الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجوز إلا بإذن الشارع. . وليس كذلك، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته (1) » ، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد. . . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط ما كان حراما، وأما ما كان مباحا بدون الشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن.
ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا للمقصود من العقد، وهذا طبيعي، وإلا إذا كان مناقضا للشرع فيحل حراما، وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط الذي يخالف القانون أو النظام العام. ولم يعرض ابن تيمية لتحريم اجتماع الشرطين ولا لتحريم اجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف، ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث.
(1) صحيح البخاري الفرائض (6756) ، صحيح مسلم العتق (1506) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2126) ، سنن النسائي البيوع (4657) ، سنن أبو داود الفرائض (2919) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، موطأ مالك العتق والولاء (1522) ، سنن الدارمي البيوع (2572) .
مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد:
مقارنة إجمالية:
يتبين مما قدمناه: أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:
1 -
قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فلا يبيح
إلا شرطا اقتضاه العقد، أو لاءم العقد، أو جرى به التعامل، وهذان هما: المذهب الحنفي والمذهب الشافعي.
2 -
وقسم يتوسع في تصحيح الشروط، ولا يلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فيبيح الشروط ما لم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع، وهذان هما: المذهب المالكي، والمذهب الحنبلي.
فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساسا من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون- أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول، على أنه يبدو لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية- هو أكثر المذاهب تقدما من ناحية تنسيق الصناعة القانونية، فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى.
مقارنة تفصيلية:
على أن هناك فروقا تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمها القسم الأول، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمها القسم الثاني.
فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي: يبيحان جميعا الشرط الذي يقتضيه العقد، ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان، ومذهب الشافعي يبيحه
أصلا لا استثناء. ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بإفساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل، ويبيحه استحسانا كذلك، فيدخل العرف من هذا الباب عنصرا مرنا يطور الفقه الإسلامي، أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحا، إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد، ولكن مذهب الشافعي - من جهة أخرى - يصحح شروطا لا يصححها المذهب الحنفي، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك، وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش.
أما المذهبان المالكي والحنبلي: فيصدران جميعا عن مبدأ واحد وهو: أن الأصل في الشروط الصحة، والفساد هو الاستثناء، فينبذان بذلك إلى حد كبير مبدأ وحدة الصفقة، وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال:(وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه) ، فيجوز في مذهب أحمد مثلا، أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج، وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.
ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة، وإنما هو في الشروط الفاسدة، على أننا إذا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية لما كان يتميز عن المذهب المالكي في ذلك، ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضا لمقتضى العقد، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف، فيخل الشرط بالثمن، كما يقول المذهب المالكي، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي، وفي هذا النوع الثاني من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثرا لمبدأ وحدة الصفقة، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره، بل إن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد.
أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية فإننا نراه يتقدم تقدما كبيرا في التطور، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة، فلا يكون الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا لمقتضى العقد، أو إلا إذا كان مناقضا للشرع. اهـ.
ويمكننا على ضوء ما تقدم من تقسيم الشروط في العقود إلى: صحيح وفاسد- أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحة في العقود أم
من الفاسدة؟ وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه؟
لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله: أن الشروط في العقود قسمان: صحيح وفاسد.
أما الصحيح فثلاثة أنواع:
أحدها: شرط يقتضيه العقد؛ كالتقابض، وحلول الثمن، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقق العقد بدونه.
الثاني: شرط من مصلحة العقد؛ كاشتراط صفة في الثمن؛ كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به، أو صفة في المثمن؛ ككون العبد خصيا أو مسلما، والأمة بكرا، والدابة هملاجة، وحكمه: أنه صحيح وأن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع، وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان:
الأول: أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش، وهو الصحيح من المذهب.
والثاني: أنه ليس له إلا الفسخ.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد؛ لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه ومساعد له على الوفاء بشرطه، فكان شبيها باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه، وإذن يصح الشرط ويلزم الوفاء به، فإن لم يف وتعذر استدراك ما
فات تعين لمن اشترط شرطا جزائيا الأرش، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه.
الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، وليس منافيا لمقتضاه؟ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا، أو اشتراط المشتري خياطة الثوب، وفي حكمه خلاف: قيل: يصح وقيل: لا يصح، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط، فهو مرتبط بالعقد حيث إنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالالتزام.
