الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد
المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة
وفيه قولان:
القول الأول: أنه محرم
، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول شيخ الإسلام وابن القيم:
أما المذهب الحنفي: فقال الكاساني في الكلام على طلاق البدعة (1) : وأما الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه، سواء كان على الجمع: بأن أوقع الثلاث جملة واحدة، أو على التفاريق واحدا بعد واحد، بعد أن كان الكل في طهر واحد. وهذا قول أصحابنا:
ولنا الكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب: فقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) أي: في أطهار عدتهن، وهو الثلاث في ثلاثة أطهار، كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا فيما تقدم أمر بالتفريق، والأمر بالتفريق يكون نهيا عن الجمع، ثم إن كان الأمر أمر إيجاب كان نهيا عن ضده- وهو: الجمع- نهي تحريم، وإن كان أمر ندب، كان نهيا عن ضده- وهو: الجمع- نهي ندب، وكل
(1)[بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] ، (3\ 94، 95) .
(2)
سورة الطلاق الآية 1
ذلك حجة على المخالف؛ لأن الأول يدل على التحريم، والآخر يدل على الكراهة، وهو لا يقول بشيء من ذلك.
وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) أي: دفعتان، ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين، لم يجز أن يقول أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين.
وجه الاستدلال: أن هذا إن كان ظاهره الخبر، فإن معناه: الأمر؛ لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف، لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد، وقد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الأمر، قال الله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (2) أي: ليرضعن، ونحو ذلك، كذا هذا، فصار كأنه سبحانه وتعالى قال: طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع؛ لأنه ضده، فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا.
فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم؛ لأنه ذكر جنس الطلاق، وجنس الطلاق ثلاث، والثلاث إذا وقع دفعتين، كان الواقع في دفعة طلقتان، فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين.
فالجواب: أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث، لا بتفريق الثلاث؛ لأنه أمر بالرجعة عقب الطلاق مرتين- أي: دفعتين- بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} (3) أي: وهو الرجعة، وتفريق الطلاق- وهو إيقاعه
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة البقرة الآية 233
(3)
سورة البقرة الآية 229
دفعتين- لا يتعقب الرجعة، فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث، لا بتفريق كل جنس الطلاق وهو الثلاث، والأمر بتفريق طلاقين من الثلاث يكون نهيا عن الجمع بينهما.
وأما السنة: فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن (1) » ، نهى صلى الله عليه وسلم عن الطلاق، ولا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه؛ لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، فعلم أن هاهنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه، فكان النهي عنه لا عن الطلاق، ولا يجوز أن يمنع من الشرع لمكان الحرام الملازم له، كما في الطلاق في حالة الحيض، والبيع وقت النداء، والصلاة في الأرض المغصوبة، وغير ذلك.
وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه: أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا، وأجاز ذلك عليه، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا.
وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها؛ أن النكاح عقد مصلحة؛ لكونه وسيلة إلى مصالح الدين والدنيا، والطلاق إبطال له، وإبطال المصلحة مفسدة، وقد قال الله عز وجل:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) وهذا معنى الكراهة الشرعية
(1) رواه ابن عدي في [الكامل] من طريق علي بن أبي طالب، وقال السيوطي في [الجامع الصغير] : ضعيف.
(2)
سورة البقرة الآية 205
عندنا: أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضى به، إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة؛ لعدم توافق الأخلاق، وتباين الطبائع، أو لفساد يرجع إلى نكاحها، بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة، أو أن المقام معها يسبب فساد دينه ودنياه، فتنقلب المصلحة في الطلاق ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى، إلا أن احتمال أنه لم يتأمل. حق التأمل، ولم ينظر حق النظر في العاقبة قائم، فالشرع والعقل يدعوانه إلى النظر، وذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية، حتى إن التباين والفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب وتعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق، وإن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه، أنه هل يمكنه الصبر عنها؛ فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها، وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني ثانيا، ويجرب نفسه، ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا وغالبا؛ لأنه لا يلحقه الندم غالبا، فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة، وصيرورة المصلحة في الطلاق، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب، وليست حالة الغضب حالة التأمل، لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة، فكان الطلاق إبطالا للمصلحة من حيث الظاهر، فكان مفسدة.
