المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌حكم السعيفوق سقف المسعى

- ‌وجهة نظرلفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

- ‌حكم الأوراق النقدية

- ‌تعريف النقد:

- ‌نشأة النقود وتطورها

- ‌قاعدة النقد الورقي

- ‌سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل

- ‌آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية

- ‌القول الرابع: الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة:

- ‌القول الخامس: الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه:

- ‌علة الربا في النقدين:

- ‌سبيل الله

- ‌ المراد بسبيل الله في القرآن:

- ‌معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق:

- ‌ سبيل الله" في آية مصارف الزكاة:

- ‌الشرط الجزائي

- ‌ المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه:

- ‌ ما للشرط الجزائي من صور مختلفة:

- ‌ ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج:

- ‌ ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود

- ‌ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها

- ‌الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع

- ‌ضوابط الشروط المقترنة بالعقد

- ‌ الشرط الذي يلائم العقد:

- ‌ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد:

- ‌الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى

- ‌ الشرط الذي يجري به التعامل:

- ‌الشرط الفاسد

- ‌المذهب الحنفي

- ‌ شرط فاسد يفسد العقد:

- ‌ الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد:

- ‌ الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور:

- ‌ العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد:

- ‌ شرط فاسد يسقط ويبقى العقد

- ‌شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط

- ‌ تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي

- ‌السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد

- ‌تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي:

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي:

- ‌الشرط الصحيح في مذهب مالك:

- ‌الشرط الفاسد في مذهب مالك:

- ‌ تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي

- ‌المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط:

- ‌الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة:

- ‌الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة:

- ‌استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية:

- ‌مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد:

- ‌حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة

- ‌القول الأول: أنه محرم

- ‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

- ‌المسألة الثانية: ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثالث: يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة:

- ‌المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا:

- ‌الخلاصة

- ‌المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌وجهة نظر المخالفين

- ‌حكم النشوز والخلع

- ‌النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء:

- ‌النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة

- ‌باب مصالحة المرأة زوجها

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

- ‌الخلاصة

- ‌حكم الشفعة بالمرافق الخاصة

- ‌تعريف الشفعة:

- ‌الشفعة في اللغة:

- ‌الشفعة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌مشروعية الشفعة

- ‌دفع شبه القول بمنافاتها للقياس

- ‌الحكمة في مشروعية الشفعة

- ‌ ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر:

- ‌ الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار

- ‌ الاشتراك في المنقولات

- ‌ الجوار

- ‌ أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها:

- ‌ أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها:

- ‌ الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى

- ‌ الشفعة بشركة الوقف

- ‌ شفعة غير المسلم

- ‌ شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون

- ‌ شفعة الغائب

- ‌ شفعة الوارث

- ‌وجهة نظر المخالفين

الفصل: ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

ولنا قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) ولأنه قول من سمينا من الصحابة.

وقالت الربيع بنت معوذ: «اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك علي (2) » ، لكن لا يستحب أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهذا المذهب، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وإسحاق وأبو عبيد، ولم يكرهه أبو حنيفة ومالك والشافعي (3) . اهـ.

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سنن النسائي الطلاق (3498) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2058) .

(3)

[المقنع مع حاشيته](3\119، 120) منشورات السعيدية.

ص: 614

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

في [صحيح البخاري] : عن ابن عباس، «أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة (1) » .

وفي [سنن النسائي] : عن الربيع بنت معوذ، «أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها - وهي: جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول - فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فقال: خذ الذي لها عليك وخل سبيلها. قال: نعم، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها (2) » .

وفي [سنن أبي داود] : عن ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس بن

(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .

(2)

سنن النسائي الطلاق (3497) .

ص: 614

شماس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة (1) » ، وفي [سنن الدارقطني] في هذه القصة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ قالت: نعم، وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته. قالت: نعم، فأخذ ماله، وخلى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) » قال الدارقطني: إسناده صحيح.

فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام، أحدها: جواز الخلع، كما دل عليه القرآن، قال تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3)

ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس، خالفت النص والإجماع، وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره.

ومنعه طائفة بدون إذنه.

