المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌فصل

- ‌كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام أبي الحسين البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام السهرودي المقتول في "التلويحات

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌كلام الآمدي في "دقائق الحقائق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الآمدي في أبكار الأفكار

- ‌الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌شرح الرازي لكلام ابن سينا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد عليه من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على كلام آخر لثابت بن قرة

- ‌فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الحادي عشر

- ‌الوجه الثاني عشر

- ‌الوجه الثالث عشر

- ‌الوجه الرابع عشر

- ‌الوجه الخامس عشر

- ‌الوجه السادس عشر

- ‌الوجه السابع عشر

- ‌الوجه الثامن عشر

- ‌الوجه التاسع عشر

- ‌الوجه العشرون

- ‌الوجه الواحد والعشرون

- ‌الوجه الثاني العشرون

- ‌الوجه الثالث العشرون

- ‌الوجه الرابع العشرون

- ‌بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه

- ‌بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.

وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به.

وقد قال ابن عباس: (التفسير أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله: من ادعى علمه فهو كاذب) .

وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات: بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح، وبين تفسير اللفظ وبيان معناه، وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج، وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به، وبالمعنى الثالث انفرد الله به، وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها.

ومما احتج به هؤلاء: القدر، وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته.

‌تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه

قال عبد الوهاب: (وأيضاً فإن الله قال في حق المؤمنين: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} ، فاعلم أن الإيمان من تفضله، وكتبه في القلوب.

فأي عمل للعقل بعد ذلك؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب، فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل، كالمسطور يدركه النظر.

وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة) .

قال: (ثم نقول: هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة؟ فإن قال: بعقولهم.

فقد أكذبه الله تعالى بقوله: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} ،

ص: 24

وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة، وإنما ذلك اختصاص من الله لهم، كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء.

وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع، كالحياة والوجود) .

قال والده أبو الفرج: قال بعض أصحابنا: عرف بنور الهداية.

وقال غيره: عرفنا نفسه بتعرفه، والجميع واحد.

قال: (وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح، فسئل بعضهم: أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به؟ فقال: عرفت الله به، وعرفت محمداً بالله، ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله) .

قلت: هذه الطريقة تصلح أن تكون رداً على القدرية من المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له، وله هدى يسره له خصه به دون الكافر.

بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية، حيث أرسل الرسول إليهما جميعاً، وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان، وأزاح علةكل منهما.

بل يقولون: إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختياراً كل ما يقدر عليه، فيفعل به الأصلح في دينه، وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء، ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما، والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما، من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه.

ولهذا قال لهم الناس: إذا كان الأمر كذلك، وهما مستويان في أسباب الإيمان، فلما أختص أحدهما

ص: 25

بوجود الإيمان منه دون الآخر؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته، قالوا لهم: إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص، وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصاً بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر.

وأيضاً فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة، والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله، بل يجب عنده عليه فعله، فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك؟

وأيضاً فإن الله تعالى قال: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} .

الآية، فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.

والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه، وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه.

فيقال لهم: أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين، بقوله:{واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} وقال في آخرها: {أولئك هم الراشدون} فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون، والكفار ليسوا براشدين، ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم، لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به.

ص: 26

كما قال في أثناء السورة: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} .

فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، لم يقل: إن كنتم صادقين.

فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء، أولم يكونوا صادقين.

وهذا كقوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} ، وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار.

كقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} .

وقوله: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} .

وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} ، ومثل هذا في القرآن كثير، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، ولكن المقصود التنبيه على المأخذ.

فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه.

ويقولون: إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد، لأن الواجب لا يكون إلا مقدوراً للعبد.

ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها، ولا له عليها قدرة.

وقد يقولون: إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره.

ص: 27

ولهذا يقول من يقول منهم: إنه يمتنع أن تكون ضرورية، لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب.

لكن هنا هم متنازعون فيه، لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك، كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم، ولا ثواب فيه ولا أجر لها.

ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس، ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم، بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه، ويثيبه عليه أعظم الثواب.

فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه، ونحو ذلك من العبارات، يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية.

وهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل، كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم.

بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم: إما إرشاداً إلى الدليل العقلي، وإما اخباراً بالحق الواقع.

وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه، كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله.

ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه، وإن

ص: 28

كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر.

فلا يمكن العالم العارف، بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل، أن يدفع ذلك عن قلبه، اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم.

وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان.

وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان، سواء حصل بسبب من العبد، كنظره واستدلاله، أو بسبب من غيره، أو بدون ذلك، هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره، وهي من نعمة الله على عبده، فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات.

فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالاً.

وهذا هو الذي أبطله هؤلاء.

وقولهم: إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة، كلام صحيح.

والشرط له مدخل في حصول المشروط به، كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها.

والعقل قد يراد به الغريزة، وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان.

ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك.

وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار، بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر، وله موانع تمنع حكمه، كما أن الشمس سبب في الشعاع، وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به، وله مانع كالسحاب والسقف.

ص: 29

والله خالق الأسباب كلها، ودافع الموانع.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» .

كما قال تعالى: ( {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} .

وقال تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} .

وقال تعالى: {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} .

ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم، وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك، فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه، وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله.

والقدرية لا يجعلونه من فعل الله، بل يقولون: هو متولد عن نظره، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، والجرح عن الجرح، فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط، كما يقولون في الأمور المباشرة.

ص: 30

وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات، فلم يجعل للعبد فعلاً ولا أثراً في هذا المتولدات، بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم، ولم يجعل للعبد فعلاً إلا ما كان في محل قدرته، وهو ما قام ببدنه، دون ما خرج عن ذلك.

والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله.

فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع.

وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين، اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق للسببين جميعاً.

ولهذا كان العبد مثاباً على المتولدات، والله تعالى يكتب له بها عملاً، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن.

قال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولداً، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات، وكذلك غير الكافر.

ص: 31

وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك.

ثم قال تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم} ، فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه:{إلا كتب لهم} ولم يقل: به عمل صالح.

وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات، فقال فيه:{إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك، وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله.

قال تعالى: {نكتب ما قدموا وآثارهم} .

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .

وقال في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى

ص: 32

ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .

ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى.

كما قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} .

وقال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} .

وقال: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} .

وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} .

فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين، فهذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله، بل هو من فعل العبد فقط، وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر رداً عليهم.

وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه، وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه، فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علماً نافعاً.

وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم: هل هو

ص: 33

بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلاً؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده.

وإذا حصل له علم بدليل عقلي، فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه، ثم يحدث العلم الذي حصل بها.

وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظراً ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظراً ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.

فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خذل.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب» .

ويقول: «والذي نفسي بيده» ويقول: «ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» .

ص: 34

وكان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .

وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينةً علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال، فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر، وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده، فيكون من المعاندين الجاحدين.

قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} .

وقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ، فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، كذلك فيما يكتسبه.

من العلوم، ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح.

ولكن الشأن في

ص: 35