الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني: على المرأة الخائفة - نشوز بعلها أو إعراضه عنها {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (1) وهو: أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح، يقول:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) يعني: والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والطلاق. . .
ثم قال: وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ثم ذكر رحمه الله مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وابن عباس، ورافع بن خديج، وعبيدة، وإبراهيم، وقتادة، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وابن زيد (3) .
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
سورة النساء الآية 128
(3)
انظر: [جامع البيان](9 \ 267، 278)(تحقيق \ محمود وأحمد شاكر) .
باب مصالحة المرأة زوجها
قال الجصاص: قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (1)
قيل في معنى النشوز: إنه الترفع عليها لبغضه إياها، مأخوذ من نشز الأرض، وهي: المرتفعة، وقوله {أَوْ إِعْرَاضًا} (2) يعني: لموجدة أو أثرة، فأباح الله لهما الصلح.
فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
سورة النساء الآية 128
مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها. وقال عمر: ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية: الآية، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز (2) » .
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي، فذلك قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (3) إلى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (4)
وعن عائشة من طرق كثيرة: «أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به لها (5) » ، قال أبو بكر: فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة.
وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة، وأباح الله أن تترك حقها من القسم، وأن تجعله لغيرها من نسائه، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية، إلا أنه إنما يجوز لها
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) .
(2)
سورة النساء الآية 128 (1){وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
(3)
سورة النساء الآية 128
(4)
سورة النساء الآية 128
(5)
صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2594) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، سنن أبو داود النكاح (2138) ، سنن ابن ماجه النكاح (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) ، سنن الدارمي الجهاد (2423) .
إسقاط ما وجب من النفقة للماضي، فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها.
فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا، ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء؟ لأن ذلك أكل مال بالباطل، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه؛ لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح، وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد.
فإن قيل: فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة، قيل له: لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة، والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها.
وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه، أو بعضه أو على الزيادة عليه؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه، وقوله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1)
قال بعض أهل العلم: يعني: خير من الإعراض والنشوز، وقال آخرون: من الفرقة، وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر
(1) سورة النساء الآية 128
الأشياء إلا ما خصه الدليل. اهـ (1) .
وقال القرطبي: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2) فيه مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} (3) رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده، و {خَافَتْ} (4) بمعنى: توقعت، وقول من قال:{خَافَتْ} (5) تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى: وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز: التباعد، والإعراض: أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة، روى الترمذي عن ابن عباس قال:«خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة، ففعل فنزلت: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز (7) » ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره،
(1)[أحكام القرآن] ، (2 \ 345، 346) المطبعة البهية بمصر.
(2)
سورة النساء الآية 128
(3)
سورة النساء الآية 128
(4)
سورة النساء الآية 128
(5)
سورة النساء الآية 128
(6)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) .
(7)
سورة النساء الآية 128 (6){فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (1)
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (2) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية، وقراءة العامة أن يصالحا.
وقرأ أكثر الكوفيين {أَنْ يُصْلِحَا} (3)
وقرأ الجحدري وعثمان البتي {أَنْ يُصْلِحَا} (4) والمعنى: يصطلحا ثم أدغم.
الثانية: في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ سباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها.
قال ابن أبي مليكة: «إن سودة بنت زمعة لما أسنت، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل صلى الله عليه وسلم وماتت وهي من أزواجه (5) » .
قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة: روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها، حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت: إنما بقيت
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
سورة النساء الآية 128
(3)
سورة النساء الآية 128
(4)
سورة النساء الآية 128
(5)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) .
واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك، قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه، وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1)
قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم: (فآثر الشابة عليها) : يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع. والله أعلم. .
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه.
وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة: أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه،
(1) سورة النساء الآية 128
وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم.
الثالثة: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء - فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وهبت يومي لك (1) » ، ذكره ابن خويز منداد عن عائشة اهـ (2)
فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين، فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فلا جناح عليهما فيما افتدت به، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ، عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها، قال تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3)
قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (4)
(1) سنن أبو داود السنة (4602) ، مسند أحمد بن حنبل (6/338) .
(2)
[تفسير القرطبي](5 \ 403 وما بعده) .
