هذا مبدأً لمعرفة الله تعالى، وخاصة الجمهور، فإن طريقة معرفة الله تعالى أصح من هذا وأوضح، على ما سنبين بعد من قولنا.
قال: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة، فهي مقدمة مشكوك فيها، وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم.
وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض، فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب، فإن كان واجباً في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب - أعني أن
نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياساً على ما شاهدنا - فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام، ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام.
وذلك أن الجسم السماوي - وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد - الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه، لأنه لم يحس حدوثه، لا هو ولا أعراضه.
ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته، وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك وتعالى بيقين.
قال: وهي طريق الخواص، وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية، وأكثر النظار إنما انتهوا إليها، واعتقدوا أنها آلهة.
قلت: قول هذا وأمثاله: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة، هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة.
لكن هو يزعم أن طريقة الخواص:
طريقة أرسطو وأصحابه، حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية، وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك.
وأولئك المتكلمون يقولون: إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثاً، لامتناع وجود حركات لا نهائية لها.
وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى، وتبين تناقضها بالأدلة العقلية.
وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين ولا احتج بالحركة، بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب، كما قد بسط في موضع آخر.
فالآفل لا يستحق أن يعبد.
ولهذا قال {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني} وقال {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى، لكن كانوا مشركين به، فاستدل على ذم الشرك، لا على إثبات الصانع.
ولو كان المقصود إثبات الصانع، لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم، فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر، إلى أن أفلت كانت