الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود التنبيه على ما ذكره المنازعون لأبي الحسين وغيره من القائلين بأن جنس الحوادث ممتنع دوامها من أهل الإسلام والسنة والفلاسفة وغيرهم.
وكذلك قوله: كل واحد قد سبقه عدم، فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها وعدمها، ولا ينفصل السابق من جنس المسبوق.
فإنهم يقولون: كل واحد مسبوق بعدم نفسه لا بعدم جنسه، فإذا كان الجنس لا أول له، لم يلزم أن يقارنه عدمه، بل يقارن كل فرد من أفراده عدم غيره.
وهم يسلمون عدم كل واحد واحد، كما يسلمون حدوثه، فإن حدوثه مستلزم لعدمه.
لكنهم ينازعون في عدم الجنس وانتهائه وامتناع دوامه في الأزل، كما ينازعون في انتهائه وامتناع دوامه في الأبد.
كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وبالجملة: هذا الموضع هو من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام.
وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسماوات والأرض، ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام.
وأئمة أهل الحديث والسنة، وطوائف من أهل النظر والكلام، مع أئمة الفلاسفة تنازعهم في هذا.
ثم إنهم والدهرية من الفلاسفة اشتركوا في أصل تفرعت عنه مقالاتهم، وهو أن تسلسل الحوادث ودوامها يستلزم قدم العالم، بل قدم السماوات والأفلاك.
فقال الفرقان إذا قدر حادث بعد حادث إلى غير نهاية، كان العالم قديماً، فتكون الأفلاك قديمة.
ثم إن الفلاسفة الدهرية، كابن سينا وأمثاله، قالوا: تسلسل الحوادث ودوامها واجب، لإن حدوث الحادث بدون سبب ممتنع، فيمتنع أن يكون جنسها حادثاً بلا سبب حادث.
لكل حادث سبب حادث، كان الجنس قديماً، فيكون العالم قديماً.
وأبو الحسين البصري، وأمثاله من المعتزلة، ونحوهم من أهل الكلام، قالوا: تسلسل الحوادث ممتنع، لأن كل حادث مسبوق بالعدم، فيكون الجنس مسبوقاً بالعدم، فيلزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث، والأجسام لاتخلو من الحوادث فتكون حادثة.
ونفس الأصل الذي اشترك فيه الفريقان باطل، وهو أنه يلزم من إمكان تسلسل الحوادث قدم الأفلاك، أوقدم العالم، أوقدم شيء من العالم.
والفلاسفة الدهرية أعظم إقراراً ببطلانه من المعتزلة، فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها، ولا قدم السماوات والأفلاك، ولا شيء من العالم.
والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لايقتضي قدم شيء من أعيانها، وأن تسلسلها ممكن بل واجب.
فيقال لهم: هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئاً بعد شيء، فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها؟ بل يقال: هذا يبطل قولكم فإنها إذا كانت متسلسلة امتنعت أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة، فإن العلة التامة لايتأخر عنها شيء من معلولها.
والحوادث متأخرة، فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط.
وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم، يقولون: أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأنه القديم، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم.
ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك، فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم؟
وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك، وكل حادث مسبوق بحادث، مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور، حصل مقصودكم.
وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، أو فاعلاً لما يشاء، لم يناقض هذا كون العالم مخلوقاً له، فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام، كما أخبرت بذلك الرسل، والله خالق كل شيء، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم.
ويقول لهم منازعوهم: أنتم أردتم إثبات حدوث العالم، وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطاً في حدوثه، بل وشرطاً في العلم بالصانع، فكان ما ذكرتموه مناقضاً لحدوث العالم، وللعلم بحدوثه، وللعلم بإثبات الصانع.
وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها، وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحداث المحدثات، لم يفعل شيئاً من الأفعال ولا الأقوال، بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم، ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية
لها في الأزل، ثم حين أحداثها هو على ما كان عليه قبل ذلك، فحدث من غير تجدد شيء أصلاً.
فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث الحوادث بلا سبب، ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة، حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل.
وقلتم: يجب أن يكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن، بل أن يكون مخلوقاً في غيره، لا قائماً بذاته، أو أنه لايتكلم بمشيئته وقدرته.
وقلتم: لا يمكنه أن يحدث شيئاً إن لم يمتنع دوام الفعل منه، فلا يكون قادراً متكلماً، إلا بشرط أن لا يكون كان قادراً فاعلاً متكلماً.
وقلتم: لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث، ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان، فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط، وبدلتم الفضايا العقلية، كما حرفتم الكتب الإلهية.
ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم، وزادوا في الكتب الإلهية تحريفاً وإلحاداً، وصار أصل الأصول عندكم _ الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله، وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة، أتباع السلف والأئمة، ومن غير أهل القبلة - هو قولكم: إذا كان كل واحد من الحدوث له أول، استحال ألا يكون لمجموعها أول، لأنها ليست سوى آحادها.
والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد، وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة.
وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد، فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم، وليس الجسم جوهرا فرداً، بل المجموع من أفراد، وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد.
وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان، وليس كل عضو منه إنسان.
وكذلك كل من الشمس والقمر، والشجر والثمر، وغير ذلك من الأجسام المجتمعة، لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها.
والإنسان حي سميع بصير متكلم، وليس كل واحد من أبعاضه كذلك.
فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائماً باقياً، أن يكون كل من أفراده دائماً؟
والأمور المقدارية والعددية، كالكرات، والدوائر، والخطوط، والمثلثات، والمربعات، والألوف، والمئات، كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها.
وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم، أو طويل، أو ممتد، لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك.
قال تعالى في الجنة: {أكلها دائم وظلها} الرعد: 35.
ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفني وينقضي، والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي، ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل.
قال تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} ص: 54، فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد، وأن كل واحد من أجزائه ينفد.
ويقال للزمان والحركات في الأجسام: إنها طويلة ممتدة، ولا يقال للصغير من أجزائها: إنه طويل ممتد، فيكون الرب لم يزل ممتلكاً إذا شاء، أولم يزل فاعلاً لما يشاء هو، بمعنى كونه لم يزل متكلماً فعالاً، وبمعنى دوام كلامه وفعاله، لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل.
فإن قلتم: الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره، كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره، والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره، فكما أن الممكنات - مفردها ومجموعها - يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل، وكذلك المحدثات، فكذلك الحوادث - مفردها ومجموعها - يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
وهذا من جنس قولهم: الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير، لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة.
قال لكم منازعوكم: هذا لفظ مجمل مشتبه.
وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، مع إلغاء الفارق، ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر.
فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس.
وذلك أن قولهم: الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة - من حيث هي - تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
يقال لكم: الحادث المطلق لاوجود له إلا في الذهن لا في الخارج، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليس مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم إما على كل فرد فرد، وإما على كل جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب.
فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما.
وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أنه لا بد من محدث؟ الثاني مسلم، والأول محل النزاع.
وكذلك في الحركة: إن قلتم: إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم، فهذا لا نزاع فيه.
وإن قلتم: إن نوعها مسبوق بالعدم، فهذا محل النزاع.
وذلك أن معظم ما اعتمدوا عليه قولهم: الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير، فإن الحركة تحول من حال إلى حال، فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى، فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض، وكل ما كان مسبوقاً بغيره لم يكن أزلياً.
فالحركة
يمتنع أن تكون أزلية.
فيقال لهم: قولكم: الحركة تستلزم المسبوقة بالغير سبق بعض أجزائها على بعض، وهو المعنى الذي دللتم عليه؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم، أم مسبوقة بالفاعل؟
أما الأول، وهو الذي دللتم عليه، فإنه يقتضي نقيض قولكم، وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجوداً، لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة، وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى، وتلك الحال مسبوقة بأخرى، فكان ما ذكرتموه دليلاً على حدوث الحركة، كما أنه يدل عل حدوث أعيان الحركة وأجزائها، فهو يدل على دوام نوعها، وهو نقيض قولكم.
فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع، وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم.
وحينئذ فيقول المنازع: نحن نقول بموجب دليلكم، وهو حجة عليكم.
وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم، فلم تذكروا على هذا دليلاً أصلاً، وهو مورد النزاع.
وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل، فهذا أيضاً يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل.
ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقاً انفصالياً، وإن لم يقيموا دليلاً على هذا، فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلاً عليه، وما أقمتم عليه دليلاً لا يدل على قولكم بل على نقيضه.
ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة: أنتم لم تقيموا دليلاً عل قدم شيء من العالم، بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية، وهذا يدل على نقيض قولكم، فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل، والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه.
وأما قدم شيء من العالم فلا دليل لكم عليه، بل دليلكم يدل على نقيضه، فإنه لو كان المفعول مقارناً للفاعل، لزم ألا يحدث في العالم شيء.
والطائفتان جميعاً أصل قولها الكلام في الحركة، فهؤلاء يقولون: يمتنع أن تكون الحركة دائمة، فلا بد أن يكون جنس الحركة حادثاً عن غير سبب حادث.
وهؤلاء يقولون بل جنس الحركة يمتنع أن يكون حادثاً، فيمتنع أن تحدث الحركة لا من حركة.
والزمان مقدار الحركة، فيجب قدم نوعه.
ثم قالوا: ولا حركة فوق حركة الفلك ولا قبلها إلا مقدار هذه الحركة، فتكون هذه الحركة وزمانها أزليين.
فيقال لهم: من أين لكم أنه لا حركة قبل حركة الفلك ولا فوقها؟ وهل هذا إلا قول بلا علم، ونفي لما لم تعلموا نفيه، وتكذيب لما لم تحيطوا بعلمه ولما يأتيكم تأويله؟
ثم قولكم بأنه لا حركة إلا هذه الحركات، مع أنه لا أول لها ولا آخر، وهذا كذلك، وهذا أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة.
قالوا: فالجسم يمتنع أن يتحرك حركة لا تتناهى، كما ذكر ذلك أرسطو، لأن الجسم ينقسم، فتكون حركة الجزء مثل حركة الكل لا تتناهى، وهذا ممتنع: يمتنع أن يكون الجزء مثل الكل.
قيل لهم: بل هذا الذي ذكره أرسطو وتلقيتموه بالقبول، يدل على نقيض مقصوده ومقصودكم.
فإن الجسم إذا قامت به حركة فحركة مجموع الجسم أكبر من حركة بعضه في المكان.
وهذا غير ممتنع عند أحد من العقلاء، فليس حركة الجزء مثل حركة الكل، ولكن كلاهما
لا يتناهى بعضه أكثر من بعض في الزمان، وما لا يتناهى لا يكون شيء أكبر منه.
فهذا يدل على فساد قولكم.
لأنكم تقولون: إن حركة المحيط أعظم من الحركة المختصة بفلك الشمس والقمر وغيرهما، وكلاهما لا يتناهى.
فهذا الذي ذكرتموه في حركة الجسم الواحد يستلزم بطلان قولكم في حركة الجسمين، وأما الجسم الواحد فإن قولكم فيه ينبني على أنه يتبعض، وأن حركته متبعضة، حتى يقال: إن بعضه يساوي كله في عدم النهاية، وهذا ممتنع، بل هي حركة واحدة لا أول لها ولا آخر، ولا امتناع في ذلك.
ويقال للمتكلمين: إن قلتم: إنه مسبوق بالمحرك، بمعنى أنه لا بد للحركة من محرك، فهذا أيضاً مسلم، لكن قولكم: إن المحرك لا يجوز أن يحرك شيئاً حتى تكون الحركة ممتنعة عليه أولاً، ثم تصير ممكنة من غير تجدد شيء، فتنقلب من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث سبب أصلاً، ولا يجوز أن يحدث شيئاً حتى يحدثه بلا سبب حادث أصلاً.
هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم، ويقولون لكم: لم ينزل الله قادرا على الفعل، والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين، فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه، فكل ما هو مقدور للرب تعالى، فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا.
ويقولون: إذا قلتم: لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا، لأن الفعل لم يكن ممكنا ثم صار ممكنا، فما الموجب لهذا التجدد والتغير؟
فإن قلتم: حدث ذلك بلا سبب، كان هذا أعجب من قولكم الأول، إذا كان القادر بصير قادرا بعد أن لم يكن، من غير تجدد شيء أوجب قدرته.
وإن قلتم ما ذكره أبو الحسين: المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، فيمتنع وجوده في الأزل.
قيل لكم: إن الفاعل لا يكون فاعلا حتى يحصل الشيء عن عدمه، فلا يكون الفعل نفسه، أو المفعول نفسه، قديما.
لكن لم قلتم: إنه يشترط في الفعل المعين عدم غيره؟ ولم قلتم: إنه لا يكون فاعلا لهذه السموات والأرض، حتى لا يكون قبل ذلك فاعلا أصلا ولا يكون فاعلا حتى يكون جنس الفعل منه معدوما بل ممتنعا؟ فهذا غير واجب في المعقول، بل المعقول يعقل أنه حصل الشيء عن عدم.
وإن كان قبل تحصيله حصل غيره عن عدم، وهم قد يقولون: كان في الأول قادرا على الفعل فيما لم يزل، وهذا كلام متناقض، فإنه في حال كونه قادرا لم يكن الفعل ممكنا له عندهم.
فحقيقة قولهم: كان قادرا حين لم يكن قادرا، فإن القادر إنما يكون قادرا على ما يمكنه دون ما لا يمكنه، فإذا كان الفعل في الأزل - وهو الفعل الدائم، أي الذي يدوم جنسه - غير ممكن له مقدورا له، فلا يكون قادرا عليه.
وهذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء المتكلمين، وكان هذا من أسباب لعنة بعضهم على المنابر.
ويقال لهم: مقصودكم الأول نصر الإسلام والرد على مخالفيه، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا عن أحد من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، هذا القول الذي أحدثتموه وجعلتموه أصل دين المسلمين.
ليس فيه أن الرب لم يزل لا يفعل شيئا
، ولا يتكلم بشيء، ولا يمكنه ذلك، ثم إنه بعد تقدير أزمنة لا نهاية لها فعل وتكلم وإنه
صار ممكناً من الفعل والكلام بعد أن لم يكن متمكناً، بل القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين يناقض ما ذكرتموه، فكان ما ابتدعتموه من الكلام الذي ادعيتم أنه أصل الدين مخالفاً للسمع والعقل، ثم إنه صار من تقلدكم ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم.
ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم، بل المعروف عنهم يناقض ذلك، ولكن الثابت عند الأنبياء أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، خلاف قول الفلاسفة الذين يقولون: إن الأفلاك، أو العقول، أو النفوس أو شيئاً غير ذلك مما سوى الله، قديم أزلي، لم يزل ولا يزل.
ويقال: قول القائل: الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، أتريد به الفاعل للشيء المشار إليه أنه لا يكون فاعلاً له إلا إذا حصله عن عدم؟ أم تريد به أنه لا يكون الفاعل في نفسه فاعلاً لشيء حتى تكون فاعليته ممتنعة، ثم صارت ممكنة؟
أما الأول فمسلم.
والثاني ممنوع.
وسبب ذلك الفرق بين الفعل ونوعه.
فإذا لم يعقل فاعل لمعنى إلا بعد عدمه، لم يلزم ألا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلا بعد أن لم يكن فاعلاً، بل العقل لا يعقل حدوث فاعلية بلا سبب.