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة البقرة الآية 229
ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن -لطلاقكم وفراقكم إياهن- شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة، وغير ذلك مما يجب لهن عليكم {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (1)
إلى أن قال: فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟
قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له. . .
ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها، ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها.
ومن ذلك قوله: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: «نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، قال: وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ويطيب
(1) سورة البقرة الآية 229
لي ذلك؟ قال: نعم، قال ثابت: قد فعلت فنزلت: (2) » اهـ (3) .
وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (4)
وذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها: أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج.
ومنها: أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم.
ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين.
ثم قال: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (5) قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق، وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين؛ إما
(1) سنن ابن ماجه الطلاق (2057) .
(2)
(3)
[جامع البيان](4\ 549) وما بعدها.
(4)
سورة النساء الآية 19
(5)
سورة النساء الآية 19
لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه إنكاحها، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما، وكان الوالي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا، فيقال: إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه. . .
إلى أن قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) يعني بذلك جل ثناؤه: لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم.
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
سورة النساء الآية 19
ثم ذكر رحمه الله أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة:
فذكر آثارا بأسانيدها إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي: أن المقصود بالفاحشة: الزنا.
وذكر آثارا أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم، والضحاك بن مزاحم، وقتادة وعطاء بن أبي رباح، أن المقصود بالفاحشة النشوز، ثم قال: وأولى ما قيل في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) أنه معني به: كل فاحشة، من بذاء باللسان على زوجها، وأذى له، وزنا بفرجها، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) كل فاحشة متبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
سورة النساء الآية 19
الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي حدثني يونس بن سليمان البصري قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (1) » .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا يزيد بن الحباب قال: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في المعروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» .
فأخبر صلى الله عليه وسلم: أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا، وأن لا تعصيه في معروف، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم: أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حقكم عليهن أن لا يوطئن
(1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
فرشكم أحدا (1) » إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم.
وإذا ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه -أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف، وإذا كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها -بمنعه إياها ما له منعها- حقا لها واجبا عليه، وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح، وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2)
وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) منسوخ بالحدود؛ لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له، وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: لا يحل لكم، أيها الذين آمنوا، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (4) من صدقاتكم {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} (5)
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2)
سورة النساء الآية 19
(3)
سورة النساء الآية 19
(4)
سورة النساء الآية 19
(5)
سورة النساء الآية 19
من زنا أو بذاء عليكم، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم -مبينة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به اهـ (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص (2) وأبو بكر بن العربي (3) ، والقرطبي (4) ، نحوا مما ذكره ابن جرير في الموضوع.
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ} (6) أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (7) يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر {قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (8) يقول: فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن. . . . . {أَتَأْخُذُونَهُ} (9) أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن {بُهْتَانًا} (10) يقول: ظلما بغير حق {وَإِثْمًا مُبِينًا} (11) يعني: وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم. . {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} (12) وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (13)
(1)[تفسير ابن جرير الطبري](8\ 110) وما بعدها. (تحقيق\ محمود وأحمد شاكر) .
(2)
[أحكام القرآن] للجصاص (1\ 109- 111) .
(3)
[أحكام القرآن] لابن العربي (1\ 151- 154) .
(4)
[أحكام القرآن] للقرطبي (5\ 99- 101) .
(5)
سورة النساء الآية 20
(6)
سورة النساء الآية 20
(7)
سورة النساء الآية 20
(8)
سورة النساء الآية 20
(9)
سورة النساء الآية 20
(10)
سورة النساء الآية 20
(11)
سورة النساء الآية 20
(12)
سورة النساء الآية 21
(13)
سورة النساء الآية 21
فتباشرتم وتلامستم.
وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ على معنى التهديد والوعيد.
ثم قال بعد ذلك: واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ.
فقال بعضهم: محكم، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق.
وقال آخرون: هي محكمة، وغير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو، وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكرا عن المختلعة، أيأخذ منها شيئا؟ قال: لا، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (1)
وقال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2)
ذكر من قال ذلك:
(1) سورة النساء الآية 21
(2)
سورة البقرة الآية 229
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (1) إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (2) قال: ثم رخص بعد فقال: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3) قال: فنسخت هذه تلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها.
وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفى خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا، وليس في قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (4) نفي حكم قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (5) ؛ لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (6) أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها. وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (7) فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع.