والثاني: أن النكاح عقد مسنون، بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح، فكان الطلاق قطعا للسنة، وتفويتا للواجب، فكان الأصل هو الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص، والتأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية؛ لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها، فإذا ذاقت
مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب وتتوب وتعود إلى الموافقة والصلاح، والتخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار، والثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة، وحق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد، فبقي ذلك على أصل الحظر. والثالث: أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم، وقال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) قيل في التفسير: أي: ندامة على ما سبق من فعله، أو رغبة فيها، ولا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح، فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام، وليس في الامتناع ذلك، والتحرز عن مثله واجب شرعا وعقلا، بخلاف الطلقة الواحدة؛ لأنها لا تمنع التدارك بالرجعة، وبخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار؛ لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهرا؛ لأنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم. انتهى المقصود.
وقال السرخسي: وعلى هذا الأصل- أي: توجيه إيقاع الثلاث في ثلاثة أطهار - قال علماؤنا رحمهم الله: إيقاع الثلاث جملة بدعة.
وبعد أن ساق مذهب الشافعي في إباحته وأدلته (2) ، ساق الدليل على تحريمه، وهو قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) قال: معناه: دفعتان، كقوله: أعطيته مرتين، وضربته مرتين، والألف واللام للجنس، فيقتضي
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2)
[المبسوط](6\4) وما بعدها، ويرجع أيضا إلى [فتح القدير] ، (3\ 26) وما بعدها.
(3)
سورة البقرة الآية 229
أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين، ودفعة ثالثة في قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} (1) أو في قوله عز وجل: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير، وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى:«أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا. فقال: أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم (3) » .
واللعب بكتاب الله: ترك العمل به، فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب، وأن المراد من قوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة، ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة؟ وفائدته: التفريق، فإنه قال:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (5) أي: يبدو له فيراجعها، وذلك عند التفريق لا عند الجمع.
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه «أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن أبانا طلق امرأته ألفا. فقال صلى الله عليه وسلم: بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة» .
وإن «ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته في حالة الحيض، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فقال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت
(1) سورة البقرة الآية 230
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سنن النسائي الطلاق (3401) .
(4)
سورة الطلاق الآية 1
(5)
سورة الطلاق الآية 1
تحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، بانت منك وهي معصية (1) » .
وبعد أن بين وجه الرد على استدلال الشافعي رحمه الله بقصة لعان عويمر العجلاني، وأنه طلق ثلاثا ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم قال: ولنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عن علي، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم: كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة.
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة، إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه، مهلا مهلا بارك الله عليكم، فيكم كتاب الله وسنة رسوله، فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة؟
قال الكرخي: لا أعرف بين أهل العلم خلافا: أن إيقاع الثلاث جملة مكروه، إلا قول ابن سيرين، وإن قوله ليس بحجة.
ثم ساق الرد على ما استدل به الشافعي من الآثار، ثم ذكر بعد ذلك دليلا من جهة المعنى، وقد سبق ما يوافقه عن الكاساني.
وقال الطحاوي (2) : حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، وحميد الأعرج، عن مجاهد: أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك
(1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2179) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(2)
[شرح معاني الآثار](2\30) .
لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، من يتق الله يجعل له مخرجا، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1)
المذهب المالكي:
أما المذهب المالكي فهذه بعض نقول عنه:
قال سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته ثلاث تطليقات في مجلس واحد؟ قال: نعم، كان يكرهه أشد الكراهية (2) .
وقال محمد بن أحمد بن رشد: وكذلك لا يجوز عند مالك أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه ذلك، بدليل قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (3) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (4) وهي: الرجعة، فجلعها فائتة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة، إذ لو لم يقع ولم يلزمه لم تفته الزوجة، ولا كان ظالما لنفسه (5) انتهى المقصود.
وقال الباجي (6) : فأما العدد فإنه لا يحل أن يوقع أكثر من طلقة واحدة، فمن أوقع طلقتين أو ثلاثا فقد طلق بغير سنة. . . والدليل على ما نقوله قوله
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2)
[المدونة](2\66) .
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة الطلاق الآية 1
(5)
[المقدمات] وهي مع [المدونة](2\78) .
(6)
[المنتقى](4\3) .
تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1)
ولا يخلو أن يكون أمرا بصفة الطلاق، والأمر يقتضي الوجوب، أو يكون إخبارا عن صفة الطلاق الشرعي، ومن أصحابنا من قال: إن الألف واللام تكون للحصر، وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشرعي على غير هذا الوجه.
فإن قيل: المراد بذلك الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وأن ما زاد عليه ليس برجعي، قالوا: يدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) ثم أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكم الطلقتين، فقال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) وإذا كان المراد ما ذكرناه من الإخبار عن الطلاق الرجعي لم يدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الرجعي دون غيره.
فالجواب: أن هذا أمر أضمر في الكلام مع استقلاله دونه بغير دليل؛ لأنكم تضمرون الرجعي، وتقولون: معناه: الطلاق الرجعي مرتان، وإذا استقل الكلام دون ضمير لم يجز تعديها إلا بدليل.
وجواب ثان: وهو: أنه لو أراد الإخبار عما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان؛ لأن ذلك يقتضي أنه الطلاق الرجعي أوقعهن مجتمعتين أو مفترقتين، فلما قال:{مَرَّتَانِ} (4) - ولا يكون ذلك إلا لإيقاع الطلاق مفترقا-
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة البقرة الآية 230
(4)
سورة البقرة الآية 229
ثبت أنه قصد الإخبار عن صفة إيقاعه، لا الإخبار عن عدد الرجعي منه.
فإن قالوا: إن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل، يدل على ذلك قوله تعالى:{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) ولم يرد في تفريق الأجر، وإنما أراد تضعيف العدد.
فالجواب: أن قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (2) حقيقة فيما ذكرناه من تكرار الفعل دون العدد، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على فعل أو اسم، يدل على ذلك أنك تقول: لقيت فلانا مرتين، فيقتضي تكرار الفعل، وكذلك قوله: دخلت مصر مرتين، فإذا كان ذلك أصله وحقيقته ودل الدليل في بعض المواضع على العدول به عن حقيقته واستعماله في غير ما وضع له- لم يجز حمله على ذلك في موضع آخر إلا بدليل.
وجواب آخر: وهو أن الفضل قال: معنى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (3)(مرة بعد مرة في الجنة) . فعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه، ولا عدل به عن حقيقته.
وإن قلنا: إن معناه: التضعيف في ماله وأجره: فالفرق بينهما: أن قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (4) يفيد التضعيف، ويمنع الاقتصار على ضعف واحد، ولو كان معنى قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) يريد به: التضعيف، لمنع من إيقاع طلقة واحدة، وإلا بطل معنى التضعيف، وهذا باطل باتفاقنا.
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2)
سورة الأحزاب الآية 31
(3)
سورة الأحزاب الآية 31
(4)
سورة الأحزاب الآية 31
(5)
سورة البقرة الآية 229
ودليلنا من جهة السنة: ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقال: فعلته لاعبا؟ ثم قال: تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله (1) » ؟ !
ودليلنا من جهة القياس: أن هذا معنى ذو عدد يقتضي البينونة فوجب تحريمه كاللعان.
أما مذهب الحنابلة: فقد قال ابن قدامة: والرواية الثانية: أن جمع الثلاث طلاق بدعة محرم، اختارها أبو بكر وأبو حفص، روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة.
قال علي رضي الله عنه: لا يطلق أحد للسنة فيندم، وفي رواية قال: يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا.
وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس قال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان، فلم يجعل الله له مخرجا.
ووجه ذلك: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (2) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3)
(1) سنن النسائي الطلاق (3401) .
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
سورة الطلاق الآية 1
ثم قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث، ولا يجعل الله له مخرجا، ولا من أمره يسرا، وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد، وقد سبق في استدلال المالكية، وفي حديث ابن عمر قال:«قلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ قال: إذا عصيت ربك، وبانت منك امرأتك (3) » .
وروى الدارقطني بإسناده، عن علي قال:«سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: تتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» .
ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة، فحرم كالظهار، بل هذا أولى؛ لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير، وهذا لا سبيل للزوج إلى رفعه بحال، ولأنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة، فيدخل في عموم النهي، وربما كان وسيلة إلى عودة إليها حراما أو بحيلة لا تزيل التحريم، ووقوع الندم، وخسارة الدنيا والآخرة، فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة، أو الطلاق في طهر مسها فيه، الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل، فإن ضرر جمع
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2)
سورة الطلاق الآية 4
(3)
سنن النسائي الطلاق (3557) ، مسند أحمد بن حنبل (2/6) .
الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة، فالتحريم ثم تنبيه على التحريم هاهنا.
ولأنه قول من سمينا من الصحابة، رواه الأثرم وغيره، ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم، فيكون ذلك إجماعا (1) .
وقال شيخ الإسلام: وأما جمع (الطلقات الثلاث) ففيه قولان:
القول الأول: محرم أيضا عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، واختاره أكثر أصحابه، وقال أحمد: تدبرت القرآن، فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي- يعني: طلاق المدخول بها- غير قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2)
وعلى هذا القول: فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلقها في كل طهر طلقة؟
فيه قولان، هما روايتان عن أحمد.
إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة.
والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه؟ كأبي بكر عبد العزيز، والقاضي أبي يعلى وأصحابه.
(1)[المغني مع الشرح الكبير](8\240، 241)
(2)
سورة البقرة الآية 230