وأما الفاسدة فثلاثة أنواع:
أحدها: أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر؛ كبيع أو إجارة أو نحو ذلك- فهذا الشرط غير صحيح، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط؟ قولان لأهل العلم: أشهرها: القول ببطلان العقد لبطلان الشرط؟ لكونه من قبيل بيعتين في بيعة المنهي عنها، وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها:«حديث عائشة، حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتريها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق (1) » متفق عليه، فصحح الشراء مع إبطال الشرط.
ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة
(1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
عليها، وتوجيه ذلك: أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضة مغاير للعقد الأصلي، فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها، ويمكن أن يرد هذا: بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر، فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا.
الثاني: من الشروط الفاسدة: شرط ينافي مقتضى العقد، كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق، فهذه الشروط باطلة، وهل تبطل العقود المشتملة عليها؟ قولان لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: لا يبطل العقد، وهو المذهب، اختاره في [المغني] ، ونصره في [الشرح] ، وجزم به في [الوجيز] ، وقدمه في [الفروع] ؛ لحديث بريرة، وإذا ألغي الشرط لبطلانه كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن.
وقيل: ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له.
ويمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط، لأنه منافاة بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه.
الثالث: من الشروط الفاسدة: شرط يعلق به العقد، كقوله: بعتك إن
جئتني بكذا أو إن رضي فلان، أو بقول الراهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك، فلا يصح المبيع، وهذا هو المذهب؛ لأن مقتضى العقد انعقاد البيع، وهذا الشرط يمنعه، وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لم يخالف نصا، ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط، باعتباره عقد معاوضة مستقلا، وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضة معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي، فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط، إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه؛ لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهونا بوجود الشرط، وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضة مستقلا معلقا نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي؛ ذلك لأن النص في عقد المقاولة مثلا بعبارة:(إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا) يعتبر عقدا يشبه في الجملة عقد الرهن المتضمن قول الراهن: (إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك) ويمكن أن يرد على هذا: بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر، فليس من قبيل: بعتك على أن تقرضني أو تؤجرني أو تزوجني؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا.
ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط، وكان ذلك مثار خلاف بين
أئمة الفقهاء:
أ- بيع العربون: وهو: أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع.
وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع، واختلفوا فيه على قولين:
فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه.
قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله (1) : والعربون في البيع هو: أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع، يقال: عربون وأربون وعربان وأربان، قال أحمد: لا بأس به، وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، وقال أحمد: هذا في معناه.
واختار أبو الخطاب: أنه لا يصح، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العربون) » رواه ابن ماجه، ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد
(1)[المغني] ، (4\ 232\ 233) طبعة المنار.
المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما، وهذا هو القياس، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث:(أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا) قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه، قال: (أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه ، وضعف الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم بإسناده.
فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال: (لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك) ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ، وحسب الدرهم من الثمن- صح؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه، فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم؛ لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه، ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله؛ لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. اهـ.
وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين، ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون - فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه (1) .
(1)[مصادر الحق في الفقه الإسلامي] ، (2\ 101، 102) .
ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي:
إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون؛ ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.
إن أحمد يجيز بيع العربون، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر، وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي: أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا. قال أحمد: هذا في معناه.
ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار. اهـ.
ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك.
ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي:
أولا: في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن: عبد الرحمن بن فروخ السعد مولى عمر، وهو مجهول العين؛ لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار؛ ولذا ترك مسلم الرواية عنه في [صحيحه] ، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات، اللهم إلا أن يقال: إن الشهرة تقوم مقام راو آخر، ذكر معنى ذلك ابن حجر في [تهذيب التهذيب] ، عن الحاكم.
ثانيا: هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلا بين نافع وصفوان، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه.
ثالثا: دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا- تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال: إن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب، بل هو مجتهد مطلق، ويرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية.
رابعا: ذكر الأستاذ السنهوري: أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضا عنه، هذا محل نظر، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله.
خامسا: لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة، فكان شبهه بالخيار المجهول ثابتا.
ب- مسألة: ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له: (إن خطته اليوم فبعشرة، أو خطته غدا فبتسعة) ، فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله، ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي فقد قال ما نصه:
قوله: إن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح؟ على روايتين: وأطلقهما في [الهداية] و [المذهب] ، و [المستوعب] ، و [الخلاصة] ، و [المغني] ، و [الشرح] ، و [الفائق] ، و [شرح ابن منجا] ، و [الحاوي الصغير]، إحداهما: لا يصح، وهو المذهب، والرواية الثانية: يصح وقدمه في [الرعايتين] ، اهـ (1) .