(1) سورة النساء الآية 20
(2)
سورة النساء الآية 21
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة النساء الآية 20
(5)
سورة البقرة الآية 229
(6)
سورة النساء الآية 20
(7)
سورة البقرة الآية 229
وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم لإحداها بأنها ناسخة وللأخرى بأنها منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها، وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني -من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره- فليس بصواب؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقها إذ طلبت فراقه، وكان النشوز من قبلها. اهـ (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص وأبو بكر بن العربي والقرطبي نحوا مما ذكره ابن جرير في تفسير هذه الآية.
وقال السمرقندي: إن كان النشوز من جهة الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها، بل له أن يطلقها بلا عوض؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (2) .
(1)[تفسير ابن جرير] الطبري (8\123-132) تحقيق\ محمود وأحمد شاكر.
(2)
سورة النساء الآية 20
في معرض الكلام عن الخلع:
وقال محمد بن رشد في معرض الكلام على الخلع:
وإن كرهها فارقها، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه، وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء؛ لقول الله عز وجل:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1){وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (2)
هذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وجميع أصحابه، لا اختلاف بينهم فيه.
ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه؛ لقول الله عز وجل: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هاهنا، وجعل الاستثناء متصلا.
ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة: البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عليه وبذأت بلسانها، عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه، ومنهم من حمل الفاحشة على العموم، فأباح ذلك للزوج، سواء كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت.
والصحيح: ما ذهب إليه مالك رحمه الله؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن
(1) سورة النساء الآية 20
(2)
سورة النساء الآية 21
(3)
سورة النساء الآية 19
طيب نفسها، فقال تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1)
والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه، وتشتم عرضه، وتخالف أمره؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة، فهي من جهة النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل، فمعنى الآية: لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، معناه: إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق، فعلى هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض، وقد قيل في تأويل الآية غير هذا، وهذا أحسن، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها، وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وليس قوله مخالفا لما حكيناه عن مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى: من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها، فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع ما إذا كره كل واحد منهما صاحبه، وخاف هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة بها نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها.
(1) سورة النساء الآية 4
وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالهما وفرقتم بينهما، فالاختلاف بينه وبين ابن بكير إنما هو في تأويل الآية، لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه لا اختلاف في المذهب: أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه؛ لقول الله عز وجل:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (1) وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع، فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا؛ لقول الله عز وجل:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (2) فإن هي بذلت له على ألف حل له أن يقبله، إذا لم يتعد أمر الله فيها (3) . اهـ المقصود.
وقال الشيرازي: وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
سورة النساء الآية 34
(3)
الموجود في المطبوع المنقول عنه (إذا لم يتعد أمر فيها الله) وهو ظاهر الخطأ.
كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز؛ لقوله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (1) قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يحل للرجل أن يعضل المرأة ويضيق عليها حتى تعطيه الصداق أو بعضه، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه. اهـ (3) .
أما إذا كان النشوز من الزوجة، فإن لزوجها حق وعظها، فإن لم يجد الوعظ كان له حق هجرها، فإن لم يفد الهجر كان له ضربها ضربا غير مبرح، فإن لم يجد ذلك كان له عضلها حتى تفتدي نفسها منه ببذلها ما آتاها أو بعضه لقاء تطليقه إياها؛ لأنها باستمرارها على النشوز أتت فاحشة مبينة تبيح للزوج عضلها ليأخذ منها ما آتاها أو بعضه، قال تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (4) وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (5)
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
[المهذب](2\ 70) مطبعة الحلبي.
(3)
[مختصر الفتاوى المصرية] ص 446.
(4)
سورة النساء الآية 34
(5)
سورة النساء الآية 19
قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية: قول سعيد بن جبير قال: يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع. اهـ (1) .
وقد سبق بعض الكلام على الحال التي تجيز للزوج أن يعضل امرأته لتفتدي نفسها منه، وذلك عند الاستدلال بقوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) وبقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (3) على تحريم عضل الزوج امرأته لتفتدي منه.
وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل التأويل في معنى الخوف ألا يقيما حدود الله:
الأول: أن المراد بذلك: أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.
وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى ابن عباس وعروة وجابر بن زيد وهشام بن عروة وغيرهم.
الثاني: أن المراد بالخوف من ذلك ألا تبر له قسما ولا تطيع له أمرا وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا، فحينئذ يحل له عندهم
(1)[أحكام القرآن](1\ 175، 176) الطبعة الأولى.