والأئمة الأربعة، والجمهور: على خلافه، وفي الآية دليل على حصول البينونة؛ لأنه سبحانه وتعالى سماه (فدية) ولو كان رجعيا - كما قال بعض الناس - لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له، ودل قوله سبحانه وتعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (4) على جوازه بما قل أو كثر، وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

(1) قال المنذري (3: 144حديث 2137) وذكر أنه روي مرسلا، وأخرجه الترمذي مسندا، وقال: حسن غريب.

(2)

صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

سورة البقرة الآية 229

ص: 615

وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه، فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجازه، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه.

وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها، وكل ثوب لها حتى نقبتها. ورفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه امرأة نشزت عن زوجها فقال:(اخلعها ولو من قرطها) ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتبة عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:(لا يأخذ منها فوق ما أعطاها) .

وقال طاوس: (لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها)، وقال عطاء:(إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها)، وقال الزهري:(لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها) .

وقال ميمون بن مهران: (إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان) .

وقال الأوزاعي: (كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها) .

والذين جوزوه: احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة.

والذين منعوه: احتجوا بحديث أبي الزبير: أن ثابت بن قيس بن

ص: 616

شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته " قالت: نعم، وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة فلا (1) » قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح.

قالوا: والآثار من الصحابة مختلفة.

فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة.

ومنهم من روي عنه إباحتها.

ومنهم من روي عنه كراهتها.

كما روي عن وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي: (أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها) والإمام أحمد أخذ بهذا القول، ونص على الكراهة، وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال: ترد عليها. . وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: «أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أبغض زوجي، وأحب فراقه قال: " أفتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ " قالت: نعم، وزيادة من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما الزيادة من مالك فلا، ولكن الحديقة " قالت: نعم، فقضى بذلك على الزوج (2) » وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له، وقد رواه ابن جريج عنهما اهـ. (3) .

أما إذا ادعى كل من الزوجين نشوز صاحبه عليه وخيف الشقاق بينهما، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (4)

(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .

(2)

صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .

(3)

[زاد المعاد](4\63-67) مطبعة السنة المحمدية.

(4)

سورة النساء الآية 35

ص: 617

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين، وما صفتهما، وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين، أو أنهما ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما، أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما؟

وقال ابن جرير رحمه الله في تفسيره هذه الآية:

يعني بقوله جل ثناؤه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (1) وشاقته بقول عادته. . . ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في المراد بالمخاطبين في هذه الآية ببعث الحكمين.

فذكر أثرين بسنديهما إلى سعيد بن جبير والضحاك بأن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه.

وذكر أثرا بسنده إلى السدي: أن المأمور بذلك الرجل والمرأة.

وذكر جملة آثار بأسانيدها إلى علي وابن عباس والحسن وقتادة: أن المأمور بذلك السلطان غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما.

ثم ذكر رحمه الله اختلاف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان، وما

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 618

الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وجه بعثهما بينهما؟

فقال بعضهم: يبعثهم الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه أو توكيل من وكل منهما في ذلك.

وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى السدي تؤيد القول بأن الحكمين وكيلان ليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا في حدود ما وكلا به.

وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين السلطان غير أنه يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما، ثم ذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى الحسن وقتادة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن زيد تدل على ذلك.

وذكر رأيا ثالثا: في أن الذي يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق.

وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى ابن عباس ومعاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير وعامر وإبراهيم وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك.

ثم قال بعد ذلك: وأولى الأقوال بالصواب في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) أن الله سبحانه خاطب المسلمين

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 619

بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض.

وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه في ذلك مقام نفسه.

ص: 620

واختلفوا في الزوجين والسلطان ومن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان أو السلطان؟

ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة فيه مختلفة.

وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها، وإذ كان ذلك كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن شمله حكم الآية والأمر بقوله:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) إذ كان مختلفا بينهما، هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا؟ - وكان ظاهر الآية قد عمهما- فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله لينظر في أمرهما وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك لما له على صاحبه ولصاحبه عليه فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه، وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 620

وعليه أو بما له أو بما عليه إلا الحكمين كليهما لم يجز إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما، وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء وإنما بعثاهما للنظر بينهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما - لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك. انتهى المقصود. . (1) .

وذكر أبو بكر الجصاص: أن الحكمين وكيلان ليس لهما إلا ما وكلا فيه، وأن أمر الجمع بين الزوجين أو التفريق خاص بالحاكم، وأن الخطاب في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ} (2) للحاكم الناظر بين الخصمين؛ لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن قامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما، فقال. . . باب: الحكمين كيف يعملان، قال الله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (3)

وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم؟

فروي عن سعيد بن جبير والضحاك: أنه السلطان الذي يترافعان إليه.

