الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
شفعة غير المسلم
اتفق الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي على القول بجواز شفعة غير المسلم على المسلم.
قال السرخسي: والذكر والأنثى، والحر والمملوك، والمسلم والكافر في حق الشفعة سواء؛ لأنه من المعاملات، وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء. وثبوت الحكم بثبوت سببه. اهـ (1) .
وفي [المدونة] ما نصه: قيل لابن القاسم: هل لأهل الذمة شفعة في قول مالك؟ فقال: سألت مالكا عن المسلم والنصراني تكون الدار بينهما فيبيع المسلم نصيبه، هل للنصراني فيه شفعة؟ قال: نعم، أرى ذلك له مثل ما لو كان شريكه مسلما. اهـ (2) .
وقال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن كان له شريك» فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي، فتثبت للذمي الشفعة على المسلم، كما تثبت للمسلم على الذمي، هذا قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، والجمهور. اهـ (3) .
وانفراد الإمام أحمد رحمه الله عنهم بمنع شفعة الكافر على المسلم؛ لأن تسليط الكافر على المسلم يعتبر سبيلا إليه، قال تعالى:
(1)[المبسوط](14\99) .
(2)
[المدونة](5\399) .
(3)
[شرح صحيح مسلم](11\46) .
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1)
قال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي: (ولا شفعة لكافر على مسلم) : وجملة ذلك: أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه، روي ذلك عن الحسن والشعبي، وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز: أن له الشفعة، وبه قال النخعي، وإياس بن معاوية، وحماد بن أبي سليمان، والثوري، ومالك، والشافعي، والعنبري، وأصحاب الرأي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به (2) » ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب.
ولنا: ما روى الدارقطني في كتاب [العلل] بإسناده عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا شفعة لنصراني» وهذا يخص عموم ما احتجوا به، ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص، فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة، ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه، فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي، فإن حق المسلم أرجح، ورعايته أولى؛ ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم، وليس الذمي في معنى المسلم، فيبقى فيه على مقتضى
(1) سورة النساء الآية 141
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
الأصل اهـ (1) .
وقد نصر ابن القيم رحمه الله القول بنفي شفعة الكافر على المسلم، وناقش القائلين بثبوتها، ورد عليهم قولهم، فقال ما نصه: ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم، وأخذ بذلك الإمام أحمد، وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة؛ لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم، وهذا خلاف الأصول.
والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم؛ كإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه، أو يخطب على خطبته، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة؟ قال: لا. وكذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم كلهم عنه: ليس للذمي شفعة، زاد أبو الحارث: مع المسلم، قال الأثرم: قيل له: لم؟ قال: لأنه ليس له مثل حق المسلم واحتج فيه.
قال الأثرم: ثنا الطباع، ثنا هشيم، أخبرنا الشيباني عن الشعبي: أنه كان يقول: ليس لذمي شفعة. وقال سفيان عن حميد عن أبيه: إنما الشفعة لمسلم، ولا شفعة لذمي. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن ليث، عن مجاهد أنه قال: ليس ليهودي ولا لنصراني
(1)[المغني](5\320، 321) .
شفعة. وقال الخلال: أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي، قال: ليس لذمي شفعة، ليس له حق المسلم. أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة، إنما ذلك للمسلمين بينهم. وقال في رواية إسحاق بن منصور: ليس لليهودي والنصراني شفعة، قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (1) » وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي.
واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج:
إحداها: أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فلا حق للذمي فيها. ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك.
الحجة الثانية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (2) » وتقرير الاستدلال من هذا: أنه لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا؟! بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا.
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (3) » .
ووجه الاستدلال من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإخراجهم من أرضهم
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007) ، موطأ مالك الجامع (1651) .
(2)
سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبو داود الأدب (5205) .
(3)
سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007) ، موطأ مالك الجامع (1651) .
ونقلها إلى المسلمين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها!؟ وأيضا فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان، يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به، فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم منه قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم؟! فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا؟! وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري، فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق الذمي على حق المسلم، وهذا ممتنع، وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارا بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه، وهذا خلاف قواعد الشرع؛ ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن، ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين ولا حد القذف، ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم، وقد قال الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1) ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا، وقد قال تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (2) .
إلى أن قال: وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم
(1) سورة النساء الآية 141
(2)
سورة الحشر الآية 20
بإخراجهم من جزيرة العرب، وقال:«لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب (1) » هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا؛ ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم.
إلى أن قال: وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله، ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات، كقوله «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم (2) » وقوله:«من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (3) » ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق، وإنما سيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك (4) من أهل الملة وغيرهم، وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا.
ثم ذكر مجموعة من الأحكام يختلف فيها المسلم عن الكافر.
ثم قال: وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة، وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه؟ إلى آخر ما ذكره (5) .
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1606) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/29) .
(2)
صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(3)
صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(4)
كذا في المطبوع، ولعل الصواب: الملاك.
(5)
[أحكام أهل الذمة](1\291 -299) .