المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌حكم السعيفوق سقف المسعى

- ‌وجهة نظرلفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

- ‌حكم الأوراق النقدية

- ‌تعريف النقد:

- ‌نشأة النقود وتطورها

- ‌قاعدة النقد الورقي

- ‌سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل

- ‌آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية

- ‌القول الرابع: الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة:

- ‌القول الخامس: الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه:

- ‌علة الربا في النقدين:

- ‌سبيل الله

- ‌ المراد بسبيل الله في القرآن:

- ‌معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق:

- ‌ سبيل الله" في آية مصارف الزكاة:

- ‌الشرط الجزائي

- ‌ المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه:

- ‌ ما للشرط الجزائي من صور مختلفة:

- ‌ ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج:

- ‌ ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود

- ‌ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها

- ‌الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع

- ‌ضوابط الشروط المقترنة بالعقد

- ‌ الشرط الذي يلائم العقد:

- ‌ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد:

- ‌الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى

- ‌ الشرط الذي يجري به التعامل:

- ‌الشرط الفاسد

- ‌المذهب الحنفي

- ‌ شرط فاسد يفسد العقد:

- ‌ الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد:

- ‌ الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور:

- ‌ العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد:

- ‌ شرط فاسد يسقط ويبقى العقد

- ‌شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط

- ‌ تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي

- ‌السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد

- ‌تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي:

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي:

- ‌الشرط الصحيح في مذهب مالك:

- ‌الشرط الفاسد في مذهب مالك:

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي

- ‌المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط:

- ‌الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة:

- ‌الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة:

- ‌استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية:

- ‌مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد:

- ‌حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة

- ‌القول الأول: أنه محرم

- ‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

- ‌المسألة الثانية: ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثالث: يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة:

- ‌المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا:

- ‌الخلاصة

- ‌المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌وجهة نظر المخالفين

- ‌حكم النشوز والخلع

- ‌النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء:

- ‌النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة

- ‌باب مصالحة المرأة زوجها

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

- ‌الخلاصة

- ‌حكم الشفعة بالمرافق الخاصة

- ‌تعريف الشفعة:

- ‌الشفعة في اللغة:

- ‌الشفعة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌مشروعية الشفعة

- ‌دفع شبه القول بمنافاتها للقياس

- ‌الحكمة في مشروعية الشفعة

- ‌ ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر:

- ‌ الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار

- ‌ الاشتراك في المنقولات

- ‌ الجوار

- ‌ أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها:

- ‌ أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها:

- ‌ الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى

- ‌ الشفعة بشركة الوقف

- ‌ شفعة غير المسلم

- ‌ شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون

- ‌ شفعة الغائب

- ‌ شفعة الوارث

- ‌وجهة نظر المخالفين

الفصل: ‌الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع

بشرطه فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن.

وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.

وأيضا فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود

فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق: فكذلك كل شرط زائد، وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك.

وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد، فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين: بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا.

(1) سورة النساء الآية 29

ص: 179

و‌

‌الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع

، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك، والعتق قد يكون مقصودا للعقد، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا،

ص: 179

فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (1) » فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله.

فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله: فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؟ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.

وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال: لا يحل ولا يصح (2) ، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور، كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال: لا تحل وتصح (3) حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما أو يقال: تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام.

والقول الأول: باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل

(1) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .

(2)

هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية](الناشر) .

(3)

هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية](الناشر) .

(4)

سورة البقرة الآية 278

ص: 180

مفهوم الآية- الذي اتفق العمل عليه- يوجب أنه غير منهي عنه.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه وسلم:«أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام (1) » وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، وكما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم.

ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع، ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.

فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله: مضت، ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.

قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا

(1) سنن أبو داود الفرائض (2914) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2485) .

ص: 181

اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك، بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود.

فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل.

وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم- فيما أعلمه- يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود: لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.

وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاما أو خاصا، فعنه جوابان:

ص: 182

أحدهما: المنع كما تقدم.

والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع، وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله (1) ، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (2) » فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى، وكذلك الوعد والخلف، ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا- والله أعلم-: المشروط لا نفس التكلم.

ولهذا قال: إن كان مائة شرط أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد: تعديد الشرط، والدليل على ذلك قوله: كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.

وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال:(كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) فيكون المعنى: من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط.

ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير

(1) أي: في [القواعد النورانية] .

(2)

صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

ص: 183

المعتق أبدا كان هذا المشروط- وهو ثبوت الولاء لغير المعتق- شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما، فإن كان الله قد أباحه؛ جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله لم يبحه: لم يجز اشتراطه، فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله.

فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال: ليس في كتاب الله، أي: ليس في كتاب الله نفيه (1)، كما قال:«سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم (2) » أي: بما تعرفون خلافه، وإلا فما لا يعرف كثير.

ثم نقول: إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم: فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه منكرا من القول وزورا، ثم إنه أوجب به على من عاد: الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد، وكذا النذر: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال:«إنه لا يأتي بخير (3) » ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (4) » .

(1) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية](الناشر) .

(2)

صحيح مسلم مقدمة (7) ، مسند أحمد بن حنبل (2/321) .

(3)

صحيح مسلم النذر (1639) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3801) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) .

(4)

صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .

ص: 184

فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم، نعم لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله لما نهى عنه الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية، والأصل في المعاصي: أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذلك قدر ليس بشرع، بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب، والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (1) وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية.

والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم.

وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها- وإن كان لم يحرمها- باطلة، فنقول:

قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها، وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك لأن

(1) سورة النساء الآية 160

ص: 185

قوله: ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه، إنما ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله؛ لأن قولنا:(هذا في كتاب الله) يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم، وعلى هذا معنى قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) وقوله تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (2) وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) على قول من جعل الكتاب هو القرآن، وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء هاهنا.

يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع: صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب الله، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.

يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم، فيقال: العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام، وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله:«من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (4) » .

ودل الكتاب

(1) سورة النحل الآية 89

(2)

سورة يونس الآية 37

(3)

سورة الأنعام الآية 38

(4)

سنن الترمذي الوصايا (2121) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2712) ، مسند أحمد بن حنبل (4/238) ، سنن الدارمي السير (2529) .

ص: 186

على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (1){ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (2) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه، وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا (3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس (4) » .

فجعل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (5) فبين أن سبب الولاء: هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد، فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.

وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنما الولاء لمن أعتق (6) » .

وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى

(1) سورة الأحزاب الآية 4

(2)

سورة الأحزاب الآية 5

(3)

صحيح البخاري الصلح (2700) .

(4)

صحيح البخاري العتق (2545) ، صحيح مسلم الأيمان (1661) ، سنن الترمذي البر والصلة (1945) ، سنن أبو داود الأدب (5157) ، سنن ابن ماجه الأدب (3690) ، مسند أحمد بن حنبل (5/161) .

(5)

سورة الأحزاب الآية 37

(6)

صحيح البخاري البيوع (2156) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) .

ص: 187

الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتقدير: من اشترط شيئا لم يبحه الله، فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله:«كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق (1) » .

فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا؟

أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك.

وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة؛ فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج أو من المستبقى؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة فيه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له؟

فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وذكروا عن

(1) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .

ص: 188

أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه: على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة- كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم- أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي.

فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها: مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه- التي هي الأدلة العامة- أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة.

نعم، من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة، فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.

ص: 189

فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق: أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصلح فيه القربة- كالبيع- فلا بد أن يكون المستثنى معلوما؛ لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي «عن جابر قال:(بعته- يعني بعيره- من النبي صلى الله عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي)(1) » وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف.

ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد: صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.

ثم وهل يصير العتق واجبا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع؛ على وجهين في مذهبهما، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا.

قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم

(1) سنن أبو داود البيوع (3505) .

ص: 190

يلحق به غيره، فلا يجوز اشتراط غيره.

وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره، قال ابن القاسم: قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه، فقيل له: فإن هؤلاء- يعني: أصحاب أبي حنيفة - يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط، قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد، والنهي إنما هو عن شرطين، قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز.

فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير لجابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.

فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.

وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر. فجوز اشتراط

ص: 191

التدبير كالعتق، ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف، صحح الرافعي أنه لا يصح.

وكذلك جوز اشتراط التسري، فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به، فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه.

وكذلك جوز أن يشترط باع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول، كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب.

وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (1) » فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (الثنيا إلا أن تعلم) فدل على جوازها إذا علمت، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة.

وقد أجمع المسلمون- فيما أعلمه- على جواز استثناء الجزء الشائع، مثل: أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر، مثل: أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب أو العبيد أو الماشية- التي قد رأياها- إلا شيئا منها قد عيناه.

(1) صحيح البخاري الشروط (2716) ، صحيح مسلم البيوع (1543) ، سنن الترمذي البيوع (1244) ، سنن النسائي البيوع (4636) ، سنن أبو داود البيوع (3433) ، سنن ابن ماجه التجارات (2211) ، مسند أحمد بن حنبل (2/82) ، موطأ مالك البيوع (1302) .

ص: 192

واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا، أو استخدام العبد شهرا، أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع، كما إذا اشترى أمة مزوجة، فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة، لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها، فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج، واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة.

فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه، وذلك- والله أعلم- لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا.

ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها- ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك- لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.

ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك

(1) سورة النساء الآية 24

ص: 193

الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع.

وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره- كالنخل المؤبر- فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح، وكذلك بيع العين المؤجرة- كالدار والعبد- عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.

ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، وكاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة، فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجيرا لخياطة أو بناء ونحو ذلك: فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير، ولو آلى منها ثبت لها

ص: 194

فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار، وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء، ويجب أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.

والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (2) » ، وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار، والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك، وقد تقدم

(1) سورة البقرة الآية 228

(2)

صحيح البخاري النفقات (5364) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .

ص: 195

التنبيه على هذا الأصل.

وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص، وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك، وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك.

ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة؛ كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الروايتين عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك، والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين، وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.

وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل: أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك، فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح،

ص: 196

وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.

كذلك يجوز أكثر السلف- أو كثير منهم- وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين- أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه (1) فلا يتزوج عليها ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.

والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع، فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت- فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك، فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود، ومثله: التبرع المفروض والتطوع.

وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع- فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه، فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد، «فإن ميمونة زوج النبي

(1) كذا في المطبوع

ص: 197

صلى الله عليه وسلم، أعتقت جارية لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك (1) » ؛ ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كان الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق، وما أعلم في هذا خلافا، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم، فإن فيه عن أحمد روايتين:

إحداهما: تجب، كقول طائفة من السلف والخلف.

والثانية: لا تجب، كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم، ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطي ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له؛ على روايتين عن أحمد، وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية، فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة.

وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أوكفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق.

وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية، وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرار، ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة

(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2592) ، صحيح مسلم الزكاة (999) ، سنن أبو داود الزكاة (1690) ، مسند أحمد بن حنبل (6/332) .

ص: 198

وبالتكميل أخرى.

وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، كما أن القدرة تتنوع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في القربة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم، وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويملك المرهون، ويجب عليه مؤونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور.

والعبد المنذور عتقه والهدي والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق، فمن قال: لم يزل ملكه عنه- كما قد يقوله أكثر أصحابنا- فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم، ومن قال: زال ملكه عنه فإنه

ص: 199

يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به، وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.

وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكا لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.

وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.

ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.

وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا.

ص: 200

فإذا كان الملك يتنوع أنواعا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته، وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا (1) اهـ.

(1) إلى هنا انتهى ما نقل من [القواعد النورانية] لابن تيمية (الناشر) .

ص: 201

وقال ابن حزم: مسألة: وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير أو في أحد الوقتين- يعني: قبل العقد أو بعده- ولم يذكراه في حين عقد البيع؛ فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم (1) ، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (2) فالبيع باطل مفسوخ، والشرط باطل، أي شرط كان لا تحاش شيئا إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكرا أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه، سواء كان مالهما

(1) في النسخة رقم 16 (فلم يلزم) .

(2)

في النسخة رقم 16 في حال العقد.

ص: 201

مجهولا كله، أو معلوما كله، أو معلوما بعضه مجهولا بعضه، أو بيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها، فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة، قلت أو كثرت، أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو دارا واشترط سكناها ساعة فما فوقها، أو غير ذلك من الشروط كلها.

برهان ذلك: ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج، نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، نا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - نا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه [بما هو أهله](1) ثم قال: «أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (2) » ، وذكر باقي الخبر، ومن طريق أبي داود، حدثنا القعنبي وقتيبة بن سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو: ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق (3) »

(1) الزيادة من [صحيح مسلم](1 \ 440) .

(2)

صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

(3)

الحديث في [سنن أبي داود] مطولا اختصره المؤلف.

ص: 202

فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله، فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلا ولا بد؛ لأنه عقد على أنه لا يصح (1) إلا بصحة الشرط، والشرط لا صحة له فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة ما لا يصح.

قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرناها فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه (2) فهو في كتاب الله عز وجل، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (4){إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (5) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) فأما (7) اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (8) وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقول الله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (9) وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل (10)، وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة أومن أن لا خديعة ومن صناعة العبد أو الأمة أو سائر صفات المبيع- فلقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (11) فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على

(1) في النسخة رقم 14 (لأنه عقد ما لا يصح) .

(2)

سقط لفظ (عليه) من النسخة رقم 14.

(3)

سورة النحل الآية 44

(4)

سورة النجم الآية 3

(5)

سورة النجم الآية 4

(6)

سورة النساء الآية 80

(7)

في النسخة رقم 14 (وأما) .

(8)

سورة البقرة الآية 283

(9)

سورة البقرة الآية 282

(10)

ذكر في (8 \ 376) من [المحلى](الطبعة المنيرية) .

(11)

سورة النساء الآية 29

ص: 203

صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة، وأما اشتراط الثمن إلى الميسرة، فلقول الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي قدمت عليه ثياب ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة» وذكر باقي الخبر، وأما مال العبد أو الأمة واشتراطه واشتراط ثمر النخل المؤبر- فلما روينا من طريق عبد الرزاق، نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (2) » .

قال أبو محمد: ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعا.

قال علي: فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (4) وبما روي: «المسلمون عند شروطهم» قلنا وبالله تعالى التوفيق (5) : أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية فحرام عليه الوفاء بها فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى

(1) سورة البقرة الآية 280

(2)

صحيح البخاري المساقاة (2379) ، صحيح مسلم البيوع (1543) ، سنن الترمذي البيوع (1244) ، سنن النسائي البيوع (4636) ، سنن أبو داود البيوع (3433) ، سنن ابن ماجه التجارات (2211) ، مسند أحمد بن حنبل (2/9) .

(3)

سورة المائدة الآية 1

(4)

سورة النحل الآية 91

(5)

الزيادة من النسخة الحلبية.

ص: 204

فهو باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (1) فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى؛ بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، والباطل لا يحل الوفاء به.

وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال، نا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (2) » ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (3) » ومن طريق ابن أبي شيبة يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء، بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المسلمون عند شروطهم» ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطأة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: (المسلم عند شرطه) ، ومن طريق ابن أبي شيبة، نا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب:(إن مقاطع الحقوق عند الشروط) ومن طريق ابن أبي شيبة، نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال:(المسلمون عند شروطهم) .

قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن

(1) سورة النحل الآية 91

(2)

سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .

(3)

سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .

ص: 205

عمرو (1) بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، ومرسل أيضا، والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول، وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا؛ لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط، أو اشترط مائة مرة، وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل، فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين، ثم إن الحنفيين والمالكيين والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطل ليست في كتاب الله عز وجل ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء حق؛ لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنفيون والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد وثمرة النخل المؤبر، ولا يجيزون له ذلك البتة إلا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون والحنفيون والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة، ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع، وكلاهما في كتاب الله عز وجل لأمر

(1) في النسخة رقم 14 (بن عمر) وهو غلط.

ص: 206

النبي (1) صلى الله عليه وسلم بهما وينسون هاهنا (2) : «المسلمون عند شروطهم» وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى، بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.

قال أبو محمد: ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد، وإما إيجاب عمل، وإما المنع من عمل، والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط، وكل ذلك حرام بالنص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام (3) » وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (4) فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.

حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة، نا محمد بن علي الرازي المطوعي، نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي، نا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي، نا عبد الوارث - هو: ابن سعيد التنوري - قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا، فقال:(البيع باطل والشرط باطل)، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك؟ فقال:(البيع جائز والشرط باطل) ، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك؟

(1) في النسخة رقم 16 (أمر النبي) .

(2)

في النسخة رقم 14هنا.

(3)

صحيح البخاري الفتن (7078) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .

(4)

سورة التحريم الآية 1

ص: 207

فقال: (البيع جائز والشرط جائز) فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع وشرط» ، البيع باطل والشرط باطل)، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء (1) » ، البيع جائز والشرط باطل) ، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال:(لا أدري ما قالا، نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله (أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة) البيع جائز والشرط (جائز) .

وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب، أنا زياد بن أيوب، نا ابن علية، نا أيوب السختياني، نا عمرو بن شعيب، حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (2) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن (3) » ، وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه،

(1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

(2)

سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من [سنن النسائي](7 \ 295) .

(3)

سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

ص: 208

وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا.

قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور؛ لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه، فإذا خرج من ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده)(1) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه؛ لأنه دعوى بلا برهان.

وأما قول أحمد فخطأ أيضا؛ لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين (2) في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (3) » فبطل الشرط الواحد وكل ما لم يعقد إلا به، وبالله تعالى التوفيق.

وبقي حديث بريرة وجابر في الجمل فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا عبد الله بن جعفر بن الورد، نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف ونا يحيى بن بكير، نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عروة «عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني،

(1) الزيادة من النسخة رقم 16.

(2)

في النسخة رقم 14 (للشرطين) .

(3)

صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

ص: 209

فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت، فعرضتها عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية في الناس فحمد الله عز وجل، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق (3) » وذكر باقي الخبر.