(2)
سورة النساء الآية 19
(3)
سورة البقرة الآية 229
أخذ ما آتاها على فراقه إياها، ثم ذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي ومجاهد.
الثالث: أن المراد بالخوف من ذلك: أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة، ثم ذكر ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح.
والرابع: أن الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صاحبه الآخر.
وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الشعبي وطاووس والحسن، ثم اختار هذا القول، وذكر توجيه اختياره إياه (1) .
فصل: وقال الكاساني: ومنها: التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، فلعلها تقبل الموعظة فتترك النشوز، فإن نجحت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها، وقيل: يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة، فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر.
(1)[تفسير ابن جرير الطبري](4\ 549) وما بعدها.
ثم اختلف في كيفية الهجر:
قيل: يهجرها بأن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه.
وقيل: يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها؛ لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر نفسه ويبطل حقه.
وقيل: يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها؛ لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع.
وقيل: يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها؛ لأن هذا للتأديب والزجر، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها.
فإذا هجرها فإن تركت النشوز وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا شائن، والأصل فيه قوله عز وجل:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (1) وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو تحتمل، فإن نفع الضرب وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين، حكما من أهله وحكما من أهلها، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (2) وسبيل هذا سبيل الأمر بالمعروف والنهي
(1) سورة النساء الآية 34
(2)
سورة النساء الآية 35
عن المنكر في حق سائر الناس، أن الأمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول، فإن قبلت وإلا غلظ القول به، فإن قبلت وإلا بسط يده فيه، وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر، فللزوج أن يؤدبها تعزيرا؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للولي أن يعزر مملوكه (1) .
وقال الشافعي: وأشبه ما سمعت - والله أعلم- في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (2) أن لخوف النشوز دلائل، فإذا كانت {فَعِظُوهُنَّ} (3) لأن العظة مباحة، فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل فاهجروهن في المضاجع، فإن أقمن بذلك على ذلك فاضربوهن، وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع وهو منهي عنه ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما. . . قال: ويحتمل في {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (4) إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب.
قال: ولا يبلغ في الضرب حدا ولا يكون مبرحا ولا مدميا ويتوقى فيه الوجه. . . قال: ويهجرها في المضجع، حتى ترجع عن النشوز ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا؛ لأن الله عز وجل إنما أباح الهجرة في المضجع، والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة الكلام، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا، قال: ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها.
(1)[بدائع الصنائع](2\ 334) .
(2)
سورة النساء الآية 34
(3)
سورة النساء الآية 34
(4)
سورة النساء الآية 34
قال: وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز، والامتناع نشوز. . . قال: ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز. اهـ (1) .
وقال ابن قدامة بعد تعريف النشوز: فمتى ظهرت منها أمارات النشوز مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة فإنه يعظها، فيخوفها الله سبحانه ويذكر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة، وما يباح له من ضربها وهجرها لقول الله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (2) فإن أظهرت النشوز - وهو: أن تعصيه وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير إذنه- فله أن يهجرها في المضجع؛ لقول الله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (3)
قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك، فأما الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام (4) » وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له ضربها في النشوز في أولى مرة.
وقد روي عن أحمد: إذا عصت المرأة زوجها فله ضربها ضربا غير
(1)[الأم](5\ 194) الطبعة الأولى.
(2)
سورة النساء الآية 34
(3)
سورة النساء الآية 34
(4)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2565) ، سنن الترمذي البر والصلة (2023) ، سنن أبو داود الأدب (4916) ، مسند أحمد بن حنبل (2/268) ، موطأ مالك الجامع (1686) .
مبرح، فظاهر هذا إباحة ضربها كما لو أصرت، ولأن عقوبات المعاصي لا تختلف بالتكرار وعدمه كالحدود، ووجه قول الخرقي المقصود: زجرها عن المعصية في المستقبل، وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل، كمن هجم منزله فأراد إخراجه، وأما قوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (1) الآية، ففيها إضمار تقديره واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن فاضربوهن، كما قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز، ولا خلاف أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره، وللشافعي قولان كهذين.
فإن لم ترتدع بالوعظ والهجر، فله ضربها؛ لقوله تعالى:{وَاضْرِبُوهُنَّ} (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح (4) » رواه مسلم. معنى " غير مبرح ": غير موجع ولا شديد.