وقال السدي: الرجل والمرأة.

(1)[جامع البيان لأحكام القرآن](8\318- 330) .

(2)

سورة النساء الآية 35

(3)

سورة النساء الآية 35

ص: 621

قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (1) هو خطاب للأزواج؛ لما في نسق الآية من الدلالة عليه، وهو قوله تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (2) وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (3) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم؛ وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب، وقال: ما ولدت إذ ذاك، فقلت: إنما أعني حكمي شقاق قال: إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ (4) بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر، فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما، فما حكما من شيء فهو جائز.

وروى عبد الوهاب قال: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان؛ فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل كذا ويفعل كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا، فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ

(1) سورة النساء الآية 34

(2)

سورة النساء الآية 34

(3)

سورة النساء الآية 35

(4)

قوله (درء. . . إلخ) الدرء: الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ (المصححة) .

ص: 622

فوق يده، وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع.

قال أبو بكر: وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله، فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما، وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما، فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله.

ويدل أيضا قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال: فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها، فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا، وإن شاءا فرقا بغير أمرهما، وزعم إسماعيل بن إسحاق: أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين.

قال أبو بكر: هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء، قال الله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه، وأمر

(1) سورة النساء الآية 35

(2)

سورة ق الآية 18

ص: 623

الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب، فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة؟ ! ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج.

وكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي: ما شأن هذين؟ قالوا: بينهما شقاق، قال:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) فقال علي: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت، فأخبر علي: أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين، فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج، وذلك أن لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها.

فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضا الزوج وتوكيله، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها؛ فلذلك قال أصحابنا: إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضا الزوجين.

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 624

فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين؛ لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان، وإنما الحكمان وكيلان لهما، أحدهما وكيل المرأة، والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك.

قال إسماعيل: الوكيل ليس بحكم، ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره وإن أبى، وهذا غلط منه؛ لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة؛ لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به، فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة، وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا.

وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه، ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات.

قال إسماعيل: والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن؛ لأنه إنما سمي هاهنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه.

وأما قوله: إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا، فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا؛ لأنهما وكيلان، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما، ويعرف أمور المانع من الحق منهما

ص: 625

حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما، فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا، وينهى الظالم منهما عن ظلمه، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما، وجائز أن يكونا سميا بذلك؛ لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكلا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح -سميا حكمين؛ لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل، فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق - مضى ما أنفذاه، فسميا حكمين من هذا الوجه.

فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح -سميا حكمين، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما، إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما، وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج؛ لأنه لم يرض بكتاب الله. قال: ولم يأخذه بالتوكيل، وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله.

وليس هذا على ما ذكر؛ لأن الرجل لما قال: أما الفرقة فلا، قال علي: كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت، فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة، وأمره بأن يوكل بالفرقة، وما قال الرجل: لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه، وإنما قال: لا أرضى بالفرقة بعد رضا المرأة بالتحكيم، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها، قال: ولما قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 626

الحكم، قال: وهذا لا يقال للوكيلين؛ لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة؛ لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك.

وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما، فلا فرق بين الوكيل والحكم؛ إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح، فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به.

قال: وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاووس وإبراهيم قالوا: ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز، وهذا عندنا كذلك أيضا، ولا دلالة فيه على موافقة قوله؛ لأنهم لم يقولوا: إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضا الزوجين، بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضا الزوجين بالتوكيل، ولا يكونان حكمين إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز، وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه، ويخرجا المال عن ملكها، وقد قال الله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2)

(1) سورة النساء الآية 4

(2)

سورة البقرة الآية 229

ص: 627

وهذا الخوف المذكور هاهنا هو المعني بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما، وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به؟ ! فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب، وقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه، وقال الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (3) فأخبر تعالى: أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (4) » ، وقال صلى الله عليه وسلم:«فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار (5) » .

فثبت بذلك: أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه، وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه

(1) سورة النساء الآية 35

(2)

سورة النساء الآية 29

(3)

سورة البقرة الآية 188

(4)

مسند أحمد بن حنبل (5/73) .

(5)

صحيح البخاري الحيل (6967) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن النسائي آداب القضاة (5401) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .

ص: 628

ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له، فالحكمان إنما يبعثان بينهما وليشهدا على الظالم منهما، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} (1) الآية، قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك، وكذلك روي عن عطاء.

قال أبو بكر: في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا، وهو قوله تعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (2) ولم يقل: إن يريدا فرقة، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما، وينكرا عليه ظلمه، وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه، وقالا له: لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك، وإن كانت هي الظالمة قالا لها: قد حلت لك الفدية، وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع - كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا، وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا، فهما في حال شاهدان، وفي حال مصلحان، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق، وأما قول من قال: إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ. (3) .

(1) سورة النساء الآية 35

(2)

سورة النساء الآية 35

(3)

[أحكام القرآن](2\230-235) المطبعة البهية عام 1347هـ.

ص: 629

وذكر أبو بكر بن العربي: بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان، وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان، وناقشه، ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال: قال الشافعي ما نصه:

الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما، وذلك أني وجدت الله سبحانه وتعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك، ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين.

قال القاضي أبو بكر: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به، وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم، وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر.

ص: 630

والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول: أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح، بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء، فإن الله تعالى قال:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (1)

(1) سورة النساء الآية 34

ص: 630

ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان، ودعه لا يكون نصا، يكون ظاهرا.

فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر، وكيف يقول الله:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) ؟ فنص عليهما جميعا ويقول هو: يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه، ثم قال: فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية، وأما قوله: لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح، وأما قوله: برضا الزوجين بتوكيلهما، فخطأ صراح، فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين.

وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن هاهنا.

المسألة الأولى: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} (2) قال السدي: يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته، تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري وحالي

(1) سورة النساء الآية 35

(2)

سورة النساء الآية 35

ص: 631

كذا، ويبعث الرجل حكما من أهله، ويقول له: حالي كذا، قاله ابن عباس ومال إليه الشافعي، وقال سعيد بن جبير: المخاطب السلطان، ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين، وقال مالك: قد يكون السلطان، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين، فأما من قال: إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا، وأما من قال: إنه السلطان فهو الحق.

وأما قول مالك: إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان، وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال: جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بما في كتاب الله لي وعلي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا؛ فقال: لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت.

قال القاضي أبو إسحاق: فبين علي أن الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهي، فقالت المرأة بعدما مضيا من عند علي: رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي، وقال الزوج: لا أرضى، فرد عليه تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى، وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب، فلو كانا وكيلين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما

ص: 632

وكلتما، ويسأل الزوجين: ما قالا لهما؟

المسألة الثانية: قوله تعالى: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ، فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر، فذلك تلبيس وإفساد للأحكام، وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت، فإن رأيا للجمع وجها جمعا، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما، كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: اصبر لي وأنفق عليك، وكان إذا دخل عليها قالت: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا، أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم؟ أين عتبة بن ربيعة؟ أين شيبة بن ربيعة؟ فيسكت، حتى دخل عليها يوما وهو برم، فقالت له: أين عتبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت، فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما.

وفي رواية: أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءا من الصوت، فقال له معاوية: ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا، وقال ابن عباس: أفلا نمضي فننظر أمرهما، فقال معاوية: فتفعل ماذا؟ فقال ابن عباس: أقسم

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 633

بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما.

فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة، وذكرا بالله تعالى وبالصحبة، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما، وقاله جماعة منهم: علي وابن عباس والشعبي ومالك وهي:

المسألة الثالثة: وقال الحسن وابن زيد: هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان، ويشهدان بما ظهر إليهما، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان، فإذا فرقا بينهما وهي:

المسألة الرابعة: تكون الفرقة، كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة، فإن قيل: إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح، بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد، قلنا: هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال.

فأما عقود الأبدان فلا يتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة، وبأي وجه رأياها من المتاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة وهي:

المسألة الخامسة: جاز ونفذ عند علمائنا، وقال الطبري والشافعي: لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه، وبه قال كل من جعلهما

ص: 634

شاهدين، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان، وأن فعلهما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية كما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها. اهـ (1) .

قال ابن رشد: باب في بعث الحكمين:

اتفق العلماء على جواز بحث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني: المحق من المبطل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (2) الآية.

وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين: أحدهما: من قبل الزوج، والآخر: من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما.

وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما.

وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل.

واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك؟

فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين والإذن منهما في ذلك.

(1)[أحكام القرآن] لابن العربي (1\176) وما بعدها.

(2)

سورة النساء الآية 35

ص: 635

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق.

وحجة مالك: ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع.

وحجة الشافعي وأبي حنيفة: أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج.

واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا.

فقال ابن القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة: تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا.

والأصل: أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك.

وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال: فاعتبر في ذلك إذنه، ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين. اهـ (1) .

وذهب الشافعي: إلى أن الحكمين وكيلان وأنه ليس لهما إلا ما

(1)[بداية المجتهد](2\98، 99) الطبعة الثالثة، 1379هـ \1960م.

ص: 636

وكلا فيه.

ففي كتاب [الأم] للشافعي ما نصه: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (1) الآية، قال: الله أعلم بمعنى ما أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، والذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما، وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج أن يصطلحا، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأذن في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، ودلت السنة أن ذلك برضا من المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج غيرهما، وكان يعرفهما بإباية الأزواج أن يشتبه حالاهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ما له من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق.

والتباين هو: ما يصيران فيه من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن، ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة ويتماديان فيما ليس لهما، ولا يعطيان حقا لا يتطوعان ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 637

الأزواج غيرهما، فإذا كان هكذا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين وبرضا الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك.

أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي في هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) ثم قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي رضي الله تعالى عنه:(كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به)، قال: فقول علي رضي الله تعالى عنه يدل على ما وصفت من أن ليس للحاكم أن يبعث حكمين دون رضا المرأة والرجل بحكمهما، وعلى أن الحكمين إنما هما وكيلان للرجل والمرأة بالنظر بينهما في الجمع والفرقة.

فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟

قلنا: لو كان الحكم إلى علي رضي الله تعالى عنه دون الرجل والمرأة بعث هو حكمين، ولم يقل: ابعثوا حكمين.

فإن قال قائل: فقد يحتمل أن يقول: ابعثوا حكمين فيجوز حكمهما بتسمية الله إياهما حكمين، كما يجوز حكم الحاكم الذي يصيره الإمام،

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 638

فمن سماه الله تبارك وتعالى حاكما أكثر معنى، أو يكونا كالشاهدين إذا رفعا شيئا إلى الإمام أنفذه عليهما، أو يقول: ابعثوا حكمين، أي: دلوني منكم على حكمين صالحين كما تدلوني على تعديل الشهود.

قلنا: الظاهر ما وصفنا، والذي يمنعنا من أن نحيله عنه مع ظهوره أن قول علي رضي الله عنه للزوج:(كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به) ، يدل على أنه ليس للحكمين أن يحكما إلا بأن يفوض الزوجان ذلك إليهما، وذلك أن المرأة فوضت، وامتنع الزوج من تفويض الطلاق فقال علي رضي الله تعالى عنه:(كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به) ، يذهب إلى أنه إن لم يقر لم يلزمه الطلاق وإن رأياه، ولو كان يلزمه طلاق بأمر الحاكم أو تفويض المرأة لقال له: لا أبالي أقررت أم سكت، وأمر الحكمين أن يحكما بما رأياه، اهـ. (1) .

وذكر الشيرازي قولين في المذهب:

أحدهما: أنهما وكيلان.

والثاني: أنهما حاكمان، فقال: فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم، فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (2)

(1)[الأم](5\115، 116) .

(2)

سورة النساء الآية 35

ص: 639

واختلف قوله في الحكمين:

فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما.

وقال في القول الآخر: هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض؛ لقوله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) فسماهما حكمين، ولم يعتبر رضا الزوجين.

وروى أبو عبيدة: أن عليا رضي الله تعالى عنه بعث رجلين فقال لهما: أتدريان ما عليكما؟ ! عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما) ، فقال الرجل: أما هذا فلا، فقال: كذبت، لا والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي.

ولأنه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا، والمستحب أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية، لأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية، فبعث عثمان رضي الله تعالى عنه حكما من أهله، وهو: ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وحكما من أهلها، وهو: معاوية رضي الله تعالى عنه، ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال، وإن كان من غير أهلهما جاز؛ لأنهما في أحد القولين حاكمان، وفي الآخر

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 640

وكيلان، إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق، لا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان، فإن قلنا: إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة. اهـ (1) .

والمشهور لدى الحنابلة: أنهما وكيلان لا حاكمان.

قال المرداوي: اعلم أن الصحيح من المذهب: أن الحكمين وكيلان عن الزوجين لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا عليه، قال الزركشي: هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى إن القاضي في [الجامع الصغير] ، والشريف أبا جعفر وابن البنا لم يذكروا فيه خلافا، ورضيه أبو الخطاب، قال في [تجريد العناية] : هذا أشهر، وقطع به في [الوجيز] و [المنور] و [منتخب الأزجي] وغيرهم. . . وقدمه في [الهداية] ، و [المذهب] ، و [مسبوك الذهب] ، و [المستوعب] ، و [الخلاصة] ، و [الهادي] ، و [المحرر] ، و [الرعايتين] ، و [الحاوي الصغير] ، و [النظم] ، و [الفروع] ، وغيرهم.

وعنه: أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره، أو وكلت المرأة في بذل العوض برضاها، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك فهذا يدل على أنهما حكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق بعوض أو غيره من غير رضا الزوجين.

قال الزركشي: وهو ظاهر الآية الكريمة. انتهى.

(1)[المهذب] ، (2\70) .

ص: 641

واختاره ابن هبيرة والشيخ تقي الدين رحمه الله. . . وهو ظاهر كلام الخرقي، قاله في [الفروع] ، وأطلقهما في [الكافي] و [الشرح] ، اهـ (1) .

وقال ابن القيم: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما.

روى أبو داود في [سننه] من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر بعضها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: خذ بعض مالها وفارقها، فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ ! قال: نعم، قال: فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذهما فارقها، ففعل (2) » .

وقد حكم الله بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (3)

وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين: هل هما حاكمان أو وكيلان؟ على قولين:

أحدهما: أنهما وكيلان، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول، وأحمد في رواية.

الثاني: أنهما حاكمان، وهذا قول أهل المدينة، ومالك، وأحمد في

(1)[الإنصاف](8\380، 381) الطبعة الأولى.

(2)

سنن أبو داود الطلاق (2228) .

(3)

سورة النساء الآية 35

ص: 642

الرواية الأخرى، والشافعي في القول الآخر، وهذا هو الصحيح.

والعجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان، لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين لقال: فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها.

وأيضا: فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل.

وأيضا: فإنه جعل الحكم إليهما، فقال تعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) والوكيلان لا إرادة لهما، إنما يتصرفان بإرادة موكليهما.

وأيضا: فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص.

وأيضا: فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام، وليس للوكيل شيء من ذلك.

وأيضا: فإن الحكم أبلغ من حاكم؛ لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك.

فإذا كان الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه؟ !

وأيضا: فإنه سبحانه وتعالى خاطب بذلك غير المتزوجين، وكيف يصح أن يوكل على الرجل والمرأة غيرهما؟ وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا: وإن خفتم شقاق بينهما فمروهما أن يوكلا وكيلين: وكيلا من أهله، ووكيلا من أهلها. ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدل عليه بوجه، بل هي دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح.

وبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين

(1) سورة النساء الآية 35

ص: 643

بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فقيل لهما:(إن رأيتما أن تفرقا فرقتما) وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال للحكمين بين الزوجين: (عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما) فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم. والله أعلم.

وإذا قلنا: إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره، وتوكيل الزوجة في بذل العوض، أو لا يجبران؟ على روايتين:

فإن قلنا: يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضا الزوجين.

وإن قلنا: إنهما حكمان لم يحتج إلى رضا الزوجين، وعلى هذا النزاع: ينبغي ما لو غاب الزوجان أو أحدهما.

فإن قيل: إنهما وكيلان لم ينقطع نظر الحكمين.

وإن قيل: حكمان انقطع نظرهما، لعدم الحكم على الغائب.

وقيل: يبقى نظرهما على قولين؛ لأنهما يتصرفان بحظهما، فهما كالناظرين، وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين.

وإن قيل: إنهما وكيلان؛ لأنهما فرع الموكلين، ولم ينقطع إن قيل: إنهما حكمان؛ لأن الحاكم يلي على المجنون.

ص: 644

وقيل: ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما، فكأنهما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان، فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمن العلماء من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين. اهـ (1)

(1)[زاد المعاد](4\63) وما بعدها.

ص: 645