ومن طريق البخاري، نا أبو نعيم، نا عبد الواحد بن أيمن، نا أبي قال:«دخلت على عائشة [رضي الله عنها] فقالت: دخلت بريرة - وهي مكاتبة- وقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم، قالت: لا تبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فقالت عائشة: لا حاجة لي بذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاءوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط (5) » .

قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ، وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا، وكان البيع على هذا

(1) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

(2)

في النسخ كلها (أن أحبوا أهلك) . (1)

(3)

في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء. (2)

(4)

صحيح البخاري كتاب العتق (2565) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

(5)

الزيادة من [صحيح البخاري] كتاب [المكاتب] باب (5)(3 \ 304) والحديث فيه مطول اختصره المصنف. (4)

ص: 210

الشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطا في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (2)

برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحدا ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا (3) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما أو إن أعتقها، إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبينه، فإذ لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة أو بشرط الهبة أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز.

وأما حديث جابر فإننا رويناه من طريق [البخاري] نا أبو نعيم، نا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول: «حدثني جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فسار سيرا ليس يسير مثله

(1) سورة الأحزاب الآية 36

(2)

سورة الأحزاب الآية 6

(3)

في النسخة رقم 14 عتقا أصلا

(4)

صحيح البخاري الشروط (2718) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) .

ص: 211

ثم قال: بعنيه بأوقية قلت: لا، ثم قال: بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرف فأرسل على أثري فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك (1) » .

ومن طريق [مسلم] نا ابن نمير، نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي، حدثني جابر بن عبد الله، فذكر هذا الخبر وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «بعنيه فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك (3) » .

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل الجمل، بعنيه، قلت: يا رسول الله بل هو لك قال: لا بل بعنيه، قلت: بل هو لك، قال: [لا، بل] بعنيه، قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به فلما قدمت المدينة جئته به فقال لبلال: [يا بلال] زن له أوقية وزده قيراطا (7) » هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر.

قال أبو محمد: روي هذا أن ركوب جابر الجمل كان تطوعا من رسول

(1) في [صحيح البخاري](4 \ 30) فسار يسير. (4)

(2)

صحيح مسلم المساقاة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/376) .

(3)

في النسخة رقم 16 (ثم إني رجعت) وما هنا موافق لما في {صحيح مسلم] (1 \ 470) . (2)

(4)

صحيح مسلم الرضاع (715) ، سنن النسائي البيوع (4639) .

(5)

في [سنن النسائي](7 \ 299) قلت: بل هو لك يا رسول الله. (4)

(6)

الزيادة من [سنن النسائي] . (5)

(7)

الزيادة من [سنن النسائي](6)

ص: 212

الله صلى الله عليه وسلم واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير فروي عنهما عن جابر أنه كان شرطا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم له أنه كان شرطا.

ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أخذته بأوقية (1) » ، وصح عنه عليه السلام أنه قال:«أتراني ماكستك لآخذ جملك، ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك (2) » كما أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان: أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله؛ بل انتفى عنه، ومن جعل كل ذلك أخذا واحدا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه.

وهذا كفر محض، فإذا لا بد من أنهما أخذان؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (3) إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر، وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (4) أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط، فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط.

وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك

(1) مسند أحمد بن حنبل (3/314) .

(2)

صحيح مسلم المساقاة (715) .

(3)

في النسخة رقم 16 (إذ لا سبيل) .

(4)

في النسخة رقم 14 (وترك) .

ص: 213

الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا، وبالله تعالى التوفيق.

فأما الحنفيون والشافعيون: فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه، هذا فرض عليهم، وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما (1) أو يمنع حلالا.

وهذا ضلال مبين، فإن حدوا في ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين، فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك.

(فإن قالوا) : إن في بعض ألفاظ الخبر أن ذلك كان حين دنوا من المدينة، قلنا: الدنو يختلف، ولا يكون إلا بالإضافة، فمن أتى من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر، فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضا فإن

(1) في النسخة رقم 14 (يأتي محرما)

ص: 214

هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد، وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطا (1) ، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذا لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (2) ، ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على تلك المسافة سائر المسافات، فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا.

وبالله تعالى التوفيق.

وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك: ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا لو أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر (3) أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض

(1) كذا في الأصل، ولعله (لا شرطا) .

(2)

في النسخة رقم 16 (سائر الطريق) .

(3)

في النسخة 14 (حتى نعلم) .

ص: 215

أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة، ثم أجاز قليلا ثم رجع فقال:(أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة)، قال:(نعم) ، فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط؟ قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري، فخالف الحنفيون والمالكيون والشافعيون كل هذا، وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.

ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (1) حياته وقال: (إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها) .

ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور، فخالفوه، ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحارث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة، فخالفوهم كلهم.

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع

(1) في النسخة 16 (سكناه) .

ص: 216