ج- مسألة: ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال: (إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة)، فقال أحمد في رواية عبد الله: لا بأس به، قال في [الفائق] : صح في الروايتين وجزم في [الوجيز] والمذهب، وقدمه في [الرعايتين] ، و [الخلاصة] ، و [الحاوي الصغير] ، و [النظم](2) .
فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين (ب، ج) يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كامل الأجرة جزاء التأخير، وهذا يشبهه الشرط
(1)[الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف] ، (6\ 18) .
(2)
المرجع السابق (6\ 20) .
الجزائي من حيث إن كلا منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفا في مبدأ العقد.
وقد يرد على ذلك: بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملا على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة، وإنما هو عقد تخييري لحالين، أي: حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة.
د- مسألة: ما إذا قال: (من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا) فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلا فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئا؟
هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في [المغني]، فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل: وإن علقه بمدة معلولة فقال: (من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار)، أو (من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم) صح؛ لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى. . . إلى أن قال: فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل، ولا يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له. اهـ (1) .
وذكرها البهوتي رحمه الله في [الكشاف]، فقال:
ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة، كأن يقول: (من خاط لي هذا
(1)[المغني] ، (6\ 28) مطبعة الإمام.
الثوب في يوم فله كذا، فإن أتي به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له) اهـ (1) .
فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل، ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير، وعليه فيمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث إن استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير.
هـ- المسألة التي حكم فيها القاضي شريح: والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها: روى البخاري في [صحيحه]، بسنده عن ابن سيرين: أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرجوا فقال شريح:(من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه) اهـ.
فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية.
ويمكن أن يقال: بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سدا لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسببا من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود؛ تحقيقا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2)
(1)[كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (4\ 173) .
(2)
سورة المائدة الآية 1
هذا ومن الجدير بالذكر: أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط، وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك، وأقربها إلى قوة الدليل، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى؛ كالمذهب الحنفي والشافعي، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد، فبهذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط، فيعد من الشروط الصحيحة.
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق. وصلى على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع
…
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (25) وتاريخ 31\ 8\ 1394هـ.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28\ 10 و 14\ 11 \ 1393\هـ من الرغبة في دراسة موضوع (الشرط الجزائي) - فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة، المنعقدة فيما بين 5 و 22\ 8 \ 1394 هـ في مدينة الطائف.
ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد مداولة الرأي والمناقشة، واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي، ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه، وتأمل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (2) » ولقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) والاعتماد على القول الصحيح: من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا
(1) سورة المائدة الآية 1
(2)
سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
أو قياسا.
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى:
صحيحة، وفاسدة، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع: أحدها: شرط يقتضيه العقد؛ كاشتراط التقابض، وحلول الثمن.
الثاني: شرط من مصلحة العقد؛ كاشتراط صفة في الثمن؛ كالتأجيل، أو الرهن، أو الكفيل به، أو صفة في المثمن، ككون الأمة بكرا.
الثالث: شرط فيه منفعة معلومة، وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولا منافيا لمقتضاه؛ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا.
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع:
أحدها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر؛ كبيع، أو إجارة، أو نحو ذلك.
الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد، كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه، أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق.
الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد، كقوله: بعتك إن جاء فلان.
وبتطبيق الشرط الجزائي عليها، وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد، إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له، والاستئناس بما رواه البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين: أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم
فلم يخرج، فقال شريح:(من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه) .
وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلا باع طعاما وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ، فقال شريح للمشتري:(أنت أخلفت) فقضى عليه، وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام، حيث إن الإخلال به مظنة الضرر، وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود؟ تحقيقا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1)
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع:
أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعا، فيكون العذر مسقطا لوجوبه حتى يزول.
وإذا كان الشرط الجزائي كثيرا عرفا، بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيدا عن مقتضى القواعد الشرعية- فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف، على حسب ما فات من منفعة، أو لحق من مضرة.
ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر؛ عملا بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) وقوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (3)
(1) سورة المائدة الآية 1
(2)
سورة النساء الآية 58
(3)
سورة المائدة الآية 8
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد
…
عبد الله خياط
…
عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان
…
عبد المجيد حسن
…
عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
…
سليمان بن عبيد
محمد بن جبير
…
عبد الله بن غديان
…
راشد بن خنين
…
صالح بن لحيدان
…
عبد الله بن منيع
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .