المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌حكم السعيفوق سقف المسعى

- ‌وجهة نظرلفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

- ‌حكم الأوراق النقدية

- ‌تعريف النقد:

- ‌نشأة النقود وتطورها

- ‌قاعدة النقد الورقي

- ‌سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل

- ‌آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية

- ‌القول الرابع: الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة:

- ‌القول الخامس: الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه:

- ‌علة الربا في النقدين:

- ‌سبيل الله

- ‌ المراد بسبيل الله في القرآن:

- ‌معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق:

- ‌ سبيل الله" في آية مصارف الزكاة:

- ‌الشرط الجزائي

- ‌ المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه:

- ‌ ما للشرط الجزائي من صور مختلفة:

- ‌ ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج:

- ‌ ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود

- ‌ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها

- ‌الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع

- ‌ضوابط الشروط المقترنة بالعقد

- ‌ الشرط الذي يلائم العقد:

- ‌ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد:

- ‌الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى

- ‌ الشرط الذي يجري به التعامل:

- ‌الشرط الفاسد

- ‌المذهب الحنفي

- ‌ شرط فاسد يفسد العقد:

- ‌ الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد:

- ‌ الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور:

- ‌ العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد:

- ‌ شرط فاسد يسقط ويبقى العقد

- ‌شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط

- ‌ تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي

- ‌السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد

- ‌تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي:

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي:

- ‌الشرط الصحيح في مذهب مالك:

- ‌الشرط الفاسد في مذهب مالك:

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي

- ‌المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط:

- ‌الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة:

- ‌الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة:

- ‌استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية:

- ‌مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد:

- ‌حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة

- ‌القول الأول: أنه محرم

- ‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

- ‌المسألة الثانية: ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثالث: يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة:

- ‌المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا:

- ‌الخلاصة

- ‌المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌وجهة نظر المخالفين

- ‌حكم النشوز والخلع

- ‌النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء:

- ‌النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة

- ‌باب مصالحة المرأة زوجها

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

- ‌الخلاصة

- ‌حكم الشفعة بالمرافق الخاصة

- ‌تعريف الشفعة:

- ‌الشفعة في اللغة:

- ‌الشفعة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌مشروعية الشفعة

- ‌دفع شبه القول بمنافاتها للقياس

- ‌الحكمة في مشروعية الشفعة

- ‌ ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر:

- ‌ الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار

- ‌ الاشتراك في المنقولات

- ‌ الجوار

- ‌ أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها:

- ‌ أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها:

- ‌ الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى

- ‌ الشفعة بشركة الوقف

- ‌ شفعة غير المسلم

- ‌ شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون

- ‌ شفعة الغائب

- ‌ شفعة الوارث

- ‌وجهة نظر المخالفين

الفصل: ‌المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

حدثنا أبو أسامة، عن هشام قال: سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد. قال: لا أعلم بذلك بأسا، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا فلم يعب عليه ذلك.

حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون عن محمد قال: كان لا يرى بذلك بأسا. حدثنا غندر عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، في رجل أراد أن تبين منه امرأته، قال: يطلقها ثلاثا.

ص: 342

‌المسألة الثانية: ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

وفي ذلك مذاهب:

‌المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

.

ذكر من قال بهذا القول:

1 -

قال الكاساني: وأما حكم طلاق البدعة (1) : فهو أنه واقع عند عامة العلماء، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة، وذكر منها: الثلاث بلفظ واحد.

2 -

قال ابن الهمام: وذهب جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا (2)

(1)[بدائع الصنائع](3\ 96) .

(2)

[فتح القدير](3\ 25) .

ص: 342

3 -

قال الطحاوي بعد سياقه لأدلة وقوعها ثلاثا: فهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين (1) 4 - قال سحنون بن سعيد التنوخي: قلت: أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى، أيلزمه ذلك أم لا؟ قال: قال مالك: يلزمه ذلك (2) 5 - قال الحطاب: (تنبيه) قال أبو الحسن في شرح كلام [المدونة] المتقدم صورته: أن يقول لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد، فإن كان على غير هذه الصفة كما إذا قال: أنت طالق ثلاثا في كلمة واحدة، فقال عبد الحميد الصائغ: ثلاث تطليقات في كلمة أشد منه في ثلاثة مجالس، وفي ثلاثة مجالس أشد منه في ثلاثة أطهار، وكلما طلق يلزمه. . . انتهى (3) .

6 -

قال الباجي: إذا ثبت ذلك- أي: كلامه على تحريم إيقاع الثلاث بلفظ واحد- فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء (4) .

7 -

قال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور

(1)[شرح معاني الآثار](3\ 59) .

(2)

[المدونة](2\ 68) .

(3)

[مواهب الجليل](4\ 39) .

(4)

[المنتقى](4\ 3) .

ص: 343

السلف (1) .

8 -

قد سبق أدلة كثيرة عن الإمام الشافعي رحمه الله في الكلام على المسألة الأولى، وأنه يوقعها ثلاثا.

9 -

قال الشيرازي: وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث؛ لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها (2)

10 -

قال ابن قدامة: وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم (3)

11 -

قال المرداوي: وإن طلقها ثلاثا مجموعة قبل رجعة مرة واحدة طلقت ثلاثا، وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب، نص عليه مرارا، وعليه الأصحاب، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة (4) .

12 -

قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على بيان المذاهب في ذلك:

(1)[تفسير القرطبي](3\ 129) .

(2)

[المهذب](2\ 84) .

(3)

[المغني](8\ 243) .

(4)

[الإنصاف](8\ 453) .

ص: 344

الثاني: أنه طلاق محرم لازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين (1)

13 -

قال ابن القيم: فاختلف الناس فيها- أي: وقوع الثلاث بكلمة واحدة- على أربعة مذاهب:

أحدها: أنه يقع، وهذا قول الأئمة الأربعة، وجمهور التابعين وكثير من الصحابة (2)

14 -

قال يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الهادي: الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا: هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما سيأتي، وهذا القول مجزوم به في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد، كالخرقي، و [المقنع] و [المحرر] و [الهداية] وغيرهم، من كتب أصحاب الإمام أحمد ولا يعدل عنه.

قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة) بأي شيء تدفعه؟ فقال: برواية الناس عن ابن عباس: أنها ثلاث، وقدمه في [الفروع] وجزم به في [المغني] ، وأكثرهم لم يحك غيره، والله أعلم بالصواب (3)

15 -

قال أيضا: الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول ومن أفتى به:

قال به ابن عباس غير مرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعثمان،

(1)[مجموع الفتاوى](33\ 8) .

(2)

[زاد المعاد](4\ 104) .

(3)

[سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70.

ص: 345

وعلي، وابن مسعود، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أحمد، والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأنس (1) ، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وقال به من أصحابنا الخرقي، وأبو بكر، وابن حامد، وابن عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، والشيخ موفق الدين، والشيخ مجد الدين - وليس مطلقا كما سيأتي- والشريف، حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول.

وفي إجماع ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع ليس بصريح فيه.

وهذا القول اختاره ابن رجب. وقد صنف ردا على من قال بخلافه. والله أعلم بالصواب (2)

16 -

قال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام- شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد (3)

17 -

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: وعلى هذا القول- أي: اعتبارها ثلاثا- جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة. اهـ (4)

(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: مالك بن أنس.

(2)

[سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70.

(3)

[سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 77.

(4)

[أضواء البيان](1\ 176) .

ص: 346

وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس.

أما الكتاب:

فأولا: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1)

قال أبو بكر الرازي تحت عنوان: (ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنه؛ وذلك لأن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) قد أبان عن حكمة إذا أوقع اثنتين بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، في طهر واحد، وقد بينا أن ذلك خلاف السنة، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما.

وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور.

فإن قيل: قد دللت في معنى الآية: أن المراد بها: بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك،

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

سورة البقرة الآية 230

ص: 347

فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنهما على هذا الوجه؟

قيل له: قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة، وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار، وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك. ألا ترى أنه لو قال: طلقوا ثلاثا في الأطهار، وإن طلقتم جميعا معا وقعن، كان جائزا، وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما.

فإن قيل: معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) وقد بين الشارع الطلاق للعدة؛ وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث، ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.

قيل له: نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما، فنقول: إن المندوب إليه والمأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية، وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى، وهي قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) إذ ليس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ} (4) نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى، على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، وهو قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5)

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 230

(4)

سورة الطلاق الآية 1

(5)

سورة الطلاق الآية 1

ص: 348

إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه، ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه.

وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) يعني- والله أعلم- أنه إذا وقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك؛ ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته.

فإن قيل: لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع، إذ ليس هو الطلاق المأمور به، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد.

قيل له: أما كونه عاصيا في الطلاق فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا، وحكم مع ذلك بصحة وقوعه، فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام، ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته،

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

سورة الطلاق الآية 2

(3)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 349

وقد نهاه الله من مراجعتها ضرارا بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (1) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته.

وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو: أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر، وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه. ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه، فلما لم يكن مالكا لما يوقعه، وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر، وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا، ألا ترى أنه لو وطأ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته، وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك. اهـ.

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) ترجم البخاري على هذه الآية باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه (4) اهـ.

(1) سورة البقرة الآية 231

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

انظر [تفسير القرطبي](3\ 128) .

ص: 350

وقال العيني: وجه الاستدلال به أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) معناه: مرة بعد مرة، فإذا جاز الجمع بين اثنتين جاز بين الثلاث وأحسن منه أن يقال: إن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) عام متناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة. وقال ابن أبي حاتم: أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه، أنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، سمعت أبا رزين يقول:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) أين الثالثة؟ قال: (التسريح بالإحسان) » . هذا إسناده صحيح، ولكنه مرسل، ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد، حدثنا ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (4) » . اهـ (5) .

وقد سبقت مناقشة ابن القيم لهذه الآية، وبين أنها دليل على عدم وقوع الثلاث، وذلك عند الكلام عليها في المسألة الأولى.

وقال الشيخ جمال الدين الإمام ردا على الاستدلال بقوله تعالى:

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

سورة البقرة الآية 229

(5)

انظر: [عمدة القاري](9\538) .

ص: 351

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) وبين أنها لا تدل على وقوع الثلاث، قال (2) : فصل: ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعا ولغة في الطلاق الثلاث وغيره: أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر، فإن تقدير الكلام: طلقتك طلاقا، ومعنى المصدر في الكلام: طلقتك تطليقات ثلاث، ومعنى المصدر في الكلام: إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل.

والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل: حالة يكون فيها خبرا عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي، وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكا، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه اتبع بالمصدر مطلقا.

وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ سواء قيل: إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك فإن أريد حقيقة العقد أو الفسخ اتبع المصدر مطلقا مثل: طلقتها تطليقا، وأما إن تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة بعد مرة وأتبع بالعدد وحده، أو مضافا إلى المصدر المجموع، مثل طلقتك ثلاثا وقصد به التعدد، أو قال في اللعان أشهد بالله خمسا، أو خمس شهادات، أو قال في القسامة: أقسم بالله خمسين يمينا أو قال بعد الصلاة: (سبحان الله) مرة ثم قال: (ثلاثا وثلاثين) وكذا (الحمد لله) ، وكذا (الله أكبر) وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة (سبحان الله وبحمده) وأتبعها (مائة مرة) لم يكن بتكراره في الأيام

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

بواسطة [سير الحاث] لابن عبد الهادي، ص (93، 94) .

ص: 352

والأوقات والعدد، فأما غير الطلاق فلا خلاف فيه، وأما الطلاق فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة.

ثانيا: قال النووي: واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1)

قالوا: معناه: أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم (2) .

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت، حتى ظننت أنه سيردها إليه. فقال: ينطق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، الله قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.

وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها (ومن يتق الله) ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بها مجتمعة، هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره، وهو قوي جدا في محل النزاع؛ لأنه

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

[صحيح مسلم بشرح النووي](10\70، 71) .

(3)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 353

مفسر به قرآنا، وهو ترجمان القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«اللهم علمه التأويل (1) » (2) .

ثالثا: قال ابن عبد الهادي نقلا عن ابن رجب: قوله في سياق آيات: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (3)

قال الحسن: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول: كنت لاعبا، ويعتق ويقول: كنت لاعبا، ويزوج ابنه ويقول: كنت لاعبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثلاث من قالهن لاعبا جائزات عليهم: العتاق، والطلاق، والنكاح» فأنزل الله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (4)

وقال ابن عبد الهادي ردا على ابن رجب في استدلاله بالآيات التي سبقت (5) : وأما استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (6) إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (7) قال: فليس بمسلم؛ لأن في حديث ركانة لما قال له: " راجعها " تلا هذه الآية، فهذه الآية دليل لنا لا لكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى له بهذا استدل بالآية، فلو كان فيها دليل عليه لم يستدل بها، واستدلاله بالآية بقول ابن عباس، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول- أي: واحدة، كما تقدم- فليس لكم في الآية دليل.

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/266) .

(2)

[أضواء البيان](1\ 175، 176) .

(3)

سورة البقرة الآية 231

(4)

سورة البقرة الآية 231

(5)

[سير الحاث] ص 89، 90.

(6)

سورة الطلاق الآية 1

(7)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 354

وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (1) - واستدلاله بالحديث- أي: حديث الحسن وقد مضى مع الآية- فالآية والحديث ليس فيهما دليل له؛ لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية، وإنما كان يطلق ويقول: كنت لاعبا فنزلت هذه الآية، إن الطلاق لا لعب فيه فليس في هذا دليل.

وأما استدلاله بالآية الأخرى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) فليس فيها دليل أيضا؛ لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظة واحدة، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى، وليس في الآيات دليل له، بل كلها دليل عليه.

وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية:

الدليل الأول: ما ثبت في [الصحيحين](3) في قصة لعان عويمر وزوجته وفيه: «فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، (4) » قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين. متفق عليه.

قال النووي (5) : واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما، وموضع الدلالة أنه لم ينكر عليه إطلاق لفظ

(1) سورة البقرة الآية 231

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

[فتح الباري](9\ 391) و [صحيح مسلم بشرح النووي](10\ 123) .

(4)

صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، مسند أحمد بن حنبل (5/331) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) .

(5)

[صحيح مسلم بشرح النووي](10\ 122) ، ويرجع أيضا إلى [الفتح](9\ 367) .

ص: 355

الثلاث.

وقد يعترض على هذا فيقال: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا.

ويجاب عن هذا الاعتراض: بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه، وقال له: كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام، والله أعلم.

وقال ابن نافع من أصحاب مالك: إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان؛ لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان، مع أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان، وهذا فاسد، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية.

وقال محمد بن أبي صفرة المالكي: لا تحصل الفرقة بنفس اللعان، واحتج بطلاق عويمر، وبقوله: إن أمسكتها، وتأوله الجمهور كما سبق، والله أعلم.

وأما قوله: (قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين) فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه: استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق، وقال الجمهور: معناه حصول الفرقة بنفس اللعان.

وقال شيخ الإسلام (1) : وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما

(1)[مجموع الفتاوى](33\77، 78) ويرجع أيضا إلى [زاد المعاد](4\115) ، و [إغاثة اللهفان](1\314) .

ص: 356

والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لأنهما صارا أجنبيين.

ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليه تحريما مؤبدا. فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعا، بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما.

وقول سهل بن سعد: فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه محتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص، ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه- أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد ذكره لاستدلال البخاري بحديث عويمر: ووجه الدلالة والاعتراض عليها، والجواب عن الاعتراض من وجهين، وكل ذلك سبق نقله عن النووي إلا الوجه الثاني،

ص: 357

قال (1) : وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع.

وبعد أن عرض بعض مذاهب العلماء وأدلتهم ومناقشتها في اللعان هل تحصل به الفرقة أم لا؟ قال: واختلف في هذا اللفظ- أي: ما جاء في الحديث المتقدم من قوله: فكانت سنة المتلاعنين- هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا، وبه قال جماعة من العلماء، أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل، ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري: عن ابن شهاب عن سهل قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، قال سهل:(حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا) هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري.

قال الشوكاني في نيل الأوطار،: ورجاله رجال الصحيح، قال مقيده عفا الله عنه: ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور- واقع موقعه؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري رحمه الله يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود، مطابق لترجمة البخاري، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها؛ لأنها ليست على شرطه، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه

(1)[أضواء البيان](1\ 162) وما بعدها.

ص: 358

الرواية الثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له، بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى. . . وبعد سياقه لبقية المذاهب في الفرقة باللعان قال: وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك.

وبعد أن عرض مذاهب العلماء في نفقة البائن وسكناها قال:

فإن قيل: إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية، فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال:«أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (1) » كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد.

فالجواب من أربعة أوجه:

الأول: الكلام في حديث محمود بن لبيد، فإنه تكلم فيه من جهتين: الأولى: أنه مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في عهده صح وذكره في الصحابة من أجل الرؤية، فقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح فيه بالسماع.

(1) سنن النسائي الطلاق (3401) .

ص: 359

الثانية: أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير - يعني: ابن الأشج - عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه. قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلا. قال ابن حجر في [التقريب] : روايته عن أبيه وجادة من كتابه.

قال مقيده عفا الله عنه:

أما الإعلال الأول: بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة، كما قال ابن حجر في [التقريب] وغيره.

والإعلال الثاني: بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه: أن مسلما أخرج في [صحيحه] عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده.

الوجه الثاني: وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث، ولا أنه لم ينفذها، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها، والمبين مقدم على المجمل، كما تقرر في الأصول، بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا.

ووجه استدلاله به: أنه طلق ثلاثا يظن لزومها، فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

ص: 360

الوجه الثالث: أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله: (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .

وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة.

الوجه الرابع: هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة، كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي، وإن كان الكل لا يخلو من كلام.

وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة، بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه، بل نقول: لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم.

الدليل الثاني: ثبت في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1) » .

وجه الدلالة: ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا) وقال ابن حجر (2) والعيني (3) : هو ظاهر في كونها مجموعة.

(1) صحيح البخاري الطلاق (5261) .

(2)

[فتح الباري](9\ 301) .

(3)

[عمدة القاري](9\ 541) .

ص: 361

وقال ابن القيم (1) : في وجه استدلالهم بالحديث: فلم ينكر صلى الله عليه وسلم، ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، إذ لو لم يقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها.

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بهذا الدليل (2)، فقال: وأما استدلالكم بحديث عائشة - وساق الحديث- فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم، هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثا، وقال: ثلاثا، إلا لمن فعل، وقال: مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) : واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة، وقد قدمنا قريبا: أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة. انتهى.

ومقصوده (4) ببعض الروايات هي رواية مسلم: (أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى) .

ثم قال:

ورد هذا الاعتراض: بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع

(1)[زاد المعاد](4 \ 108) .

(2)

[زاد المعاد](4\ 114) .

(3)

[أضواء البيان](1\ 167) .

(4)

[أضواء البيان](1\ 163) .

ص: 362

لرفاعة فلا مانع من التعدد، وكون الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكره الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه: وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى، وأن كلا من رفاعة القرظي، ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق، فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير، فطلقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص.

وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب. . . اهـ.

الدليل الثالث: ثبت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته، فإن فيه (فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. . .) الحديث، وقد أخرجه البخاري تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .

وجه الدلالة: قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) : إن قولها: (فبت طلاقي) ظاهر في أنه قال لها: أنت طالق البتة.

وأجاب عن ذلك فقال: قال مقيده: عفا الله عنه- الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر؛ لأن مرادها بقولها فبت طلاقي أي: بحصول الطلقة الثالثة.

ويبينه أن البخاري ذكر في [الأدب المفرد] من وجه آخر أنها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذه الرواية تبين المراد من قولها: (فبت

(1)[أضواء البيان](1\ 166) .

ص: 363

طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة.

وقال شيخ الإسلام (1) : وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح: أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا، لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي: طلق ثلاثا يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا، وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل هو خلاف الدليل.

الدليل الرابع: ثبت في [الصحيحين] من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن: «أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لها نفقة وعليها العدة (2) » .

وفي [صحيح مسلم] في هذه القصة قالت فاطمة: «فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كم طلقك؟ قلت: ثلاثا. فقال: صدق، ليس لك نفقة (3) » . . .

(1)[مجموع الفتاوى](33 \ 77)

(2)

صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .

(3)

صحيح مسلم الطلاق (1480) .

ص: 364

وفي لفظ له: «قالت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي» . وفي لفظ له عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في المطلقة ثلاثا: ليس لها نفقة ولا سكنى (1) » .

وفي [الصحيحين] أيضا عن فاطمة بنت قيس: أن أبا حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب. . . الحديث. وقد جاء تفسير هذه البتة بأنها ثلاث كما سبق. . .

وفي [المسند] أن هذه الثلاث كانت جميعا (فروي من حديث الشعبي «أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة، فقال: ما لك ولابنة قيس قال: يا رسول الله، إن أخي طلقها ثلاثا جميعا (2) » . وذكر الحديث.

وجه الدلالة: أن لفظ البتة جاء مفسرا بأنه طلقها ثلاثا وأنها مجموعة، فدل على اعتبار وقوع الثلاث مجموعة إذ لو لم يكن ذلك واقعا لبين صلى الله عليه وسلم بقاءها في عصمة زوجها فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم.

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس فقال (3) :

أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث، مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه، ولم يأخذوا به، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة

(1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3244) ، سنن أبو داود الطلاق (2288) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2036) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي الطلاق (2274) .

(2)

مسند أحمد بن حنبل (6/417) .

(3)

[إغاثة اللهفان](1\ 311- 313) .

ص: 365

وأصحابه.

وأما الشافعي ومالك: فأوجبوا لها السكنى، والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به، فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظا؛ بل هو غلط- كما قال بعض المتقدمين- فليس حجة علينا في جمع الثلاث، فأما أن يكون لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل.

هذا مع أننا نتنزل عن هذا المقام، ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به، ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به، فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك، ثم طلقها آخر ثلاث، هكذا جاء مصرحا به في [الصحيح] فروى مسلم في [صحيحه] عن عبيد الله بن عتبة - أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها. . . الحديث، فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله:(طلقها ثلاثا) .

وقال الليث: عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، وساق الحديث وذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري.

ثم ساق من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله

ص: 366

قال: أرسل مروان إلى فاطمة، فسألها، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب، كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى. فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس.

قالوا: ونحن أخذنا به جميعه، ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معارض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار. وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ (طلقها ثلاثا) و (طلقها البتة) و (طلقها آخر تطليقات) و (أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها) ، و (طلقها ثلاثا جميعا) هذه جملة ألفاظ الحديث. . . وبالله التوفيق.

فأما اللفظ الخامس: وهو قوله: (طلقتها ثلاثا جميعا) فهذا؛ أولا من حديث مجالد عن الشعبي، ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي، فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله:(ثلاثا جميعا) وعلى تقدير صحته فالمراد به: أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال: طلقها ثلاثا جميعا، فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد، وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع في الآن الواحد؛ لقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1) فالمراد: حصول الإيمان من الجميع

(1) سورة يونس الآية 99

ص: 367

لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم (1) .

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه بعض روايات الحديث وتوجيه الاستدلال ورد التوجيه: قال (2) : ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث- يعنون: لفظ البتة- والثلاث المجتمعة، والثلاث المتفرقة، لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ: طلقني ثلاثا، وفي بعضها بلفظ: طلقني البتة، وفي بعضها بلفظ: فطلقني آخر ثلاث تطليقات، فلم تخص لفظا منها عن لفظ؛ لعلمها بتساوي الصيغ، ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه.

قالوا: والشعبي قال لها: حدثيني عن طلاقك، أي: عن كيفيته وحاله، فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده من إجمال من غير أن يستفسر عنه؟ ! وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث، فلو كان بينها عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها، وتثبت حتى يعلم منها بأن الصيغ وقعت بينونتها، فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده، هكذا ذكر بعض الأجلاء، والظاهر: أن هذا الحديث لا دليل فيه؛ لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى، كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالى. انتهى.

وقد سبق في آخر الكلام على الدليل الثالث جواب مشترك لشيخ

(1)[إغاثة اللهفان](1\ 311-313) .

(2)

[أضواء البيان](1\ 170) .

ص: 368

الإسلام عن الحديث الثالث، وعن هذا الحديث فيرجع إليه.

الدليل الخامس: ما رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم «عن ركانة بن عبد يزيد: أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » .

ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ركانة، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال: لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة. اهـ (2) .

وكذلك ابن قدامة قال: ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره؛ لما روي أن «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فقال: هو ما أردت فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » . رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال: الحديث صحيح. فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى.

(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

(2)

[أحكام القرآن](1\ 459) .

(3)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

ص: 369

اهـ (1) .

وحديث ركانة هذا وإن تكلم فيه بعض أهل العلم فقد قبله غير واحد منهم. قال أبو الحسن علي بن محمد الطنافسي: (ما أشرف هذا الحديث)(2) .

روى ذلك عنه ابن ماجه في (باب طلاق البتة) من سننه، بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده.

وقال الحاكم بعد روايته من طريق الزبير بن سعيد هذه (3) : قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين.

غير أن لهذا الحديث متابعا من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي، فيصح به الحديث، حدثناه أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أخبرني محمد بن علي بن شافع، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد:«أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهم (4) » ، فقد صح الحديث بهذه الرواية، فإن الإمام الشافعي قد أتقنه وحفظه عن أهل بيته، والسائب بن عبد يزيد أبو الشافع بن السائب، وهو أخ ركانة بن عبد يزيد، ومحمد بن علي بن شافع عم

(1)[الكافي](2\ 786) .

(2)

[سنن ابن ماجه](1\ 632) .

(3)

[المستدرك](1\ 199، 200) .

(4)

سنن أبو داود الطلاق (2206) .

ص: 370

الشافعي شيخ قريش في عصره. انتهى كلام الحاكم، وصححه أيضا ابن حبان، كما في [التلخيص الحبير] للحافظ ابن حجر، هذا بالنسبة لرواية الزبير بن سعيد.

أما رواية نافع بن عجير فقد صححها أبو داود، كما جاء في [سنن الدارقطني] (1) فقد قال بعد أن ساقها:(قال أبو داود: هذا حديث صحيح) .

ونقل ذلك عن الدارقطني أبو بكر ابن العربي (2) ، وجزم به في [العارضة] والمنذري في [مختصر سنن أبي داود] والقرطبي في [تفسيره](3) واعتمد عليه وتعقب به دعوى الاضطراب في هذا الحديث.

وكذلك قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص الحبير](صححه أبو داود) وممن ارتضى مسلك الإمام أبي داود في هذه الرواية الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، فقد قال: كما في [تفسير القرطبي](4) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم) اهـ.

وأما الحافظ ابن كثير فيرى: أن الحديث حسن حسبما نقله عنه

(1)[سنن الدارقطني](2\ 439) .

(2)

[العارضة على الترمذي](5\ 135) .

(3)

[تفسير القرطبي](3\ 132) .

(4)

[تفسير القرطبي](3\ 132) .

ص: 371

الشوكاني في [نيل الأوطار] بهذا كله ظهرت قوة رواية نافع بن عجير. .

وأما إعلال رواية نافع بن عجير بدعوى جهالته فلا وجه له؛ لأن نافعا هذا بعيد من الجهالة، إذ هو نافع بن عجير بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف، القرشي، فأخو ركانة ذكره ابن حبان في [الثقات]، وذكره بعض من صنف في الصحابة. قال الحافظ ابن حجر في [تهذيب التهذيب] : ذكره ابن حبان أيضا في الصحابة، وكذا أبو القاسم البغوي وأبو نعيم وأبو موسى في [الذيل] وغيرهم، وقد بينت أمره في مختصري في الصحابة. اهـ.

ويعني الحافظ مختصره في الصحابة [الإصابة في تمييز الصحابة] وقد ذكره فيه قال: (ذكره البغوي في الصحابة) وذكر له حديثه في (البتة) وتكلم على رواياته ثم قال: (وذكره ابن حبان في الصحابة) اهـ.

وممن جزم بتصحيح أبي داود لهذا الحديث المجد ابن تيمية في [المنتقى] إلا أنه عزا إليه التحسين والتصحيح معا، ونصه (1) . (قال أبو داود - أي: في حديث نافع بن عجير -: هذا حديث حسن صحيح) وفي جزمه هو وابن العربي والمنذري والقرطبي والحافظ ابن حجر بتصحيح أبي داود لهذه الرواية- الرد على من قال: بأن أبا داود لم يحكم بصحة حديث نافع بن عجير، وإنما قال فيه:(هذا أصح من حديث ابن جريج. . . إلخ) ، وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وحديث نافع بن عجير ضعيف، وإنما يعني أبو داود أنه أصح الضعيفين عنده) اهـ.

(1)[المنتقى] مع شرحه [نيل الأوطار](6\ 227)

ص: 372

ومما يقوي حديث نافع بن عجير في البتة صنيع الأئمة الذين أوردوه في مصنفاتهم في الحديث، فقد قال الدارمي في [مسنده] :(باب في الطلاق البتة) وقال أبو داود: ما جاء في (البتة) وقال الترمذي: (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) .

الجواب عن حديث ركانة:

أما حديث ركانة فقد ضعف الإمام أحمد بن حنبل جميع طرقه، كما ذكره المنذري، وكذلك ضعفه البخاري، قال الترمذي في (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) من [سننه] بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال (1) :(وسألت محمدا- يعني: البخاري - عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب، ويروى عن عكرمة عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) اهـ.

وذكر الترمذي في موضع آخر (2) : أن حديث ركانة مضطرب فيه، تارة قيل فيه (ثلاثا، وتارة قيل فيه (واحدة) .

فعلى قول هذين الإمامين أحمد بن حنبل والبخاري لا احتجاج برواية (ثلاثا) ولا برواية (البتة) بل غاية ما في الأمر أن تتساقط الروايتان المتعارضتان فيرجع إلى غيرهما، كما ذكره الزرقاني.

وعلى غير ذلك المسلك الذي سلكه الإمامان: أحمد بن حنبل،

(1)[مختصر سنن أبي داود](3\ 122) .

(2)

[جامع الترمذي](5\ 132) .

ص: 373

والبخاري نقول: إن لهذا الحديث روايتين:

إحداهما: عند الإمام أحمد بن حنبل: (ثنا سعد بن إبراهيم، ثني أبي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت (1) » قال: فراجعها فكان ابن عباس يرى: إنما الطلاق عند كل طهر.

وقد أجيب عن هذه الرواية: فقال البيهقي: (إن هذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة: أن طلاق ركانة كان واحدة) يعني البيهقي بأولئك الثمانية: الذين رووا فتيا ابن عباس بخلاف ذلك: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهدا، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، وقد ذكر رواياتهم عنه (2) في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك) ويعني برواية أولاد ركانة: روايتهم: أن ركانة إنما طلق امرأته البتة التي جزم أبو داود بأنها أصح؛ لأنهم أهله وهم أعلم بخبره، كما سيأتي.

الثانية: ما أخرجه أبو داود في سننه، قال: حدثنا أحمد بن صالح

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/265) .

(2)

[السنن الكبرى] للبيهقي (7\ 337) .

ص: 374

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال:«طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانه، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه [كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان يشبه منه] كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، ثم قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته قال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت راجعها وتلا: (2) » .

وقد أجيب عن هذه الرواية بما يلي:

1 -

إعلالها بجهالة بعض بني أبي رافع: قال الخطابي (في إسناد هذا الحديث مقال؛ لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه والمجهول لا تقوم به الحجة)(3) .

وقال ابن حزم: هذا لا يصح؛ لأنه عن غير مسمى من بني أبي رافع، ولا حجة في مجهول، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله

(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) .

(2)

سورة الطلاق الآية 1 (1){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3)

[معالم السنن](3\ 126) .

ص: 375

وحده، وسائرهم مجهولون (1) .

وقال ابن القيم (2) : إن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس، ولأبي رافع بنون، ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله بن أبي رافع، ولا نعلم هل هو هذا أو غيره؛ ولهذا- والله أعلم- رجح أبو داود حديث نافع بن عجير عليه. اهـ.

وقد يقال: بأن في هذا الإعلال؛ نظرا لأن كلام أبي داود في غاية التصريح، بأن ترجيحه لحديث نافع بن عجير إنما هو لأنهم أهل بيت ركانة وأهل بيت الشخص أعلم بخبره. . . وقد استجاز الحافظ زين الدين العراقي أن يكون ذلك المجهول الفضل بن عبيد الله بن رافع (3) وتبعه في ذلك ابن حجر في [تقريب التهذيب] والخزرجي في [الخلاصة] لكن ذكر الحافظ ابن رجب في [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] أن ذلك الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق: هو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، قال ابن رجب: وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق، وأحاديثه منكرة، وقيل: إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ. اهـ.

وأورد له الذهبي في [ميزان الاعتدال] عدة مناكير من روايته عن أبيه عن جده وقال: قال فيه يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم:

(1)[المحلى](11\ 462) .

(2)

[تهذيب سنن أبي داود](3\ 121) .

(3)

[المستفاد من مبهمات المتن والاسناد] ص 66.

ص: 376

منكر الحديث جدا، وقال ابن عدي: هو في عداد شيعة الكوفة اهـ.

2 -

إن رواية محمد بن ثور الثقة العابد الكبير ليس فيها أنه طلقها ثلاثا وإنما فيها (إني طلقتها) وهي عند الحاكم في تفسير سورة الطلاق، قال الحاكم (1) : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا يزيد بن المبارك، ثنا محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك، فدعا ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون كذا من كذا؟ فقال: رسول الله لعبد يزيد: طلقها ففعل، فقال لأبي ركانة: ارتجعها فقال: يا رسول الله، إني طلقتها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت ذلك فارتجعها فنزلت: (3) » .

ويرى ابن رجب تقديم رواية محمد بن ثور هذه على رواية عبد الرزاق، محتجا بأن عبد الرزاق حدث في آخر عمره بأحاديث منكرة جدا في فضائل أهل البيت وذم غيرهم، قال: وكان له ميل إلى التشيع، وهذا الحكم مما يوافق هوى الشيعة.

3 -

إن في حديث ابن جريج غلطا لأن عبد يزيد لم يدرك الإسلام،

(1)[المستدرك](2\ 291) .

(2)

سنن أبو داود الطلاق (2196) .

(3)

سورة الطلاق الآية 1 (2){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

ص: 377

نبه على ذلك الحافظ الذهبي في كتابيه [تلخيص المستدرك] و [التجريد لأسماء الصحابة] وقال (1) تعقيبا لقول الحاكم في حديث محمد بن ثور عن ابن جريج المتقدم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) قال: (محمد- أي: ابن عبيد الله بن أبي رافع - واه، والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام) وقال: (2) عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف: أبو ركانة طلق أم ركانة وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة ركانة. اهـ.

4 -

حصل الحديث على أنه من قبيل الرواية بالمعنى وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة فقال بعضهم: هي ثلاثة، وقال بعضهم: هي واحدة، وكان الراوي ممن يذهب مذهب الثلاث. فحكي أنه قال:(طلقتها ثلاثا، يريد (البتة) التي حكمها عنده حكم الثلاث ذكر ذلك الخطابي (3) . . .

وقال النووي في [شرح صحيح مسلم] : (ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ (البتة) يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك) اهـ.

5 -

أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، فيحمل على أنه طلقها ثلاثا في مرات متعددة، وتكون هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث، ذكر هذا المسلك الحافظ ابن رجب في

(1)[تلخيص المستدرك](2\ 491) .

(2)

[التجريد] ص 388.

(3)

[معالم السنن](3\ 122) .

ص: 378

كتابه [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة)

6 -

أن قضية ركانة من باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، فقد قال ضمن الأحكام التي خص بها من شاء، قال:(وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل) اهـ.

7 -

أن رواية أهل بيت ركانة أن ركانة طلق امرأته البتة أولى بالتقديم على رواية من يروي أنه إنما طلقها ثلاثا، وهذا مسلك أبي داود وابن عبد البر والقرطبي. قال أبو داود في (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) من [سننه] (1) : حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال:«طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية (2) » . . إلى آخر الحديث المتقدم، ثم قال: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده «أن ركانة طلق امرأته البتة، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم (3) » أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به «إن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة (4) » . اهـ.

وأوضح الأمر غاية الإيضاح في (باب في البتة) فقال: (حدثنا ابن السرح، وإبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور في آخرين: قالوا: ثنا محمد بن

(1)[سنن أبي داود](1\ 507، 508) .

(2)

سنن أبو داود الطلاق (2196) .

(3)

سنن أبو داود الطلاق (2196) .

(4)

سنن أبو داود الطلاق (2196) .

ص: 379

إدريس الشافعي، حدثني عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبيد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة:«أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه (1) » . قال أبو داود: أوله لفظ إبراهيم، وآخره لفظ ابن السرح.

حدثنا محمد بن يونس النسائي: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حدثهم عن محمد بن إدريس، حدثني عمي محمد بن علي عن ابن السائب، عن نافع بن عجير، عن ركانة بن عبد يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.

حدثنا سليمان بن داود العتكي، ثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، «أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أردت؟ قال: واحدة، قال: آلله؟ ! ، قال: آلله، قال: هو على ما أردت (2) » .

قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس. اهـ.

وقال ابن عبد البر في رواية الشافعي (3) : رواية الشافعي لحديث ركانة

(1) سنن أبو داود الطلاق (2206) .

(2)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

(3)

[تفسير القرطبي](3\ 131) .

ص: 380

عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني المطلب بن عبد مناف، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم. اهـ.

وقال القرطبي بعد أن ذكر رواية الدارقطني حديث الشافعي من طريق أبي داود (1) : فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج بغيره، والله أعلم. اهـ.

وممن قوى هذا المسلك الحافظ ابن حجر قال (2) : (إن أبا داود رجح: أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما أخرجه هو من طريق آل ركانة، وهو تعليل قوي؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل (البتة) على الثلاث فقال: (طلقها ثلاثا) فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة لحديث ركانة هذا، ذكرها في كلامه على المقارنة الإجمالية بين أدلة الفريقين تركنا ذكرها هنا وستذكر في آخر البحث.

وقد أجاب ابن القيم أيضا عن حديث ركانة فقال (3) : وأما حديث نافع ابن عجير الذي رواه أبو داود: «أن ركانة طلق امرأته البتة، فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة (4) » ، فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة، ولا يدرى من هو (ولا ما هو) على ابن جريج ومعمر

(1)[تفسير القرطبي](3\ 131) .

(2)

[فتح الباري](9\ 297) .

(3)

[زاد المعاد](4\ 115، 116) ، و [إغاثة اللهفان](1\ 415، 316) .

(4)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

ص: 381

وعبد الله بن طاوس في قصة أبي الصهباء، وقد شهد إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا. هكذا قال الترمذي في [الجامع] ، وذكر عنه في مواضع أنه مضطرب، فتارة يقول:(طلقها ثلاثا) وتارة يقول: (واحدة) وتارة يقول: (البتة) وقال الإمام أحمد: وطرقه كلها ضعيفة، وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه. ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواته على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع، وأبو رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم، وليس فيهم متهم بالكذب؟ ! .

وقد روى عنه ابن جريج، ومن يقبل رواية المجهول، أو يقول: رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد- فكلا، فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله:(حدثني داود بن الحصين) ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في [مستدركه] وقال: إسناده صحيح، فوجدنا الحديث لا علة له.

وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع، وقد صحح هو وغيره بهذا لإسناد بعينه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا) وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به، وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه، ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى

ص: 382

فيها عن بيع الرطب بالتمر، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون- جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته، وارتضاه البخاري لإدخال حديثه في [صحيحه] .

ص: 383

الدليل السادس: روى الدارقطني من حديث الحسن البصري قال: «حدثنا عبد الله: أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخراوين عند القرءين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن عمر، ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة: أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء، قال: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها ثم قال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك، فقلت: يا رسول الله، أرأيت لو أني طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك وتكون معصية (1) » .

وأجيب: بمعارضته بما رواه الدارقطني في سننه: نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفي أبو بكر ببغداد، وأبو بكر أحمد بن دارم، قالا: نا أحمد بن موسى بن إسحاق، نا أحمد بن صبيح الأسدي، نا ظريف بن ناصح عن معاوية، عن عمار الدهني، «عن أبي الزبير، قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض؟ فقال: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم. قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة، ففيه دليل على أنه طلقها ثلاثا بالفعل وردت إلى الواحدة (2) » .

(1) صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .

(2)

سنن الترمذي الطلاق (1175) .

ص: 383

وأجاب القرطبي وابن رجب عن حديث تطليق ابن عمر امرأته ثلاثا وهي حائض ورد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى السنة: قال القرطبي: (1) ما نصه: قال الدارقطني - أي: في رواته - كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة، وكذلك قال صالح بن كيسان، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، وجابر، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذلك قال الزهري عن سالم، عن أبيه، ويونس بن جبير، والشعبي، والحسن. انتهى كلام القرطبي.

وممن ذكر رواية الليث بن سعد مسلم بن الحجاج في [صحيحه] قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، وابن رمح، واللفظ ليحيى قال قتيبة: حدثنا ليث، وقال الآخران: أخبرنا الليث بن سعد، عن نافع «عن عبد الله أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (2) » . وزاد ابن رمح في روايته: «وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك من

(1)[تفسير القرطبي](3\ 130) .

(2)

صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .

ص: 384

طلاق امرأتك (1) » .

قال مسلم: جود الليث في قوله (تطليقه واحدة) يعني مسلم بذلك كما بينه النووي: أن الليث حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره.

وقد أطال الدارقطني في سرد الروايات عن الأئمة المذكورين، وأتى في ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أن تطليقة ابن عمر لامرأته كانت واحدة، كما صرح النووي في [شرح صحيح مسلم]، بأن الروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره: أن ابن عمر إنما طلق امرأته واحدة.

وقال (2) الحافظ ابن رجب في الرد على رواية الثلاث أيضا: قد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال: عن جابر: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد بقوله:(فإنها امرأته) ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه.

(1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .

(2)

[جامع العلوم والحكم] ص (56، 57) شرح حديث من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.

ص: 385

فروى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة. خرجه مسلم.

وفي رواية: قال له ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه. وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل. ولذلك كان نافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك.

واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له. قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض، وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشامهم وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم.

وقد أجاب ابن القيم عن حديث ابن عمر من رواية الحسن فقال (1) : وأما

(1)[إغاثة اللهفان](1\ 318) .

ص: 386

حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطني: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر -فذكره- وشعيب وثقه الدارقطني، وقال أبو الفتح الأزدي: فيه لين، وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه.

ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح، ولا السنن.

الدليل السابع: روى الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال:«طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق امرأته ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» .

قال ابن القيم: (1) وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي.

الدليل الثامن: روى الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدثنا

(1)[إغاثة اللهفان](1\ 317) .

ص: 387

عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا معاذ، من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» .

ورد بأن في إسناده إسماعيل بن أمية الذراع وهو ضعيف.

قال ابن القيم: وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل، والدارقطني إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به، وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذراع، يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث.

الدليل التاسع: روى الدارقطني من حديث زاذان، عن علي رضي الله عنه قال:«سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» .

ورد هذا الحديث بأن فيه إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني: كوفي ضعيف.

وقال ابن القيم: قلت: وفي إسناده مجاهيل وضعفاء.

وأما الإجماع: فقد نقله كثير من العلماء في مسألة النزاع، وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم

وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة

ص: 388

واحدة، أبو بكر الرازي، والباجي، وابن العربي وابن رجب.

قال أبو بكر الرازي (1) : فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كان معصية.

وقال الباجي: من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق.

والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة؛ لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، ولا مخالف لهم، وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاوس، قال فيه بعض المحدثين: هو وهم، وقد روى ابن طاوس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل. اهـ (2) .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ضمن أجوبته عن حديث ابن عباس قال: إنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة، ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن

(1)[أحكام القرآن](1\ 459) .

(2)

[المنتقى](4\ 3) .

ص: 389

أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ (1) .

وقال بعد ما بين أن المراد بالطلاق في الآية الكريمة {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) المشروع قال: قد نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار (3)، وقال ابن رجب في (بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة) :(اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد) اهـ.

(1)[الناسخ والمنسوخ] .

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

[أحكام القرآن](1\ 81) .

ص: 390

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بالإجماع مبينا وجوه نقضه فقال: وبيان هذا من وجوه:

أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة) وهذا الإسناد على شرط البخاري

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا

ص: 390

غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاووسا وهو في المسجد، فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاووسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة.

أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا، ولم يجمع، كن ثلاثا، قال: فأخبرت طاووسا، فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة) .

فقوله: (إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا) أي: إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة. ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان عن ابن عباس بلا شك.

الوجه الثاني: أن هذا مذهب طاوس، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. . وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة) .

الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا:(إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة) .

ص: 391

الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.

الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم، ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة (1) » قال أبو عبد الله: (وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة، فيرد إلى السنة) .

الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في البكر. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب [اختلاف العلماء] له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاوس عن ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يجعل واحدة (2) » على هذا قال:(فإن قال لها -ولم يدخل بها-: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن سفيان وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشيء؛ لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها) .

وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى:(إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق، نسقا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية) . فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين، ومن بعدهم:

(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

(2)

صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

ص: 392

أحدها: أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.

الثاني: أنها ثلاث، سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.

الثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث. وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة.

الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول، قال ابن المنذر في كتابه [الأوسط] : وكان سعيد بن جبير، وطاووس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون:(من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة) .

الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير.

الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه. قال ابن المنذر: واختلف في هذا الباب عن الحسن، فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة. وهذا الذي ذكره ابن المنذر، رواه عبد الرزاق في [المصنف]، فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال الحسن (1) : وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع

(1) في المطبوعة (ويحطها مقالة جناية) وعلى كل حال فالجملة غير واضحة، فلتحرر.

ص: 393

فقال: واحدة تبينها

ويخطبها، فقال به حياته (1) .

الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال: إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: أنت قاص، الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه.

الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه.

الوجه الثاني عشر: أنه مذهب مقاتل الرازي (2) حكاه عنه المازري في كتابه [المعلم بفوائد مسلم] قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك، وعباد بن العوام، ووكيع بن الجراح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في [صحيحه] وكان ثقة.

الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك. حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب [شرح الخلاف]، وعزاها إلى ابن أبي زيد: أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا في مذهب مالك، وجعله شاذا.

الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب [الوثائق] وهو

(1) وقد صحح نص الأثر من نسخة المصنف نفسه (6\ 332) .

(2)

قوله -مقاتل الرازي- كذا بالأصل المطبوع.

ص: 394

مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا: كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: حلفت ثلاثا، كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.

الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشيطي صاحب كتاب [الوثائق] الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه، قال (البتة) أو لم يقل

قال: وقال بعض الموثقين -يريد المصنفين في الوثائق-: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه

قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس، قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: «أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا في مجلس واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها» ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها.

الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه [تهذيب الآثار] فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا- ثم ذكر حديث

ص: 395

أبي الصهباء - ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا، فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سنة، وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به

؟ ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم معتد، يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويعول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل.

الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا، وقال في بعض [مصنفاته] : هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد.

قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.

ص: 396

الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفي (1) في [وثائقه] وقد ذكر الخلاف في المسألة ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة، كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا، كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وابن زنباع، مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه.

الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب [مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام] ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر من كان يفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدا.

ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة، جهلا منه وظلما، ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما.

(1) في نسخة الواسطي.

(2)

سورة البقرة الآية 229

ص: 397

قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة، فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة نقيضه، وهو: أن يطلقها في حيض أو نفاس، أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.

ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟

فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله: ثلاثا لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في (ثلاث) إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح. ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، فالطلاق مثله ومثله.

قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع، شيخ هدى، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة.

وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق،

ص: 398

فقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) يريد: أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف، وهو: الرجعة في العدة، ومعنى قوله:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3) يريد الندم على الفرقة، والرغبة في المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا، فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، فتدبره.

وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك.

من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه

هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها) .

الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود وأصحابه، وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس، وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئا، وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك،

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة الطلاق الآية 1

ص: 399

فأباح جمع الثلاث وأوقعها.

فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس. ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك. فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.

وأما الآثار ففتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي شيبة في [مصنفه] : نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: كان عمر إذا أتي برجل قد طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا وفرق بينهما.

نا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب: أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا فرجع إلى عمر فقال: إنما كنت ألعب فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما.

نا وكيع، والفضل بن دكين، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال:

ص: 400

ثلاث تحرمها عليك وسبعة وتسعون عدوان.

نا وكيع عن الأعمش عن حبيب قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: بانت منك بثلاث، واقسم سائرها بين نسائك.

نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: الثلاث تحرمها عليك واقسم سائرهن بين أهلك.

نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال:(فما قالوا لك؟) قال: قد حرمت عليك، قال: فقال عبد الله: (لقد أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان) .

نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة؟ قال: حرمتها ثلاث، وسبعة وتسعون عدوان.

نا وكيع، عن سفيان عن منصور والأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة فقال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية) .

نا محمد بن فضيل، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن علقمة عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إنه كان بيني وبين امرأتي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال:(تكلمت بالطلاق؟) قال: نعم. قال: قال عبد الله: (قد بين

ص: 401

الله الطلاق فعمن أخذته؟ فمن طلق كما أمره الله فقد تبين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون) .

نا أسباط بن محمد، عن أشعث، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه امرأته.

نا محمد بن بشر أبي معشر قال: نا سعيد المقبري قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه طلق امرأته مائة مرة قال:(بانت منك بثلاث، وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة) .

نا ابن نمير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه فلم يجعل له مخرجا) .

نا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنه طلق امرأته مائة مرة، وإنما قلتها مرة واحدة فتبين مني بثلاث أم هي واحدة؟ فقال:(بانت بثلاث وعليك وزر سبعة وتسعين) .

نا وكيع عن سفيان قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة قال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزوا.

نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن عمرو، سئل ابن عباس عن رجل

ص: 402

طلق امرأته عدد النجوم؟ فقال: (يكفيك من ذلك رأس الجوزاء) .

نا سهيل بن يوسف عن حميد عن واقع بن سحبان قال: سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس؟ فقال: (أثم بربه وحرمت عليه امرأته) .

نا غندر، عن شعبة عن طارق، عن قيس بن أبي حازم، أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال:(ثلاث يحرمنها عليه وسبعة وتسعون فضل) .

وقال سعيد بن منصور (1) : نا خالد بن عبد الله عن سعيد الجريري، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري:(لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما ألزمه نفسه، من قال لامرأته: أنت علي حرام فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث) . اهـ.

وقال ابن عبد الهادي (2) : وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق وأنه مقبول قوله فقال: فصل: أخرج البخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فإنه

(1)[سنن سعيد بن منصور] القسم الأول، (3\ 259) .

(2)

[سير الحاث] ص 79، 80.

ص: 403

عمر (1) » ، وفي رواية ذكرها تعليقا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر (2) » وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب (3) » ، وعنده قال ابن وهب: محدثون (ملهمون) وقال الترمذي عن ابن عيينة: قال: يعني: مفهمين. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه يا رسول الله، كيف محدث؟ قال:«الملائكة على لسانه» والله أعلم.

فصل: قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:

أحدهما: ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه، فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة.

الثاني: ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر، بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوغ فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة.

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع:

أحدها: ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول.

(1) صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .

(2)

صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .

(3)

صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398) ، سنن الترمذي المناقب (3693) ، مسند أحمد بن حنبل (6/55) .

ص: 404

الثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمان، أحدهما ما وافق لقضاء عمر، فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر.

الثالث: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح، ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره.

الرابع: ما كان قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلة، فزالت العلة فزوال الحكم بزوالها ووجد مانع يمنع من ذلك الحكم.

قال: فهذه المسألة؛ إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع.

وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علم ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (1) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك؟! هذا لا يحل اعتقاده البتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (2) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا.

(1) في الهامش: لعل صوابه (إخفاء) .

(2)

قوله: (حقا) كذا في المطبوعة.

ص: 405

وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك عن فتاوى الصحابة في ذلك: فقال (1) : ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله - ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه؛ رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد. فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.

وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر رضي الله عنه وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.

(1)[إعلام الموقعين](3\ 29- 31) .

ص: 406

فقال عبد الله بن مسعود: (من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم، هو كما تقولون) .

فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (1) » ، ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع، وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع.

فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته.

ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2)

(1) سنن النسائي الطلاق (3401) .

(2)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 407

وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا)، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: (من يخادع الله يخدعه) ، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا.

فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم - أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه.

وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان.

وقال أيضا مبينا عذر عمر رضي الله عنه (1) : الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر رضي الله عنه ومن وافقه، وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان:

النوع الأول: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

(1)[إغاثة اللهفان](1\ 330) وما بعدها.

ص: 408

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وساق رحمه الله طائفة من الأمثلة. ثم قال: ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة - فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم؛ ليكفوا عنها. وذلك:

إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس، وينفي عن الوطن، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.

وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.

وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاث واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث.

ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه.

فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه

ص: 409

عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك، ولذلك ندم عليه في آخر أيامه، وود أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في [مسند عمر] : أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح) .

ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي، الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1)

هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك؛ ولذلك قال:(إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) . وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه؛ لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله

(1) سورة البقرة الآية 236

ص: 410

تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه، فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله.

فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم، فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة. اهـ.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك من وافقه من الصحابة ترك ذكره هنا، وسيأتي كلامه في آخر البحث.

وأما القياس:

فقال ابن قدامة (1) : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. اهـ.

وقد أجاب ابن القيم عن هذا القياس: فقال (2) :

وقولكم: إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه: هو إلى أن

(1)[المغني] ومعه [الشرح الكبير](8\ 243) .

(2)

[إغاثة اللهفان](1\ 306) .

ص: 411

يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه؛ ولهذا قال من قال من السلف:(رجل أخطأ السنة، فيرد إليها فهذا أحسن من كلامهم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة) ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد، وأذن فيه متفرقا، فأراد أن يجمعه؛ كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك، ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد؛ لأنه جمع ما أمر بتفريقه، على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد، ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.

وقال القرطبي: وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو: أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. نقله عنه ابن حجر العسقلاني (1) .

ويرد عليه بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة

(1)[فتح الباري](9\ 365) .

ص: 412

فليكن المطلق مثله، وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمر طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا. اهـ.

ص: 413

المذهب الثاني (1) : أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا:

1 -

قال ابن الهمام (2) : وقال قوم: يقع به واحدة هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق، ونقل عن طاووس وعكرمة أنهم يقولون: خالف السنة فيرد إلى السنة.

2 -

قال الباجي: (3) : وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة. وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق. انتهى المقصود.

3 -

قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على ذكر المذاهب في ذلك (4) :

الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم

(1) يلاحظ أن المذهب الأول سبق في ص 342 من هذا الكتاب.

(2)

[فتح القدير](3\ 65) .

(3)

[المنتقى شرح الموطأ](4\ 3) .

(4)

[مجموع الفتاوى](33\ 8)

ص: 413

مثل: طاووس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد؛ ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل. اهـ.

4 -

قال ابن القيم (1) : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. اهـ.

5 -

قال المرداوي (2) : وحكى -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة، بل واحدة، في المجموعة أو المتفرقة عن جده المجد، وأنه كان يفتي به سرا أحيانا. اهـ.

6 -

قال ابن القيم (3) : المثال السابع: أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا.

فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، كما رواه حماد

(1)[زاد المعاد](4\ 105) .

(2)

[الإنصاف](8\ 453) .

(3)

[إعلام الموقعين](4\ 24، 28، 29) .

ص: 414

بن زيد، عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا، بفم واحد فهي واحدة، وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس.

وأما التابعون: فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاووس.

وأما أتباع التابعين: فأفتى به محمد بن إسحاق حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي.

وأما أتباع تابعي التابعين: فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو العكلي وابن حزم وغيرهما.

وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية، وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل.

وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان يفتي به أحيانا.

وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، فقد صرح بأنه ترك القول به لمخالفة

ص: 415

راويه له.

وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة راويه، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه، وعلى أصله يخرج له قول: أن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث. خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. اهـ.

7 -

قال يوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي (1) : الفصل الرابع: في أنه إنما يقع بالثلاث للفظ الواحد واحدة، وهذه رواية عن أحمد، روايتها باطلة، لكنها قول في المذهب، حكاه الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه [إعلام الموقعين] ، وذكره في [الفروع]، وقال: إنه اختيار شيخه، وهو اختياره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتبه [الهدي] ، و [إعلام الموقعين] ، و [إغاثة اللهفان] وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحكاه أيضا عن جده الشيخ مجد الدين وغيره. اهـ.

وقال أيضا: (2) : الفصل الخامس -فيمن قال بهذا القول وأفتى به-

(1)[سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 81.

(2)

[سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 82، 83.

ص: 416

وبعد أن ذكر ما سبق ذكره عن ابن القيم من [إعلام الموقعين] قال: قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرو عنه أنه أفتى بغيره.

قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه، وظاهر إجماع (1) ابن حزم أنه إجماع لكن لم يصرح به. اهـ.

وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والقياس:

الدليل الأول: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) إلى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3)

وجه الاستدلال: قال ابن عبد الهادي (4) : قال الشيخ جمال الدين الإمام في أول أحد كتبه: فقد حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها وتصورها على حقيقة ما هي عليه -وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر له- صح كلامه.

واعلم أن كتاب الله نص صريح: أن الطلاق الثلاث واحدة شرعا لا يحتمل خلافا صحيحا، وهذا هو النص شرعا، فإن كل كلام له معنى لا

(1) قبله (وظاهر إجماع ابن حزم. إلخ) هكذا بالأصل المطبوع.

(2)

سورة البقرة الآية 228

(3)

سورة البقرة الآية 230

(4)

[سير الحاث] ص 90 وما بعدها، ويرجع إلى ما ذكره ابن القيم في [الإغاثة] :(1\ 301) .

ص: 417

يحتمل غيره فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعا فهو نص شرعا، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعا غير أن الطلاق الثلاث واحدة. والألف واللام في قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) للعهد، والمعهود هنا هو: الطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) وهو الرجعي بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (3) فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقا في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط فلم يعرف (4)، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثا، أو ثلاثين ألفا.

ثم قال: فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة سواء كانت ثلاث مرات أو مائة مرة أو ثلاثين ألفا.

ثم قال: وذلك أن ضمير الآيات في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (5) أي: إن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) لا يجوز فيه شرعا غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعا: أي: بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجا غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة فلا

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 228

(3)

سورة البقرة الآية 228

(4)

قوله: (يعرف) كذا في الأصل المطبوع.

(5)

سورة البقرة الآية 230

(6)

سورة البقرة الآية 229

ص: 418

تحل له، هذا لا يحتل خلافا.

قلت: هذه الآية صريحها على هذا: أن الثلاث متفرقات، والله أعلم.

ثم قال: ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها فلا تحل له لا يجوز أن يكون مستقلا بنفسه، منفصلا عما قبله؛ لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود الضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكمه، فيكون عاما في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (1) جملة مفيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي، فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخا لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (2) إتماما لما قبله، أي: متصلا به، ويكون الضمير فيه عائدا على موجود في الكلام قبله، ومعين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعا إلا المطلق المفهوم من قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله كان التحريم مختصا بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإيلاء المذكورة قبل هذه الآيات - كان التحريم مختصا بطلاق المولي، ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير

(1) سورة البقرة الآية 230

(2)

سورة البقرة الآية 230

(3)

سورة البقرة الآية 229

ص: 419

عائدا إلى المطلق المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) وهو في نظم الكلام متعين له شرعا، لا يجوز عوده إلى غيره شرعا، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة فلا تحل له بعدهما حتى تنكح زوجا غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعا ولغة وعرفا وإجماعا، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره. انتهى.

وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى، والإجابة عنه في كلام الباجي ص 308، وما ذكر عن شيخ الإسلام في ص 313 وكلام ابن القيم في ص 318- 320.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (2) إلى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3)

قال ابن القيم: الاستدلال بالآية من وجوه:

الوجه الأول: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أي: لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر؛ ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة الطلاق الآية 1

(3)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 420

الثلاث: أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر؛ لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة، ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة؛ لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقها بعد ذلك أخرى، طلقها للعدة، وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة، فيكون مطلقا للعدة أيضا؛ لأنها تبنى على ما مضى والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد؛ لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه، فإن العدة إنما تجب من الطلقة الأولى؛ لأنها طلاق العدة، بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا، قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة.

وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة: الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة:(فطلقوهن في قبل عدتهن) .

قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد.

وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم الثلاث بهذه الآية وساق الأثر عن ابن عباس وقد سبق.

ص: 421

الوجه الثاني من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (1) وهذا إنما هو في الطلاق الرجعي، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله؛ ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض.

وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقه وقد أسقطها.

والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالصة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن.

الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (2) فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.

الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3) وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن -وهم: الصحابة- أن الأمر هاهنا هو: الرجعة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث.

الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (4)

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

سورة الطلاق الآية 1

(3)

سورة الطلاق الآية 1

(4)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 422

فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى:(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) كما تقدم -قصده رحمه الله الأثر الذي أشرنا إليه سابقا- وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم؛ لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى.

ومضى رحمه الله إلى أن قال: فهذه الوجوه ونحوها مما بين الجمهور -أن جمع الثلاث غير مشروع- هي بعينها تبين عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة. اهـ.

وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى.

وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية:

الدليل الأول: روى مسلم في [صحيحه] من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1) » .

وفي [صحيحه] أيضا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس:

(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

ص: 423

(هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟)

فقال: (قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) وفي لفظ لأبي داود: «أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما، فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم (1) » .. هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها.

وفي [مستدرك الحاكم] من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، «أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال:(أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة؟) قال: (نعم) » قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء.

وقد أجاب القائلون بأن الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثا عن حديث ابن عباس بأجوبة:

الجواب الأول: أنه منسوخ، وهو قول الشافعي وأبي داود والطحاوي.

قال الشافعي (2) : بعد سياقه لحديث أبي الصهباء: وأثر ابن عباس في

(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

(2)

[الأم] اختلاف الحديث: (7\ 301- 305) .

ص: 424

الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني: أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه -والله أعلم- أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ.

فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟

قيل: لا يشبه أن يكون يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه.

فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر.

قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟!

فإن قيل: فلم لم يذكره؟

قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا يتقصى فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة.

قال: فإن قيل: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر؟

قيل - والله أعلم-: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك ما وصفت.

فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟

ص: 425

قيل: نعم، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله لا آويك.. ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق.

وذكر بعض أهل التفسير هذا فلعل ابن عباس أجاب: أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه.

قال الشافعي: وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (2) يعني: والله أعلم الثلاث {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه، مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 230

(3)

سورة البقرة الآية 230

ص: 426

علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه.

فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟

قيل: نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة: أنه سمعها تقول: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته قال: وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر، ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » .

قال الشافعي: فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك (2) » ولو كانت عائشة حسبت طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج.

فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

قيل: نعم، عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه.

وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي صلى الله عليه وسلم: أن زوجها بت طلاقها: تعني والله

(1) صحيح البخاري كتاب اللباس (5825) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3408) ، سنن أبو داود الطلاق (2309) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/38) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .

(2)

صحيح البخاري الطلاق (5260) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .

ص: 427

أعلم: أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لك عليه نفقة (1) » لأنه -والله أعلم- لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاقها ثلاثا معا، قال الشافعي: فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن وكان ثابتا - كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدا.

قال الشافعي: ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. اهـ.

وقال أبو داود في [سننه](باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) : حدثنا أحمد بن سعيد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس قال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (2) وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) ثم أورد أبو داود في نفس الباب حديث ابن طاوس عن أبيه: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم (4) » .

وقال الطحاوي (5) في (باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا) : حدثنا روح بن الفرج، ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن

(1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، سنن أبو داود الطلاق (2284) ، سنن ابن ماجه النكاح (1869) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .

(2)

سورة البقرة الآية 228

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2200) .

(5)

[شرح معاني الآثار](2\ 32) .

ص: 428

جريج، قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أن الثلاث، كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم (1) » .

وقال الطحاوي بعد استعراض بعض الآراء في المسألة: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كانت حجة قاطعة، وذلك أنه قال: فلما كان زمان عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. حدثنا بذلك ابن أبي عمران.

قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا عبد الرزاق -ح- وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس مثل الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما ذكرا مثل جواب ابن عباس رضي الله عنهما الذي في ذلك الحديث، وذكرا بعد ذلك من كلام عمر رضي الله عنه ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر رضي الله عنه بذلك الناس جميعا، وفيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، الذين قد علموا ما تقدم من ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع، فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك؛ لأنه لما كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا فعلا يجب به الحجة كان كذلك أيضا إجماعهم على القول إجماعا يجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريئا من الوهم والزلل كان كذلك إجماعهم على الرأي بريئا من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معان فجعلها

(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

ص: 429

أصحابه رضي الله عنهم من بعده على خلاف تلك المعاني، لما رأوا فيه مما خفي على من بعدهم، فكان ذلك حجة ناسخا لما تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، والمنع من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر، ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفنا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما قد رأيناه مما تقدم فعلهم له، كان كذلك ما وقفونا عليه من الطلاق الثلاث الموقع معا: أنه يلزم لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روي أنه كان قبله على خلاف ذلك. انتهى المراد من كلام الطحاوي.

وقال الطحاوي بعد كلامه في النسخ (1) : (ثم هذا ابن عباس رضي الله عنهما قد كان من بعد ذلك يفتي من طلق امرأته ثلاثا معا: أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. فقلت: كيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه.

حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب: أن مالكا أخبره عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق

(1)[شرح معاني الآثار](3\ 33) .

ص: 430

رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب: أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد: أن بكير بن الأشج أخبر عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري: أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه من قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، فاسألهما، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير: أن رجلا سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر عن طلاق البكر ثلاثا وهو معه، فكلهم قالوا: حرمت عليك.

حدثنا يونس قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

ص: 431

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير: أن رجلا سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث تحرمها عليه وسبعة وتسعون في رقبته، إنه اتخذ آيات الله هزوا.

حدثنا علي بن شيبة، حدثنا أبو نعيم، قال ثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن مرزوق، ثنا ابن وهب، قال: ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) انتهى المراد من كلام الطحاوي.

(1) سورة الطلاق الآية 2

(2)

سورة الطلاق الآية 1

ص: 432

وممن ارتضى هذا المسلك الذي هو مسلك النسخ: الحافظ ابن حجر العسقلاني في نهاية بحثه الطويل في هذه المسألة قال (1)

: وفي الجملة: فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر: أنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود

(1)[فتح الباري](9\ 299) .

ص: 432

ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. اهـ.

واعترض المازري على ذلك، قال: (زعم بعضهم: أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ ولو نسخ وحاشاه لبادر الصحابة إلى إنكاره. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر.

قال: فإن قيل: فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا: إنما يقبل ذلك؛ لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون عن ذلك. قال: فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط؛ لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. هذا ما أورده المازري.

وأجاب عليه الحافظ بقوله (1) : (هو متعقب في مواضع:

أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ) أي: اطلع على ناسخ الحكم الذي رواه مرفوعا؛ ولذلك أفتى بخلافه،

(1)[فتح الباري](9\ 298) .

ص: 433

وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.

الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.

الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا؛ لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر، بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر، بل وبعدهما طبقة واحدة) . انتهى كلام الحافظ.

وقد أجاب ابن القيم عن دعوى النسخ فقال (1) : وأما دعواكم لنسخ الحديث فموقوف على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا؟

وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنما فيه (أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد) فنسخ ذلك، وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة. فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد؟ ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر لا تعلم به الأمة، وهو من

(1)[زاد المعاد](4\ 117، 118) .

ص: 434

أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج؟! ثم كيف يقول عمر: (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة) وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم.

وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال (1) : وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلما روى عن جابر رضي الله عنه أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا.. فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعي استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة، يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟

فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه؟

قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.

وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود رحمه الله تعالى، ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث

(1)[أضواء البيان](1\ 186، 187) .

ص: 435

تطليقات وأكثر، قال في [سننه] :(باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) ثم ساق بسنده حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) الآية، وأخرج نحوه النسائي، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في [التقريب] : صدوق يهم.

وروى مالك في [الموطأ] عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق.

ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم.

يؤيده أن كثيرا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى. والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) كما جاء

(1) سورة البقرة الآية 228

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

سورة البقرة الآية 229

ص: 436

مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضا، كما جاء في رواية عند مسلم، ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1){إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (2)

ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية. والذين قالوا بالنسخ قالوا: معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة: أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم: أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث، وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله:(فلو أمضيناه عليهم) يعني: ألزمناهم بمقتضى ما قالوا، ونظيره قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة:(فنهانا عنها عمر) ، فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة.

أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى. انتهى.

(1) سورة المؤمنون الآية 5

(2)

سورة المؤمنون الآية 6

ص: 437

الجواب الثاني: حمل الحديث على أن الناس اعتادوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر إيقاع المطلق الطلقة الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتابعوا فيه. فمعنى الحديث على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه المطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فالحديث على هذا إخبار عن الواقع لا عن المشروع. وهذا جواب أبي زرعة، والباجي، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب، ونقل القرطبي عن الكيا الطبري أنه قول علماء الحديث ورجحه ابن العربي، وذكره ابن قدامة.

أما أبو زرعة الرازي فقد نقله عنه البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبا زرعة يقول: (معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما (1) .

وأما الباجي فقال (2) : (معنى الحديث: أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث طلقات، قال: ويدل على صحة هذا التأويل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كان لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله وما عاب

(1)[السنن الكبرى](7\ 338) .

(2)

[المنتقى](4\ 4) .

ص: 438

عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل لصحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن طاوس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع

انتهى كلام الباجي.

وأما القاضي فقد نقل عنه القرطبي أنه قال (1) : (معناه: أن الناس. كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث قال: قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها) . انتهى.

وأما ما نسب إلى علماء الحديث فقد قال القرطبي بعد ذكره تأويل الباجي حديث ابن عباس وما أوله به أبو زرعة، قال: قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي: أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هو الذي تطلقون ثلاثا، أي: ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. انتهى كلام القرطبي.

وأما ترجيح ابن العربي فقد نقله عنه ابن حجر (2) .

وأما ذكر ابن قدامة له فقد قال (3) : قيل: معنى حديث ابن عباس أن

(1)[تفسير القرطبي](3\ 130) .

(2)

[الفتح](9\ 299) .

(3)

[المغني ومعه الشرح](7\ 304) .

ص: 439

الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه.

وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (1) : وأما قول من قال: إن معناه: كان وقوع الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد، ولا يصح ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من رد إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله، ولم يعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث؛ لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث. فلم يصح أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا، ولا يصح أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما، فإنه ماض منكم على عهده بعد عهده، ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة (ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ولفظ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها

(1)[زاد المعاد](4\ 119) .

ص: 440

جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ فقال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر فلما رأى الناس -يعني: عمر - قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم) هذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما. ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل. اهـ.

الجواب الثالث: حمل الحديث على غير المدخول بها:

فقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه] في الحديث مسلكا آخر وقوى جانبها عنده فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه:«أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم (1) » .

وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (2) : وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون آخر، وكأنه لما أشكل عليه لفظ

(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

(2)

[إغاثة اللهفان](1\ 298) .

ص: 441

الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه، ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق، فالحديث لا يندفع بمثل هذا البتة. اهـ.

وهناك توجيه آخر للحديث قال ابن حجر (1) : وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية.

ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغى العدد لوقوعه بعد البينونة.

وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف جعله كلمتين؟ وتعطي كل كلمة حكما؟

وقال النووي: أنت طالق معناه: أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. انتهى كلام ابن حجر.

وأجاب ابن القيم عن الرواية التي فيها ذكر غير المدخول بها: فقال (2) : ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول، وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه، ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل

(1)[فتح الباري](9\ 363) .

(2)

[إغاثة اللهفان](1\ 285، 286) .

ص: 442

الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس وقال:(كانوا يجعلونها واحدة) ؟ فقال له ابن عباس: (نعم) أي: الأمر ما قلت، وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.

نعم، لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسؤول الجواب كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال:(إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه) لم يدل ذلك على تعيين الحكم بالسمن خاصة، وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) : وحجة هذا القول: أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا، قال في [مراقي السعود] :

وحمل مطلق على ذاك وجب

إن فيهما اتحد حكم والسبب

وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود بأنه لا دليل عليه، وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما، وما ذكره الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار] من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد

(1)[أضواء البيان](1\ 196- 198) .

ص: 443

بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا.

نعم، لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا من غير المدخول بها فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال.

وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني: مفهوم المخالفة كون الكلام واردا جوابا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج المفهوم عن المنطوق، وأشار إليه في [مراقي السعود] في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:

وجهل الحكم أو النطق انجلب

للسؤال أو جرى على الذي غلب

ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤال.

وقد قدمنا: أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته، ولذا قال النووي في [شرح مسلم] ما نصه: وأما هذه الرواية لأبي داود فضعيفة رواها أيوب عن قوم

ص: 444

مجهولين عن طاوس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم انتهى منه بلفظه.

وقال المنذري في [مختصر سنن أبي داود] بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاوس مجاهيل. انتهى منه بلفظه. وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [زاد المعاد] بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد. انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم. انتهى كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.

الجواب الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل ذلك ولا أنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما.

قال ابن القيم (1) : وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك من علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه، أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس.

(1)[إغاثة اللهفان](1\ 291) .

ص: 445

وقال ابن حزم (1) : وأما حديث طاوس عن ابن عباس الذي فيه: أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى الواحدة وتجعل واحدة فليس شيء منه أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي جعلها واحدة أو ردها إلى الواحدة، ولا أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره، وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري «كنا نخرج في زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من كذا، وأما نحن فلا (2) » ) . انتهى كلام ابن حزم.

وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (3) : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه، فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه، وأصحابه يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به، ثم يتوفى الله رسوله والأمر على ذلك، فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها، ويعمل به ولا يغيره إلى أن فارق الصديق الدنيا، واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك رأيه أن يلزم الناس بالصواب، فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من

(1) [المحلى، (10\ 462، 463) .

(2)

صحيح البخاري الزكاة (1506) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .

(3)

[زاد المعاد](4\ 120) .

ص: 446

هذا؟ وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.

وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره.

الجواب الخامس: ما ذكره المجد قال: وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق - فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاثا إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله:(إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) . انتهى كلام المجد.

وهذا جواب ابن سريح كما قاله الخطابي (2) والمنذري (3) .

(1)[أضواء البيان](1\ 196) .

(2)

[معالم السنن](3\ 27) .

(3)

[المختصر] للمنذري (3\ 1126) .

ص: 447

وقال ابن حجر (1) : هذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي: إنه أصح الأجوبة.

وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (2) : وأما حملكم الحديث على قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده، فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلم جرا

آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب، بل يرده إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم مطلقا برا كان أو فاجرا.

وأيضا فإن قوله: (إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم؛ لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يده من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه، ويزول ما أحدثه الغضب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر أن يلزمهم ما التزموا عقوبة لهم، فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول

(1)[الفتح](9\ 298) .

(2)

[زاد المعاد](4\ 118، 119) .

ص: 448

مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث

هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستنكر المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره؟!

ويمكن أن يجاب عن جواب ابن القيم بما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال (1) : وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:

الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات.

وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة: من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟

فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أسعد بظاهر اللفظ.

(1)[أضواء البيان](1\180-183) .

ص: 449

قيل له، وإذا فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع.

ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة: أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه، ما فهم من هذا الحديث- إلا أن المراد بطلاق الثلاث لفظه: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات؛ ولذا ترجم في [سننه] لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، وقد سبق في الوجه الثالث ثم قال: فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي رحمه الله من الحديث ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في [زاد المعاد] في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت الحديث.

فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا. اهـ. بلفظه.

وهو دليل واضح لصحة ما فهمه النسائي رحمه الله من الحديث، لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة

ص: 450

كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة آنفا. . . وبعد أن نقل كلام ابن سريج وأن القرطبي ارتضى هذا الجواب، ونقل عن النووي جوابه عنه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كله في أول الجواب.

ثم قال: قال مقيده - عفا الله عنه -: وهذا الوجه لا إشكال فيه لجواز تغيير الحال عند تفسير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.

وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور: أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى.

قال مقيده - عفا الله عنه -: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وقوله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال: بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي.

الجواب السادس: عن حديث طاوس عن ابن عباس: أن سائر أصحاب ابن عباس رووا عنه إفتاءه بخلاف ذلك، وما كان ابن عباس ليروي

ص: 451

عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول:(أنا أقول لكم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر) قاله في فسخ الحج وغيره؛ ولهذا اتجه الإمام أحمد بن حنبل إلى دفع حديث طاوس هذا بما رواه سائر أصحاب ابن عباس عن ابن عباس، قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور. ذكر جميع ذلك الإمام ابن القيم (1)

وجاء في مسودة آل تيمية ما نصه (2) : (وفيه، أي: معاني الحديث للأثرم أيضا في حديث ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال أبو عبد الله: أدفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه، أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا) اهـ.

وقال البيهقي في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك)(3) : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس. . . ومنها: ما أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، نا أبو العباس

(1)[إغاثة اللهفان](1\158، 159) .

(2)

[المسودة](242) .

(3)

[السنن الكبرى](7\337، 338) .

ص: 452

محمد بن يعقوب، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد: أن سعيد بن جبير أخبره، أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين، ورواه عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا: حرمت عليك.

وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: نا أبو العباس، نا الربيع، نا الشافعي، نا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو بن مطر، نا يحيى بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد قال: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1)(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وعبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء: أن رجلا قال لابن عباس: طلقت امرأتي مائة فقال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين، وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق أنا حسين بن محمد، نا

(1) سورة الطلاق الآية 2

ص: 453

جرير بن حازم، عن أيوب عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: إنما يكفيك رأس الجوزاء.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا ابن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.

أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنا أبو بكر بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تزوج زوجا غيرك. قال: فإنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.

فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، ورواية عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق بالثلاث وأمضاهن. . . انتهى كلام البيهقي - رحمه الله تعالى -.

وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (1) : لا يترك الحديث الصحيح

(1)[إعلام الموقعين](3\31) وما بعدها.

ص: 454

المعصوم لمخالفة راويه له فإن مخالفته ليست معصومة، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة:«من استقاء فعليه القضاء (1) » ، وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه- وذكر جملة أمثلة نسبها إلى الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية، إلى أن قال رحمه الله: والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه. ولو قدر بانتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. اهـ.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (2) : قال مقيده- عفا الله عنه-: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله

(1) سنن الترمذي كتاب الصوم (720) ، سنن أبو داود الصوم (2380) ، سنن ابن ماجه الصيام (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) ، سنن الدارمي الصوم (1729) .

(2)

[أضواء البيان](1\189- 191) .

ص: 455

أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، قال للأثرم وابن منصور: أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو- ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.

فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف.

فالجواب: أن الصحابي إذا خالف ما روى ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد رحمه الله: الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به وهو عدل عارف وعلى هذه الرواية فلا إشكال.

وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء: أن العبرة بروايته لا بقوله فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا، فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا؛ لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج.

فالحاصل: أن ترك ابن عباس لجعل ثلاث بفم واحد واحدة يدل على

ص: 456

أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد. . . واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة: أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة: أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحافظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة. انتهى.

ص: 457

الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها: لفظ البتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها.

وهذا جواب الخطابي وقواه ابن حجر، قال الخطابي (1) : ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة؛ لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعلها ثلاثا، وكذلك روي عن ابن عمر، وكان يقول: أبت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن

(1)[معالم السنن](3\237، 238) .

ص: 457

حنبل، وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أربعين، ثم إن عمر لما رأى الناس تشايعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها قال: أرى أن تبلغ فيها حد المفتري؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وكان ذلك على ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق (البتة) على شاكلته. انتهى كلام الخطابي.

وقال ابن حجر (1) : هو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها (البتة) والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن (البتة) إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل فكأن بعض رواته حمل لفظ (البتة) على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بالبتة الواحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

الجواب الثامن: حمل الحديث على أنه شاذ وقد حمله على ذلك جماعة من أهل العلم، فقال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب في كتاب [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] وساق حديث ابن عباس، ثم قال (2) : هذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:

أحدهما: وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، ويرجع الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد

(1)[فتح الباري](9\299) .

(2)

[سير الحاث] ص 74.

ص: 458

الراوي بالحديث، وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذا ومنكرا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ كالإمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاوس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس، يعني: رووا عنه خلاف ما روى طاوس.

وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، قال: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. قال المصنف: ومتى أجمع الأمة على إطراح العمل بحديث وجب اطراحه وترك العمل به، وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من عمل بالشاذ.

وقال النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث. وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة فإن عرف وإلا فدعه، وعن مالك قال:(شر العلم الغريب) وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس وفي هذا الباب شيء كثير لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور.. قال ابن رجب: وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي، كما ذكره في [المغني] ، وهذه أيضا علة في الحديث بانفرادها فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة؟!

وقال القاضي إسماعيل في كتاب [أحكام القرآن] : طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب

ص: 459

من كثرة خطأ طاوس

وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث.

قال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل. انتهى المقصود.

الثاني: أنه منسوخ، وقد سبق ما يغني عن إعادته.

ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال (1) : رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب.. قال: وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.

ونقل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ابن العربي المالكي ما يختص بحديث ابن عباس هذا فقال (2) : فإن قيل: ففي [صحيح مسلم]، عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه [منها](3) :

الأول: أنه حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا

(1)[تفسير القرطبي](3\129) .

(2)

[أضواء البيان](192) .

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من الناشر. ا. هـ.

ص: 460

تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.

الثاني: أن هذا الحديث لم يرد إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا عن طريق طاوس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس، وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟ انتهى محل الغرض من كلام ابن العربي انتهى.

وقال ابن حجر (1) : الجواب الثاني: دعوى شذوذ رواية طاوس وهي طريقة البيهقي فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. انتهى.

وقال ابن التركماني: وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه، وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. انتهى.

وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال بعد عرضه لهذا المسلك (2) وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات

(1)[الفتح](9\363) .

(2)

[إغاثة اللهفان](1\295، 296) .

ص: 461

بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء.

قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة، لم يروها غيره، وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده، هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه، فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.

فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذا. وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده، ولا مسوغا له.

قال الشافعي: (وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات) قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به.. ثم إن هذا القول لا يمكن أحدا من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم،

ص: 462

والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد.

وبعد ما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كلاما يتفق مع ما سبق ذكره عن ابن القيم قال (1) : نعم، لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه- أن ذلك يدل على عدم صحته، ووجهه: أن توفر الدواعي يلزم منه النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقررة في الأصول أشار إليها في [مراقي السعود] بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر:(وخبر الآحاد في السنى) .

حيث دواعي نقله تواترا

نرى لها لو قاله تقررا

وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب [جمع الجوامع] عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ منه بلفظه.

ومراده: أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله.

وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اهـ. محل

(1)[أضواء البيان](1\193-195) .

ص: 463

الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.

قال مقيده- عفا الله عنه-: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره؛ لأن (1) يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:

أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » ، فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدة، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:«وإنما لكل امرئ ما نوى (3) » .

