الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويناقش التاسع بأمرين:
الأول: أن فيه التصريح باتخاذ رصيد لهذه الأوراق، وأنه سبب الثقة بها وحلولها محل الذهب أو الفضة وكسبها القبول العام والإبراء التام فدل على أنها فرع عما دعمت به من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما من عقار ونحوه، فكانت بدلا عن أصلها الذي حلت محله لا جنسا أو أجناسا مستقلة بنفسها.
الثاني: أن اختلاف جهات الإصدار قوة وضعفا وسلطانا وسعة وضيقا واختلافها في نوع ما تدعم به عملتها الورقية لا تأثير له في اختلاف رصيده منهما أو مما قدر بهما فيكون بعض الورق تبعا للفضة وبعضها تبعا للذهب لا غير، يدل على ذلك أن جهات إصدار نقد من الذهب أو الفضة لا يؤثر اختلافها ولا وحدتها في جنس كل من الذهب والفضة، بل هما جنسان اتحدت الجهة أو اختلفت.
ويناقش العاشر: بأنه لا حرج ولا مشقة في القول بتفرعها عن الذهب والفضة، فإن ما اشترط فيها من المماثلة في بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض قد اشترط فيما هي بديل عنه من الذهب أو الفضة ولم يعتبر ذلك حرجا، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا.
علة الربا في النقدين:
نظرا إلى أن الأوراق النقدية أصبحت تلقى قبولا عاما في دنيا
المعاوضات كوسيط للتبادل، وأنها بذلك حلت محل الذهب والفضة في الثمنيه، وحيث أن السنة النبوية نصت على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة، ونظرا إلى أن أهل العلم اختلفوا في تعيين علة لجريان الربا فيهما، نظرا إلى ذلك كله كان من المناسب أن يشتمل هذا البحث على بيان أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين ونقاش ما استند إليه كل قول مما يقبل النقاش.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في النقدين الذهب والفضة: فمن نفى التعليل أو تعذر عليه إقامة دليل يرضاه لإثبات علة التحريم: قصر العلة فيهما مطلقا سواء كانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين.
وهذا مذهب أهل الظاهر ونفاة القياس وابن عقيل من الحنابلة، حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها، فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرها مما يعد نقدا، وتحريم الربا فيهما عندهم تعبدي، وأما غيرهم فقد استنبط مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا إلا أتهم اختلفوا في تخريج المناط.
ويمكن حصر آرائهم في ثلاثة أقوال:
الأولى: يتلخص القول الأول في أن علة الربا في النقدين الوزن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (1) » ، ولقوله:«الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل (2) »
(1) أخرجه مسلم برقم (1584)(77) وأبو داود برقم (3353) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (5470) .
(2)
أخرجه أحمد (2 \ 262) و (6 \ 19) ومسلم برقم (1588)(84) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (4569) .
وقوله: «ما وزن مثلا بمثل (1) » ، وقوله:«بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (2) » .
وقال في [الميزان] ، مثل ذلك (3) ، فجعل ضابط ما يجري فيه الربا وتجب فيه المماثلة الوزن في الموزونات، وطرد أصحاب هذا القول القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن؛ كالحديد، والنحاس، والرصاص، والصفر، والصوف، والقطن والكتان، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. ويمكن أن يورد على هذا القول ما يلي:
(أ) الوزن وصف طردي محض لا مناسبة فيه (4) .
(ب) العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة.
(ج) أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن؛ بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا ولا يتعامل به وزنا، كالفلوس، والورق النقدي، فإن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في
(1) رواه الدارقطني برقم (58) .
(2)
صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(3)
[صحيح البخاري] ، (3 \ 35، 61) و (5 \ 83، 84) .
(4)
انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .
التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات المائة ريال والألف دولار.
الثاني: ويتلخص هذا القول في أن علة الربا في النقدين غلبة الثمنية، وهذا القول هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي فالعلة عندهما قاصرة على الذهب والفضة، والقول بغلبة الثمنية احتراز عن الفلوس إذا راج رواج النقدين فالثمنية طارئة عليها فلا ربا فيها.
ويمكن أن يورد على هذا الرأي ما يلي:
(أ) أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم منقوضة طردا بالفلوس؛ لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1)
(ب) أن حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما؛ بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي.
الثالث: ويتلخص في أن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية.
وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة.
قال أبو بكر من أصحاب أحمد: روى ذلك عن أحمد جماعة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من محققي أهل العلم (2)
(1) انظر [مجموع النووي] ، (9 \ 445) ، وانظر الفروع، (2 \ 545) .
(2)
انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (29 \ 473، 474) ، وانظر إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .
وقد أورد ابن مفلح على هذا القول إيرادا ملخصه: بأن التعليل بالثمنية تعليل بعلة قاصرة لا يصلح التعليل بها في الأكثر منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأنه لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين، بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا كما يجري فيهما، كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة؛ لأن الصناعة قد نقلته من جنس الثمنية إلى أجناس السلع والثياب؛ ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور في مذهب الإمام أحمد مع أنه من الذهب والفضة (2) .
كما يمكن أن يورد على القائلين بمطلق الثمنية إيراد ملخصه: بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أو مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه؛ لكونه ثمنا وإنما الإشكال في جريان الربا في سبائكهما مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا، ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة وشاملة لسبائكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن.
(1) انظر [الفروع] ، وتصحيحه (2 \ 545) .
(2)
انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 145 - 142) ، وانظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية](29 \ 453) .
ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال: «جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: " زن وارجح» ، ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:«يا بلال أقضه وزده (1) » فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) .
هذا ما تيسر إيراده. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع
…
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
(1) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) .
(2)
انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (19 \ 248) ، وانظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 140) .
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (10) وتاريخ 17 \ 8 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأمين العام لهيئة كبار العلماء - بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء؛ استنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر، أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 1393 هـ، وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادا، أو عروضا، أو فلوسا، أو بدلا عن ذهب أو فضة، أو نقدا مستقلا بذاته، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - جرى تداول الرأي فيها، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات. فتنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها:
وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحدا أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم - فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي، وحضر معه الدكتور عمر شابريه أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية:
س1: هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدا قائما بذاته أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها، كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا؟
س2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها، وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل أم غطاء للبعض فقط، وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية، وما هو الحد الأدنى لها؟
س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية، وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة، وله هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقا؟
س4: المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها، فما هي مقومات هذه القيمة؟
س5: نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلى؟
س6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب، وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟
س7: ما يسمى بالدينار، والجنيه هل هو مغطى بالذهب، ولذا سمي دينارا أو جنيها رمزا لما غطي به، ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة أم أن هذه التسميات يقصد منها المحافظة على التسميات القديمة للعمل المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة؟
س8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعا لم يسبق له نظير؟
وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي.
ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ - قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا
شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها؛ ولهذا كانت أثمانا. . . إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت) اهـ (1) .
وذكر نحو ذلك الإمام مالك في [المدونة]، من كتاب الصرف حيث قال:(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) اهـ (2) .
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة، وبه الإبراء العام، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ: أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا، بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو جزئيا لأي عملة في العالم، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية، فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية؛ كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار
(1)[مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (29 \ 251) .
(2)
[المدونة الكبرى] ، للإمام مالك (3 \ 5) توزيع \ مكتبة دار الباز بمكة المكرمة.
غطاء للعملات الورقية.
وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا، والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد، قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما.
وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي:
(أ) لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما - نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.
(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا، إذا كان ذلك يدا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
.
…
.
…
رئيس الدورة الثالثة
.
…
.
…
محمد الأمين الشنقيطي
متوقف
عبد الرزاق عفيفي
لي وجهة نظر أخرى في الأوراق النقدية أقدم بها بيانا إن شاء الله
…
عبد الله بن حميد
متوقف
…
عبد الله خياط
عبد المجيد حسن
…
عبد العزيز بن صالح
…
عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
…
سليمان بن عبيد
…
محمد الحركان
عبد الله بن غديان
متوقف
…
راشد بن خنين
…
صالح بن غصون
صالح بن لحيدان
متوقف
…
عبد الله بن منيع
…
محمد بن جبير
(1) سورة التوبة الآية 60
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان المراد من قول الله تعالى في
آية مصارف الزكاة: وفي سبيل الله (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5\ 8\ 1394 هـ ويوم 22\ 8\ 1394 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على أقوال أهل العلم في ذلك، مع ذكر مستند كل قول ومناقشته:
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني، ص 23- 60، عام 1395 هـ.
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
سورة التوبة الآية 60
اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) على ثلاثة أقوال:
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
سورة التوبة الآية 60
القول الأول: إن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء.
وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم:
قال ابن جرير الطبري: وأما قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قال: الغازي في سبيل الله. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، ورجل اشتراها بماله، وفي سبيل الله، وابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له (3) » (4) اهـ.
وقال القرطبي: الثانية والعشرون: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5)
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4)
[جامع البيان] ، (14\ 320) تحقيق محمود شاكر.
(5)
سورة التوبة الآية 60
هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء، وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله (1) اهـ.
وقال ابن العربي: (المسألة التاسعة عشرة) قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا: الغزو، ومن جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج، والذي يصح عندي من قولهما: أن الحج من جملة السبل مح الغزو؛ لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر، وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى، ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: غاز في سبيل الله (3) » .
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا، وهذه زيادة على النص. وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقران مثله أو بخبر متواتر، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله:{وَلِذِي الْقُرْبَى} (4) فشرط في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، وحينئذ يعطون من الخمس، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه.
(1)[الجامع لأحكام القرآن] ، (9\ 185) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4)
سورة الأنفال الآية 41
وقال محمد بن عبد الحكم: يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؟ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة (1) اهـ.
