الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ولقائل أن يقول: هذا الكلام إنما يلزم في الموجب بالذات، أما الفاعل المختار فلا، لاحتمال أنه يقال: إنه كان في الأزل مريداً لإحداث العالم في وقت دون وقت، فإذا قالوا: فلم أراد إحداثه في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده؟ كان الكلام فيه طويلاً، وهو مذكور في سائر كتبنا على الاستقصاء.
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الجواب الذي أجاب به هو جواب كثير من أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقد عرف الطعن في هذا الجواب، وأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح، وأن ما ذكر في القسم الأول هو حصول الموثرية التامة في الأزل مع تأخر الأثر، وأن مضمونه تخلف الشيء عن موجبه التام، كما قد بسط في موضعه.
الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول
الجواب عن هذه الحجة بوجوه.
الوجه الأول
قوله: يلزم التسلسل وهو محال ليس كذلك، فإن التسلسل جائز عند من يقول بموجب هذه الحجة، فإن ذلك تسلسل في الآثار لا في المؤثرات، ولا يصح القول بموجبها إلا بذلك، فقولهم: التسلسل محال، باطل على أصلهم.
وهذا الموضع مما يشتبه على كثير من الناس، فإن التسلسل في الآثار: تارة يعني به التسلسل في أعيان الآثار، مثل كونه فاعلاً لهذا بعد هذا، ولهذا بعد هذا، وأنه لا يفعل هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا، وهلم جراً.
فهذا التسلسل جائز عند الفلاسفة، وعند أئمة أهل الملل، أهل السنة والحديث.
وعلى هذا التقدير، فقول القائل، فقول القائل: الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري في العالم: إما أن تكون بأسرها أزلية، وإما أن لا تكون.
أتريد به التي يتم بها مؤثريته في كل واحد واحد من آحاد العالم؟ أو في جملة العالم؟
إن إردت الأول، لم تكن بأسرها أزلية، وكان حدوث كل واحد منها مفتقراً إلى حادث قبله.
وهذا التسلسل جائز عندهم.
وإن أردت الثاني، قيل لك: ليس جملة العالم متوقفاً على أمور معينة، حتى يرد عليها هذا التقسيم، بل بعض العالم يتوقف على أمور، وبعض آخر يتوقف على أمور أخرى، وكل بعض يتوقف على أمور حادثة، وتلك الأمور تتوقف على أمور أخرى، ويلزم من ذلك التسلسل في نوع الحادث، وهو جائز عندكم.
وأما أن أريد بالتسلسل في الآثار، التسلسل في جنس التأثير، وهو أن يكون جنس التأثير متوقفاً على جنس التأثير، بحيث لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، فهذا باطل لا ريب فيه، وهو تسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً، وهو من جنس التسلسل في المؤثر.
لكن بطلان هذا يستلزم أنه لم يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً لشيء، فيلزم دوام نوع الفاعلية لا دوام مفعول معين، وحينئذ فلا يدل على قدم شيء من العالم، وهذا بين لمن تدبره.
ويراد بالتسلسل معنى ثالث، وهو أن فاعليته للحادث المعين، لا تحصل حتى يحصل تمام المؤثر لهذا الحادث المعين، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد، وهذا ممتنع أيضاً باتفاق العقلاء.
فهذا تسلسل في تمام تأثر المعنى، وذاك في أصل التأثير وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء.
فتبين أن حججهم الهائلة، التي أرعبت قلوب النظار، ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم البتة.
فقولهم بقدم شيء من العالم: الأفلاك أو غيرها، قول بلا حجة أصلاً، بل هو قول باطل، كما بين في موضع آخر.
نعم هذه الحجج إنما أرعبت قلوب أهل الكلام المبتدع المحدث في الإسلام، الذي هو كلام الجهمية والقدرية، ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكرامية، ومن تبعهم أو قلدهم من المتفقه وغيرهم، فما ذكره الفلاسفة إنما يبطل قول هؤلاء، الذي زعموا أن الرب لم يزل معطلاً عن أن يفعل بمشيئته أو يتكلم بمشيئته ثم يفعل أو يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء.
وهذا القول مما اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلانه.
فإذاً ليس معهم حجة عقلية تناقض نصوص الكتب والسنة، بل ولا مذهب السلف والأئمة، وهو المطلوب.
وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه، وبين التسلسل في الآثار، يظهر صحة الدليل، الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة، على أن كلام الله غير مخلوق، مثل سفيان بن عيينة.
وبيان ذلك: أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئاً إلا بكن، فلو كانت كن مخلوقة، لزم أن يخلق بكن أخرى، وتلك الثانية بثالثة،
وذلك هو من التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء، فإنه تسلسل في أصل التأثير، فإنه لا يخلق شيئاً إلا بكن، فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئاً، ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن، فيلزم الدور الممتنع، وهو المستلزم للجمع بين النقيضين، وهو أن تكون موجودة معدومة.
وأيضاً فإذا قدر أنه خلق الأولى بالثانية، والثانية بالثالثة، وهلم جراً، فلا بد من وجود جميعها في آن واحد، فإن كل واحد منها شرط في الثانية، وهي من الأمور الوجودية المشروطة في التأثير، فلا بد أن تكون موجودة عند وجود الأثر، كالاستطاعة والقدرة، وحياة الفاعل، وعلمه، وسائر شروط الفعل، فإنها كلها لا بد من وجودها عند وجود الفعل.
ولهذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر، على أن الاستطاعة لا بد أن تكون مع الفعل وتنازعوا في جواز وجودها قبله، ودوام وجودها إلى حين الفعل في حق المخلوق، على قولين.
وأما في حق الخالق، فاتفقوا على بقائها ودوامها إلى حين الفعل.
والصحيح الذي عليه السلف وأئمة الفقهاء، أنها تكون موجودة قبل الفعل، وتبقى إلى حين الفعل.
ولهذا يجوز عندهم وجود الاستطاعة بدون الفعل، كما في حق العصاة، ولولا هذا لم يكن أحد ممن كفر وعصى الله، إلا غير مستطيع لطاعة الله، وهو خلاف الكتاب والسنة.
قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] .
وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] .
وقال: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 91] .
ومعلوم أنه ليس المنفي هنا استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإنه قد يكون حينئذ معنى الكلام، فمن لم يفعل فعليه صيام شهرين متتابعين.
وكذلك يكون الأمر بالتقوى لمن اتقى لا لمن لم يتق، وإيجاب الحج على من حج دون من لم يحج، وهذا باطل.
فعلم أن المراد استطاعة توجد بدون الفعل، وما كانت موجودة بدون الفعل أمكن وجودها قبله بطريق الأولى.
وقد بين في غير هذا الموضع أن تسلسل العلل والمعلولات ممتنع بصريح الفعل واتفاق العقلاء، وكذلك تسلسل الفعل والفاعلين، والخلق والخالقين، فيمتنع أن يكون للخالق خالق، وللخالق خالق إلى غير نهاية.
ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من وسوسة الشيطان، فقال في الحديث الصحيح:«يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته» .. وفي رواية أخرى: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليتعوذ بالله ولينته» .
وكذلك إذا قيل: لا يخلق شيئاً إن لم يخلق كذا، ولا يخلق كذا إن لم