(1) قوله: (لأن) كذا بالأصل المطبوع.

(2)

صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

(3)

صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

ص: 464

والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله. والأول أولى وأخف من الثاني.

وقال القرطبي في [المفهم] في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. اهـ. بواسطة نقل ابن حجر في [فتح الباري] عنه وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. انتهى.

الجواب التاسع: أن الحديث مضطرب، نقل هذا الجواب ابن حجر عن القرطبي (1)

وذكر ابن القيم هذا الجواب وناقشه: فقال (2) : وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر، فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في [صحيحه] على خلافه فقال:(باب في من جوز الطلاق الثلاث في كلمة) لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) ثم ذكر حديث اللعان وفيه: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولم يغير عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وهو لا يقر على باطل) .

(1)[فتح الباري](9\364) .

(2)

[إغاثة اللهفان](1\293- 295)

(3)

سورة البقرة الآية 229

ص: 465

قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروي عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند.

وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: (ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة) وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فهذا يخالف اللفظ الآخر، وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه.

ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيأ القدح في صحته، ورواته كلهم أئمة حفاظ، حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاووس، وحدث به ابن طاوس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاووس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس، فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن جريج ولا عبد الله بن طاوس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه:[الجامع المختصر الصحيح] ، ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم.

ص: 466

وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة- وهو الظاهر- فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيئ الحفظ، والحفاظ قالوا:(أبو الصهباء) وهذا لا يوهن الحديث، وهذه الطريق عند الحاكم في [المستدرك] ، وأما رواية من رواه مقيدا (قبل الدخول) فإنه تقدم أنه لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.

وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم صريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء أن قوله: (قبل الدخول) زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوي الآخر ويشهد بصحته، وبالله التوفيق.

الجواب العاشر: أن حديث ابن عباس معارض بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كما ذكر ذلك الشافعي وغيره، وقد سبق استدلال الجمهور بالإجماع مع ذكر أدلتهم لمذهبهم وبيان من قال به ومناقشة ابن القيم له، فاكتفي بذلك عن الإعادة هنا.

الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في [المسند] قال: حدثنا سعد بن

ص: 467

إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت قال: فراجعها (1) » ، فكان ابن عباس يروي الطلاق عند كل طهر.

قال ابن القيم (2) ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم (رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد) : هذا حديث ضعيف، أو قال: واه لم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الذي رواه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أقرها على النكاح الأول، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد، هذا وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه؟ ثم ساق رواية أبي داود وستأتي، وهي الدليل الثالث، ثم قال ابن القيم: قال شيخنا رضي الله عنه: وأبو داود لما لم يرو في [سننه] الحديث الذي في [مسند أحمد] يعني: الذي ذكرناه آنفا فقال: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته،

(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .

(2)

[إعلام الموقعين](3\40) .

ص: 468

ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث البتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاث البتة. قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة فضعفه انتهى.

وقد سبق الكلام على رواية الإمام أحمد لحديث ركانة وكذلك رواية الزبير بن سعيد، ورواية نافع بن عجير عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية.

الدليل الثالث: قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس قال: «طلق عبد يزيد- أبو ركانة وإخوته- أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه:"أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه من كذا وكذا"؟ قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد:"طلقها" ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: وتلا

ص: 469

(2)

» .

وقد سبقت مناقشة رواية أبي داود عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية فاكتفي بما هناك عن إعادته هنا.

الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة، وقد سبقت مناقشة حديث ابن عمر برواياته، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، وذلك عند الكلام على الدليل السادس فاكتفي بما ذكر هناك عن إعادته هنا.

وأما الإجماع فممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء، فقد بينوا أن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة في عهد أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر.

ويمكن أن يجاب عنه بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة في أن الثلاث بلفظ واحد تكون ثلاثا وقد سبقت.

وأما القياس فقد قال ابن القيم (3) : وأما القياس فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (4) ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (5) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، وقالت: أشهد بالله

(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) .

(2)

سورة الطلاق الآية 1 (1){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3)

[إغاثة اللهفان](1\289)

(4)

سورة النور الآية 6

(5)

سورة النور الآية 8

ص: 470

أربع شهادات أنه كاذب: كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا ثلاث تطليقات، وأي قياس أصح من هذا؟! وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه؛ ولهذا لو قال المقر بالزنا: إني أقر بالزنا أربع مرات كان ذلك مرة واحدة، وقد قاله الصحابة لماعز:(إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلو قال: أقر به أربع مرات كان مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء.

وقد أجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذا القياس فقال (1) : وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا، وحصلت بها البيونة بانقضاء العدة إجماعا.

وأما الآثار: فما جاء عن الصحابة في ذلك، فقد روى طاوس وعكرمة عن ابن عباس الإفتاء بذلك، ورواية طاوس عند أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، ورواية عكرمة عند أبي داود من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، وحكى ابن وضاح وعنه ابن مغيث الإفتاء بكون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف. وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر قال: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا

(1)[أضواء البيان](1\195، 196) .

ص: 471

صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح) ، وكذلك ما نقل من الآثار عن أهل البيت.

ويضاف إلى هذه الآثار ما سبق ذكره من الآثار مما لم يذكر هنا، وذلك في الكلام على وفي استدلال الجمهور بالإجماع.

وأجيب عن تلك الآثار بما يأتي:

أما ما روى طاوس عن ابن عباس أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه طلقة واحدة فقد اعتبره أبو جعفر النحاس من مناكير طاوس التي خولف فيها طاوس (1) قال: وطاووس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا: إنما تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته، والصحيح عنه وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: أنها ثلاث، كما قال الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} (2) أي: الثالثة.

وأما ما روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة) فقد تعقبه أبو داود في [سننه]

(1)[الناسخ والمنسوخ] ص71

(2)

سورة البقرة الآية 230

ص: 472

بقوله: ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، ولم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة. وعلى فرض ثبوتها فقد رجع ابن عباس عن ذلك، كما صرح أبو داود قال (1) : وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، وهذا حديث أحمد قالا: نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس: أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قال أبو داود: وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش: أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقالا: اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة رضي الله عنها ثم ساق هذا الخبر. قال أبو داود: وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث يبينهما من زوجها، مدخولا بها أو غير مدخول بها- لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. هذا مثل خبر الصرف قال فيه: ثم إنه رجع عنه، يعني: ابن عباس. اهـ (2) .

وقد ساق في الباب الذي أورد فيه ذلك وهو باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث آثارا عن سائر أصحاب ابن عباس بخلاف ما ذكر عن طاوس وعكرمة، حيث قال: حدثنا حميد بن مسعدة، نا إسماعيل، أنا

(1)[عون المعبود شرح سنن أبي دواد](2\226، 227) .

(2)

[عون المعبود شرح سنن أبي دواد](2\226، 227) .

ص: 473

أيوب، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) قال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس، وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس كلهم قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل عن أيوب عن عبد الله بن كثير. اهـ.

وقال الباجي: بخصوص ما نقل عن ابن عباس من فتواه بأن الثلاث بفم واحد واحدة (3) ما نصه: قد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع. اهـ.

وأما ما نقله أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي عن ابن وضاح، من أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف

(1) سورة الطلاق الآية 2

(2)

سورة الطلاق الآية 1

(3)

[المنتقى](4\4) .

ص: 474

وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - قد أفتوا بأن من طلق ثلاثا في كلمة واحدة لا يلزمه سوى طلقة واحدة، فيتوقف الاستدلال به على ثبوت السند إليهم بذلك ولم يثبت.

وقد تعقبه أبو بكر بن العربي في كتابه [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم قال (1) : قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه، وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة.

ومر أبو بكر بن العربي إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، وقد أدخل مالك في [موطئه] عن علي: أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها!؟ وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة.

قال ابن العربي: لم يعرف في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان بالاتفاق على لزوم الثلاث،

(1)[مختصر سنن أبي دواد ومعه التهذيب والمعالم](3\128) .

(2)

سورة البقرة الآية 229

ص: 475

فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ.

ذكر ابن القيم ذلك في [إغاثة اللهفان](1) بقوله: (لعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس الإلزام بالثلاث إن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق) انتهى. كلام ابن القيم.

وقال البيهقي في [السنن الكبرى] في عزو ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2) ، أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، نا محمد بن عبد الوهاب بن هشام، نا علي بن سلمة اللبقي، نا أبو أسامة عن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة والناس عنقا واحدا إذ ذلك يأتونه ويسمعون منه، قال: فأتيته فقرعت عليه الباب، فخرج إلي شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة،

(1)[إغاثة اللهفان] ص 179.

(2)

[السنن الكبرى](7\339، 340) .

ص: 476

قال. فقلت له: أين سمعت هذا من علي - رضي الله تعالى عنه -؟ قال أخرج إليك كتابا، فأخرج فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قال: فقلت: ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك) اهـ.

وأما ما روى أبو يعلى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من قوله: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق)

إلخ، فلا يصلح الاحتجاج به على أن عمر قد ندم آخر حياته على إمضاء الثلاث لأمرين:

أحدهما: أن يزيد بن أبي مالك لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، وقد قال الحافظ الذهبي في [ميزان الاعتدال]، في يزيد بن أبي مالك: صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك. وذكره الحافظ ابن حجر في [تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس] وقال: وصفه أبو مسهر بالتدليس.

الثاني: أن خالد بن يزيد بن أبي مالك وهاه ابن معين، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال النسائي: غير ثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: خالد بن يزيد بن أبي مالك ليس بشيء، وقال ابن أبي الحواري: سمعت ابن معين يقول بالعراق: كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب [الديات]

ص: 477

لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة، قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت هذا الكتاب من خالد ثم أعطيته العطار فأعطى الناس فيه حوائج. وفي [تهذيب التهذيب] للحافظ ابن حجر: قال ابن حبان: كان صدوقا في الرواية، ولكنه كان يخطئ كثيرا، وفي حديثه مناكير لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد عن أبيه، وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: متروك الحديث، وذكره ابن الجارود والساجي والعقيلي في الضعفاء. اهـ.

وأجيب عما نقل عن أهل البيت النبوي في اعتبار الطلاق الثلاث في كلمة واحدة: بما رواه البيهقي (1) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السمان ببغداد، أنا حنبل بن إسحاق بن حنبل، نا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نا مسلمة بن جعفر الأحمسي، قال: قلت لجعفر بن محمد: إن قوما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونها واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا: (من طلق ثلاثا فهو كما قال) وأخبرنا أبو عبد الله، نا أبو محمد الحسن بن سليمان الكوفي ببغداد، نا محمد بن عبد الله الحضرمي، نا إسماعيل بن بهرام، نا الأشجعي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد بانت منه. اهـ.

ونقل السياغي عن صاحب [الأمالي] أنه قال (2) : حدثنا أبو كريب عن

(1)[السنن الكبرى](7\340) .

(2)

[الروض النظير](4\387) .

ص: 478

حفص بن غياث قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق ثلاثا فهي ثلاث، وهو قولنا: أهل البيت) ثم ذكر رواية البيهقي عن شيخه الحاكم المتقدمة.

وقال السياغي من [الروض النضير]، في وقوع الطلاق بائنا بإرساله ثلاثا بلفظ واحد قال (1) : وهو مذهب جمهور أهل البيت، كما حكاه محمد بن منصور عنهم في [الأمالي] بأسانيده، وروى في [الجامع الكافي] عن الحسن بن يحيى قال: رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي عليه السلام وعلي بن الحسين، وزيد بن علي، ومحمد بن علي الباقر، ومحمد بن عمر بن علي، وجعفر بن محمد، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله، وخيار آل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ثم قال الحسن: أجمع آل الرسول على أن الذي يطلق ثلاثا في كلمة واحدة أنها قد حرمت عليه، وسواء كان قد دخل بها الزوج أو لم يدخل، ورواه في [البحر] عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي هريرة وعن علي عليه السلام والناصر والمؤيد بالله وتخريجه، والإمام يحيى والفريقين ومالك وبعض الإمامية.

قال ابن القيم: وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ.

وذهب إليه ابن حزم في [المحلى] وأطال الاحتجاج عليه. انتهى المراد من [الروض النضير] .

(1)[الروض النظير](4\379) .

ص: 479