وقال الجصاص: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له (3) » واختلف الفقهاء في ذلك: فقال قائلون: هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي.
وقال الشافعي: لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله، لأن شرطها تمليكه، وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ، وقد روي «أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعد في صدقتك (4) » فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها
…
إلى أن قال:
وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث مآله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة.
فإن قيل: فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله: «لا تحل
(1)[أحكام القرآن] ، (1 \ 396، 397) الطبعة الأولى] ، عام 1331 هـ.
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4)
صحيح البخاري الزكاة (1489) ، صحيح مسلم الهبات (1620) ، سنن الترمذي الزكاة (668) ، سنن النسائي الزكاة (2617) ، سنن أبو داود الزكاة (1593) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2392) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) ، موطأ مالك الزكاة (624) .
لغني إلا في سبيل الله (1) » .
قيل له: قد يكون الرجل غنيا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها- فلا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة- فتجوز له الصدقة، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر، فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«الصدقة تحل للغازي الغني» اه (2)
وقال السيوطي في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) قال: هم المجاهدون، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) قال: الغازي في سبيل الله. اهـ (6)
وقال الخازن: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) يعني: وفي النفقة في سبيل الله، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2)
[أحكام القرآن] ، (3\ 156، 157) المطبعة البهية، عام 1347 هـ.
(3)
سورة التوبة الآية 60
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
سورة التوبة الآية 60
(6)
[الدر المنثور](3\ 352) .
(7)
سورة التوبة الآية 60
والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء. اهـ (1) .
وقال الشوكاني في [تفسيره] : {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء وهذا قول أكثر العلماء. اهـ (3) .
وقال ابن حجر العسقلاني: وأما {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا، إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. اهـ (5) .
وقال بدر الدين العيني: قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف، ومنقطع الحاج عند محمد، وفي [المبسوط] ، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد فقراء الحاج.
وقال ابن المنذر: وفي الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: سبيل الله هو: الغازي غير الغني وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج وذكر ابن بطال: أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومثله النووي في [شرح المهذب]، وقال صاحب [التوضيح] : وأما قول أبي حنيفة: لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (8) وأما السنة فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
(1)[لباب التأويل في معاني التنزيل] ، (3\ 92) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
[فتح القدير](2\ 373) .
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
[فتح الباري] ، (3\ 59) .
(6)
سورة التوبة الآية 60
(7)
سورة التوبة الآية 60
(8)
سورة التوبة الآية 60
أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني أو غارم (1) » .
(قلت) : ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تحل الصدقة لغني (2) » . وقال: المراد من قوله: «لغاز في سبيل الله (3) » هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ: وردها إلى فقرائهم. اهـ (4)
وقال أبو الحسن المباركفوري: اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور، قال الباجي: هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء، وقال الخرقي: وسهم في سبيل الله هم الغزاة. قال ابن قدامة: هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو. اهـ، ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به.
قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4)
[عمدة القاري] ، (9\ 45) .
فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج- ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) ثم قال: والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة؛ لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه.
قال ابن العربي في [أحكام القرآن]، قوله:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو؛ لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه، وهو حديث صريح مفسر لقوله في سبيل الله في الآية، فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جوابا شافيا من أحد، وإليه ذهب ابن حزم، إذ قال: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود (3)، وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك؛ لأن الظاهر إرادته به. انتهى، وهو الذي صححه الخازن في [تفسيره]، حيث قال: والقول الأول هو الصحيح؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضا العلامة القنوجي اليوناني في [تفسيره]، إذ قال: والأول أولى؛ لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في [فتح القدير] ، ورجحه، واختاره أيضا غيرهم من المفسرين. اهـ.
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
حديث عطاء بن يسار: ''لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة '' الحديث وقد تقدم ذكره.
وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (1) » ما نصه:
قلت: فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه، وهو من سهم سبيل الله، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه، وقال أصحاب الرأي: لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به.
قلت: سهم السبيل غير سهم ابن السبيل، وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (2) والمنقطع به هو: ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب، وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه (3) اهـ.
قال ابن الأثير: وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه (4) .
وقال البابرتي على عبارة [الهداية]،:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) منقطع الغزاة
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
[معالم السنن] ، (2\ 234، 235) .
(4)
[النهاية في غريب الحديث] ، (2\ 145) .
(5)
سورة التوبة الآية 60
عند أبي يوسف رحمه الله: وقوله: منقطع الغزاة، أي: فقراء الغزاة
…
ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا؛ لأن المصرف هو للفقراء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم (1) » .
وقال الشافعي: يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (2) » من جملتهم الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن، ومعناه: أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيا فيحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب. اهـ (3)
وفي [الفتاوى الهندية]، ما نصه: ومنها: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) وهم: منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وعند محمد رحمه الله تعالى: منقطعو الحاج الفقراء منهم، هكذا في [التبيين]، والصحيح: قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، كذا في [المضمرات] ، (5) اهـ.
وقال أبو البركات أحمد دردير في [شرحه] : وأشار للسابع بقوله: ومجاهد، أي: المتلبس به إن كان ممن يجب عليه؟ لكونه حرا مسلما ذكرا بالغا قادرا، ولا بد أن يكون غير هاشمي، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها، ولو كان المجاهد غنيا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرا، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد؟ لتحفظ به من الكفار، ولا في عمل مركب يقاتل فيها
(1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(3)
[العناية على الهداية] ، هامش على [فتح القدير] ، (2\ 17، 18) .
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
[الفتاوى الهندية](1\ 188) .
العدو. اهـ (1) .
وقال المواق ومجاهد: وآلته ولو غنيا. ابن عرفة: من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله. أبو عمرو: ذلك الجهاد والرباط. اللخمي: ويعطى الغازي الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو وإن كانوا أغنياء حيث غزوهم.
واختلف إذا كان غنيا بالموضع الذي هو به: فقيل: يعطى لحديث: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز (2) » . . . الحديث؛ ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك، ولأن في إعطائه ضربا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس. اهـ (3) .
وقال الإمام الشافعي: ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين. اهـ (4) .
وقال النووي على [المهذب] : قال المصنف رحمه الله تعالى: وسهم في سبيل الله، وهم: الغزاة إذا نشطوا غزوا، وأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء. قال النووي: ومذهبنا: أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق
(1)[الشرح الكبير] ، هامش على [حاشية الدسوقي] ، (1\ 456) .
(2)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(3)
[التاج والإكيل لمختصر خليل، هامش على [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل] ، (2\ 351) .
(4)
[الأم] ، للإمام الشافعي (2\ 60) .
لهم في الديوان، بل يغزون متطوعين، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى. اهـ (1) .
وقال النووي أيضا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة: واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو: الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن كذلك، واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين (2) :«لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (3) » فذكر منهم الغارم، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى. اهـ (4) .
وقال ابن قدامة: السابع: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، ولا يعطى منها في الحج. اهـ. وقال في [حاشية المقنع]، على قوله: السابع في سبيل الله: لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم الغزاة؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (7) وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم، وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا، وهم الذين لا ديوان لهم، أي: لا حق لهم في الديوان؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به
(1)[المجموع] ، (6\ 211) الطبعة الأولى.
(2)
أي: من [المجموع] .
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4)
[المجموع وحاشيته] ، (1\ 249) .
(5)
سورة التوبة الآية 60
(6)
سورة البقرة الآية 190
(7)
سورة الصف الآية 4
فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم. . . إلى أن قال: قوله: (ولا يعطى منها في الحج) في رواية اختارها في [المغني] ، وصححها في [الشرح] ، وقاله أكثر العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن سبيل الله تعالى حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبا، والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير، أو من يحتاجه المسلمون كالعامل، والحج لا نفع فيه للمسلمين، ولا حاجة بهم إليه، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى. اهـ (1)
وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة: قوله السابع: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، فلهم الأخذ منها بلا نزاع، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة، كما تقدم في المكاتب والغارم (3) . تنبيه: ظاهر قوله: (وهم الذين لا ديوان لهم) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها وهو صحيح، لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه، فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه. قاله في [الرعاية] ، وغيرها.
…
إلى أن قال: قوله: (لا يعطى منها في الحج) هذا إحدى الروايتين. اختاره المصنف والشارح، وقالا: هي أصح، وجزم به في [الوجيز] ، اهـ. (4)
(1)[المقنع وحاشيته] ، (1\ 349) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
أي: من [الإنصاف] ، للمرداوي.
(4)
[الإنصاف](3\ 235) .
وقال ابن حزم: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، حدثنا أبو داود، وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني (1) » .
وقد روي هذا الحديث عن غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر، وزيادة العدل لا يحل تركها.
فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن «الحج من سبيل الله (2) » وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج. قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص، وهو الذي ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق. اهـ (3) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: 1 - أن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل قوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4)
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2)
مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(3)
[المحلى] ، (6\ 151) المطبعة المنيرية.
(4)
سورة التوبة الآية 60
عليه؛ لأن الظاهر إرادته، قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (2)
2 -
أن حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله (3) » الحديث، وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) فيجب حمله عليه.
3 -
ما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله: الجهاد ومن ذلك: ما ذكره الطبري في [تفسيره] قال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) قال: الغازي في سبيل الله. وما ذكره السيوطي في تفسيره [الدر المنثور]، قال: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) قال: هم: المجاهدون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) قال: الغازي في سبيل الله.
(1) سورة البقرة الآية 190
(2)
سورة الصف الآية 4
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
سورة التوبة الآية 60
(6)
سورة التوبة الآية 60
(7)
سورة التوبة الآية 60
القول الثاني: أن المراد بسبيل الله: الغزاة والحجاج والعمار، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء.
وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال ابن كثير: وأما في سبيل الله، فمنهم: الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق: والحج من سبيل الله؟ للحديث. اهـ (1)
(1)[تفسير القرآن العظيم] ، (2\ 366) .
وقال الخازن في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. اهـ (2)
وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. اهـ (4)
وقال القرطبي: الثانية والعشرون: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) وهم الغزاة وموضع الرباط
…
إلى أن قال: وقال ابن عمر: الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري: ويذكر عن أبي لاس: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج (6) » . ويذكر عن ابن عباس: ويعتق من (زكاة) ماله ويعطى في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
[لباب التأويل في معاني التنزيل] ، (3\ 92) .
(3)
سورة التوبة الآية 60
(4)
[فتح القدير](2\ 373) .
(5)
سورة التوبة الآية 60
(6)
مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا اهـ (1) .
وقال الجصاص: وإن أعطى حاجا منقطعا به أجزأ أيضا، وقد روي عن ابن عمر: أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله، فقال ابن عمر: إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به، وهذا يدل على أن قوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قد أريد به عند محمد الحاج المنقطع به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الحج والعمرة من سبيل الله (3) » اهـ (4) .
وقال البخاري: باب قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وقال الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطي في المجاهدين والذي لم يحج، ثم تلا:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (6) الآية، في أيهما أعطيت أجزأت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خالدا احتبس أدراعه في
(1)[الجامع لأحكام القرآن] ، (8\ 185) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
سنن الدارمي الوصايا (3304) .
(4)
[أحكام القرآن] ، (3\ 156) المطبعة البهية.
(5)
سورة التوبة الآية 60
(6)
سورة التوبة الآية 60
سبيل الله (1) » ويذكر عن أبي لاس: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج (2) » اهـ (3) .
وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل: وعن ابن لاس الخزاعي قال: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة إلى الحج (4) » رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا. وعن أم معقل الأسدية «أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج والعمرة في سبيل الله (5) » رواه أحمد.
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت: «لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من حجته جئته فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي؟ " قلت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال: فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله (6) » رواه أبو داود.
قال الشوكاني: حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه. وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وفي إسناده رجل مجهول، وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وقد اختلف على أبي بكر بن
(1) صحيح البخاري الزكاة (1468) ، صحيح مسلم الزكاة (983) ، سنن النسائي الزكاة (2464) ، سنن أبو داود الزكاة (1623) ، مسند أحمد بن حنبل (2/323) .
(2)
مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(3)
[صحيح البخاري] ، (2\ 104) .
(4)
مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(5)
سنن أبو داود المناسك (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(6)
سنن أبو داود المناسك (1989) .
عبد الرحمن فيه، فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها، وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة، وروى عنه عن أبي معقل، والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف.
قوله: (ابن لاس) هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ (ابن) والذي في البخاري (أبي لاس) وكذا في [التقريب] ، من ترجمة عبد الله بن عنمة، ولاس؛ بسين مهملة خزاعي، اختلف في اسمه فقيل: زياد، وقيل: عبد الله بن عنمة - بمهملة ونون مفتوحتين-، وقيل غير ذلك، له صحبة وحديثان هذا أحدهما، وقد وصله مع أحمد: ابن خزيمة، والحاكم وغيرهما من طريقه، قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق؛ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته.
وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه، وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة اهـ (1)
وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقيل: المراد منه: منقطع الحاج، وبه قال محمد، وروي
(1) نيل الأوطار، (4\ 180، 181) الطبعة الثانية- 1371هـ.
(2)
سورة التوبة الآية 60
عن أحمد وإسحاق: أن الحج أيضا من سبيل الله يعني: أن الحج من جملة السبل مع الغزو؟ لأنه طريق بر إلى أن قال:
قلت: واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن امرأة قالت لزوجها: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك فلان، قال: (ذاك حبيس في سبيل الله) الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (1) » ، وبما روي عن أم معقل الأسدية:«أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت الحج.. الحديث، وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج من سبيل الله (2) » أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال:«حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج (3) » ذكره البخاري تعليقا بصفة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وقال الشوكاني: حديث أم معقل، وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدين الحج. انتهى، وبما روى أبو عبيد في [الأموال] ، عن أبي معاوية، وابن أبي شيبة في [مصنفه] عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق منه الرقبة، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد
(1) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(2)
مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(3)
مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
صحيح عنه. اهـ (1) .
وقال الكسائي في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال محمد: المراد منه: الحاج المنقطع؛ لما روي «أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحجاج» . اهـ (3) .
وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه، يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس وعن ابن عمر، الحج من سبيل الله، وهو قول إسحاق؛ لما روي:«أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله (5) » اهـ (6) .
وقال البهوتي: والحج من السبيل أيضا، روي عن ابن عباس وابن عمر، لما روى أبو داود:«أن رجلا جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله (7) » فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه، أي: في فرض الحج والعمرة؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض، وأما التطوع فله عنه مندوحة، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي، وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله، والفقير
(1)[المرآة على المشكاة] ، (3\ 117) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
[بدائع الصنائع] ، (2\ 45) الطبعة الأولى.
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(6)
[الشرح الكبير](2\ 702) .
(7)
سنن أبو داود المناسك (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
لا فرض عليه فهو منه كالتطوع. اهـ (1) .
وقال النووي ناسبا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد ما نصه: وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج، وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما.
واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت: «لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته، فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ " قالت: قلت: لقد تهيأنا، فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله. قال: "فهلا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل الله " (2) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، إنها سألتني الحج معك، قالت: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، فقلت: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (3) » [قال]، (4) : «وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك، قال
(1)[كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (2\ 256) .
(2)
سنن أبو داود المناسك (1989) .
(3)
سنن أبو داود المناسك (1990) .
(4)
الزيادة من [المجموع] ، (6\159) تحقيق وتكميل\ محمد نجيب المطيعي (الناشر) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، وأخبرها أنها تعدل حجة (1) » يعني: عمرة في رمضان، رواهما أبو داود في [سننه] ، في أواخر كتاب الحج في باب العمرة، والثاني: إسناده صحيح، وأما الأول: حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه: (عن) وهو مدلس، والمدلس إذا قال:(عن) لا يحتج به بالاتفاق. اهـ (2) .
واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة (في سبيل الله) .
وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن امرأة قالت لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك الفلاني، قال: ذاك حبيس في سبيل الله
…
الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (3) » ، وبما روي عن أم معقل الأسدية «أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت الحج.. وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر وقال: الحج من سبيل الله (4) » أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال:«حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج (5) » ذكره البخاري تعليقا، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وبما روى أبو عبيد في [الأموال] ، عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في [مصنفه]، عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن
(1) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(2)
[المجموع، (6\ 212، 213) المطبعة المنيرية.
(3)
سنن أبو داود المناسك (1990) .
(4)
مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(5)
مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبيل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه.
وقال القرطبي في [تفسيره] : خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم، ويكنى: أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر، فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر:(فهو كما قال في سبيل الله)، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال:(فما تأمرني يا ابن أبي نعم؟ ! آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل) ! قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها.
وقد أجيب بما يلي:
بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) في آية المصارف: هو: الغزو.
وقال المباركفوري: وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين:
الأول: الكلام فيها إسنادا، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن
(1) سورة التوبة الآية 60
عبد الواحد الأحول، وقد تكلم فيه أحمد والنسائي، وقال الحافظ: صدوق يخطئ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة، وليس عندهما أنه جعل جمله حبيسا في سبيل الله، ولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (1) » ، وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه، وذلك لا شك فيه، من ينظر في طرق هذا الحديث في [مسند الإمام أحمد] ، وفي السنن، مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي، وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة ولا يخفي بعده، وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في [الفتح]،: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق؟ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. اهـ.
ويشير بذلك ما حكي عنه أنه قال: إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها. انتهى.
وأما أثر ابن عباس فهو أيضا مضطرب صرح به أحمد، كما في [الفتح] ، وقد بين اضطرابه الحافظ؛ ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعا، وقيل: بل رجع عن هذا القول.
والثاني: أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله، بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو
(1) سنن أبو داود المناسك (1990) .
المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم، وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد؛ لحديث أبي سعيد وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى.
قال ابن حزم: فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «الحج من سبيل الله،» وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضح إلا حيث بين النص، وهي الذي ذكرنا. انتهى.
وقال ابن قدامة: هذا- أي: عدم صرف الزكاة في الحج- أصح؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين: محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا إليه؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وأما الخبر (يعني: حديث أن «الحج في سبيل الله» فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا. انتهى.
وقال ابن الهمام متعقبا على الاستدلال المذكور: ثم فيه نظر؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية؟ والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية، بل
نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى انتهى. وقال صاحب تفسير [المنار]، بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه: وأقول من جهة المعنى: أولا: إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية. وثانيا: إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل عن بقائه على ما أوصى به أبو معقل ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس. وثالثا: أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار: أنه غير مراد في الآية. انتهى (1)
وقال أبو الفرج ابن قدامة: ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين: محتاج إليها؛ كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون؛ كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه، ولا حاجة به أيضا؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفعه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى. اهـ (2) .
(1)[المرآة على المشكاة] ، (3\ 117، 118) .
(2)
[الشرح الكبير] ، (2\ 701)(الطبعة المشتركة مع المغني) .
القول الثالث: أن المراد بذلك: جميع وجوه البر؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح، ولا دليل على ذلك، ولقد قال
بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء.
وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال الفخر الرازي: إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) عام في الكل. اهـ (3) .
وقال الخازن في [تفسيره] : وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط؛ ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، قال: لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره. اهـ (5) .
وقال محمد جمال الدين القاسمي: ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) فيصرف على المتطوعة في الجهاد، ويشترى لهم الكراع والسلاح، قال الرازي: لا يوجب قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في [تفسيره] ، عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى،
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
[تفسير الرازي] ، (16\ 113) .
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
[لباب التأويل في معاني التنزيل] ، (3\ 92) .
(6)
سورة التوبة الآية 60
(7)
سورة التوبة الآية 60
وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) عام في الكل. انتهى.
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه.
قال في [الإقناع]، وشرحه: والحج من سبيل الله نصا، وروي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روى أبو داود:«أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اركبيها، فإن الحج من سبيل الله (2) » فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما؛ لأن كلا من سبيل الله. انتهى.
قال ابن الأثير: وسبيل الله عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه انتهى.
وقال في [التاج]،: كل سبيل أريد به الله عز وجل وهو بر- داخل في سبيل الله. اهـ (3) .
وقال أحمد مصطفى المراغي: في [تفسيره]، قوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) وسبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به:
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(3)
[محاسن التأويل] ، (8\ 3181) مطبعة الحلبي.
(4)
سورة التوبة الآية 60
الغزاة، والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق: أن المراد بسبيل الله: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد؛ كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب. اهـ (1) .
وقال الألوسي: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) أريد بذلك عند أبي يوسف: منقطعو الغزاة، وعند محمد: منقطعو الحجيج، وقيل: المراد: طلبة العلم، واقتصر عليه في [الفتاوى الظهيرية] ، وفسره في [البدائع] ، بجميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير (3) اهـ.
وقال السيد رشيد رضا في تفسيره: [المنار]، بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) ما نصه: والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه؛ كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية.. ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة
(1)[تفسير المراغي] ، (10\ 745) مطبعة الحلبي.
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
[روح المعاني] ، (10\ 123) المطبعة المنيرية.
(4)
سورة التوبة الآية 60
للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. اهـ (1) .
وقال أيضا: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة
…
إلى أن قال: ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا: إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي. اهـ (3) .
وقال سيد قطب رحمه الله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله، وفي أولها: إعداد العدة للجهاد، وتجهيز المتطوعين، وتدريبهم، وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام، وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين، وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة، فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام، ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثتهم وهم لا يملكون رد العدوان. اهـ (5)
وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله:
لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد، ولا تعتق منها رقبة. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل
(1)[تفسير المنار] ، (10\ 585) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
تفسير المنار (10\ 587) .
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
[في ظلال القرآن] ، (10| 82) .
الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد من مدلولاته وهو الجهاد؛ لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل، وهو ظاهر عبارة البحر في قوله: قلنا: ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل. اهـ (1) .
وقال صديق حسن خان: أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل والجهاد، وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعا. اهـ (2) .
وقال الصنعاني في الكلام على حديث: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (3) » الحديث: كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا؛ لأنه ساع في سبيل الله.
قال الشارح: ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا، وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين، وأشار إليه البخاري حيث قال:(باب رزق الحاكم والعاملين عليها) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال
(1)[الروض النضير شرح مسند الإمام زيد] ، (2\ 622) الطبعة الثانية.
(2)
[الروضة الندية] ، (1\ 206) .
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا. اهـ. المقصود (1) .
وقال المباركفوري: وقيل: اللفظ عام، فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية [تفسير البيضاوي] لشيخ زاده، وإليه مال الكاساني، إذ فسره بجميع القرب، قال في [البدائع] : سبيل الله عبارة عن جميع القرب، ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. وقال النووي في [شرح مسلم] : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء: أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول عليه هذا الحديث- أي: ما روى البخاري في القسامة «أنه صلى الله عليه وسلم وداه- أي: الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة (2) » . اهـ (3) .
وقال الكاساني: وأما قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) عبارة عن جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. (5) اهـ.
وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: أن معنى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) أنه: المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، والتي لا يختص بالانتفاع بها
(1)[سبل السلام](2 \ 198) مطبعة الاستقامة.
(2)
صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4719) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(3)
[المرآة على المشكاة](3 \ 117) .
(4)
سورة التوبة الآية 60
(5)
[بدائع الصنائع](2 \ 245) .
(6)
سورة التوبة الآية 60
أحد، فملكها لله، ومنفعتها لخلق الله، وأولاها وأحقها: التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية، ويشمل تعبيد الطرق، ومد الخطوط الحديدية، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته، ويفسرون حكمته، ويبلغون أحكامه، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر- ويتواتر- بهم نقله كما أنزل، من عهد وحيه إلى اليوم، وإلى يوم الدين إن شاء الله (1) . اهـ.
وأفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد، فكان جوابه:
(إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ويحتاجون إلى مسجد آخر- صح شرعا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه، والصرف على المسجد في تلك الحال يكون المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سبيل الله) .
وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة (سبيل الله) المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدا بعينه، فتشمل المساجد
(1)[الإسلام عقيدة وشريعة] ص 97، 98 الأزهر.
والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها، مما يعود نفعه على الجماعة. وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء.
ثم ذكر ما نقله الرازي في [تفسيره] عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير.
ثم قال: وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق (1) . اهـ.
وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة، فأفتى بالجواز، مستندا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله (2) .
وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي:
إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار:«لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (3) » وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيا، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في
(1)[الفتاوى] لمحمود شلتوت، ص219.
(2)
[فتاوى شرعية] حسنين مخلوف (1 \ 296) ط \ مطبعة المدني بمصر.
(3)
سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
سبيل الله.
جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه:«أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (2) » .
وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار الحج سبيلا من سبل الله، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه [الأموال] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله للحج، وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له: أتجعل في الحج قال: (أما إنه من سبيل الله)، وما ذكره القرطبي في [تفسيره] من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله. . . وفيه: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن.
كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله. . ففي [صحيح البخاري] في باب القسامة قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار: «زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة، أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
سنن أبو داود المناسك (1990) .
وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا، فقال:" الكبر الكبر " فقال لهم: " تأتون بالبينة على من قتله "؟ قالوا: ما لنا بينة، قال:" فيحلفون " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (1) » .
قال ابن حجر: ووقع في رواية ابن أبي ليلى: فوداه من عنده. وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله: من عنده، أي: بيت المال المرصد للمصالح، قال ابن حجر: وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره. قلت: وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة (2)، في الكلام على حديث أبي لاس قال:«حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة في الحج (3) » ، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم، قال القرطبي في [المفهم] : فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه، وحسن سياسته، وجلبا للمصلحة، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق. اهـ (4) .
وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال: وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا: يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث
(1) صحيح البخاري الديات (6898) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(2)
أي: من [صحيح البخاري] .
(3)
مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(4)
[فتح الباري](12 \ 235) المطبعة السلفية.
فأخذ بظاهره. اهـ (1) .
ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة، ففي [صحيح البخاري] تحت: باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وقال الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (3) الآية في أيها أعطيت أجزأت.
قال ابن حجر: ووصله أبو عبيد في كتاب [الأموال] من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة، وأخرجه عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: أعتق من زكاة مالك. اهـ (4) .
تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله: «فإن الحج من سبيل الله» يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها، وبمثل تعبيره صلى الله عليه وسلم عبر ابن عمر، فقال عن الحج:(أما إنه من سبيل الله) .
وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة منها ما ذكره المباركفوري حيث قال:
وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب، ولا
(1)[شرح صحيح مسلم](11 \ 147) .
(2)
سورة التوبة الآية 60
(3)
سورة التوبة الآية 60
(4)
[فتح الباري](3 \ 331) المطبعة السلفية.
من سنة صحيحة أو سقيمة، ولا من إجماع، ولا من رأي صحابي، ولا من قياس صحيح أو فاسد؛ بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في [تفسيره] عن بعض الفقهاء المجاهيل والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين.
قال صاحب تفسير [المنار] : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده، ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة، وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف، ولا يمكن أن يكون مرادا هنا؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية، وإذا قيل: إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق؛ عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط الأذى عن الطريق، مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية، فيجب أن يعطى منها، ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيا، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة؛ لأن هذا الصنف لأحد جماعاته فضلا عن أفراده وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها. انتهى.
وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري
الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة- فهو مخالف لما روى البخاري أيضا في قصته أنه وداه من عنده، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل، حكاه النووي عن الجمهور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم.
وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية، وبناء الجسور، وإصلاح الطرق والشوارع، وتكفين الموتى، وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة، وهو مذهب أحمد، كما يظهر من [المغني](1) ، ومالك كما في [المدونة](2) ، وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء، كما في [الأموال] لأبي عبيد. (3) .
هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائما بمصلحة من مصالح المسلمين؛ كالقضاء، والإفتاء، والتدريس، وإن كان غنيا وأدخله بعضهم في العاملين، فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا ولا يخفى ما فيه.
وقال صاحب المنار: إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص، وأن الحج ليس منها، قال: وأولها وأولاها بالتقديم: الاستعداد للحرب بشراء السلاح، وأغذية
(1)[المغني](2 \ 667) .
(2)
المدونة، (2 \ 59) .
(3)
[الأموال] ص 610.
الجند، وأدوات النقل، وتجهيز الغزاة، قال: ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية، ومنها: بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق، قال: ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر، ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به. انتهى.
قلت: حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم: الغزاة والمجاهدون خاصة، فيجب الوقوف عنده. اهـ (1) .
ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه:
ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من (سبيل الله) هل هو خاص بالغزو والقتال -كما هو رأي الجمهور- أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة-كما هو رأي من ذكرنا- وكما يدل عليه عموم اللفظ.
ولكي نحدد هذا المراد تحديدا دقيقا، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت، فخير ما يفسر القرآن
(1)[المرآة على المشكاة](3 \ 118، 119) .