وقال الخلال: سألت أحمد بن يحيى عن قوله: «غير مبرح (5) » قال: غير شديد، وعليه أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف، وقد روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن
(1) سورة النساء الآية 34
(2)
سورة المائدة الآية 33
(3)
سورة النساء الآية 34
(4)
صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(5)
صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1851) ، مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
أبيه قال: «قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت (1) » ، وروى عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم (2) » ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (3) » متفق عليه. اهـ (4) .
مسألة: وقال ابن قدامة أيضا: (والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه -فلا بأس أن تفتدي نفسها منه) .
وجملة الأمر: أن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك، وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته -جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه؛ لقول الله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (5)
وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت لزوجها، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكره، وقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: خذ منها، فأخذ منها وجلست
(1) سنن أبو داود النكاح (2142) ، سنن ابن ماجه النكاح (1850) .
(2)
صحيح البخاري النكاح (5204) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2855) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3343) ، سنن ابن ماجه النكاح (1983) ، مسند أحمد بن حنبل (4/17) ، سنن الدارمي النكاح (2220) .
(3)
صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .
(4)
[المغني والشرح الكبير](8\ 162، 163) الطبعة الأولى.
(5)
سورة البقرة الآية 229
في أهلها (1) » ، وهذا حديث صحيح ثابت الإسناد، رواه الأئمة مالك وأحمد وغيرهما، وفي رواية البخاري قال:«جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فردتها عليه، وأمره ففارقها (2) » .
وفي رواية فقال: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة (3) » وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام، قال ابن عبد البر: ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه، وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (4) الآية.
وروي عن ابن سيرين وأبي قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (5)
ولنا الآية التي تلوناها والخبر وأنه قول عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم من الصحابة لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا، ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء من ذلك، إذا ثبت هذا فإن هذا يسمى خلعا؛ لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها، قال الله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (6)
(1) سنن النسائي الطلاق (3462) ، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198) ، سنن الدارمي الطلاق (2271) .
(2)
صحيح البخاري الطلاق (5277) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(3)
صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(4)
سورة النساء الآية 20
(5)
سورة النساء الآية 19
(6)
سورة البقرة الآية 187
ويسمى: افتداء؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله، قال الله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) ، اهـ. (2) .
وإذا كان النشوز من المرأة وتعذرت أوبتها منه لبغضها إياه وكراهتها له وعرضت عليه افتداءها منه - فقد أجمع أهل العلم على أنه ينبغي إجابتها، واختلفوا هل يجبر الزوج على ذلك؟
قال ابن مفلح: يباح لسوء عشرة بين الزوجين وتستحب الإجابة إليه واختلف كلام شيخنا في وجوبه، وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء، فقال أبو طالب: إذا كرهته حل أن يأخذ منها ما أعطاها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتردين عليه حديقته؟ (3) » اهـ (4) .
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
[المغني والشرح الكبير](6\ 173- 174) الطبعة الأولى.
(3)
صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(4)
[الفروع](5\ 343) .
وسئل الشيخ حسين ابن الشيخ محمد: إذا كرهت زوجها هل يجبر على الخلع؟
فأجاب: إذا كرهت زوجها فالذي نفتي به أنه مستحب، ولا يجبر الزوج على الخلع (1) . اهـ.
وقال الشوكاني رحمه الله: قوله: «اقبل الحديقة (2) » قال في [الفتح] : هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته (3) . اهـ.
(1)[الدرر السنية](6\ 367) .
(2)
صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(3)
[نيل الأوطار](6\ 263) .
وقال في [حاشية المقنع] على قوله: وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى ألا يقيم حدود الله - فلا بأس أن تفتدي نفسها منه: أي: فيباح للزوجة والحالة هذه على الصحيح من المذهب، وأما الزوج فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه، وعليه الأصحاب، واختلف كلام الشيخ في وجوب الإجابة إليه، والأصل فيه قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمرها بردها وأمره ففارقها (2) » . رواه البخاري، وبه قال جميع الفقهاء في الأمصار إلا بكر بن عبد الله المزني لم يجزه (3) . اهـ.
وقال الجصاص: ذكر اختلاف السلف وسائر علماء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع.
روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاووس وسعيد بن جبير، وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها.
وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا كان النشوز من قبلها حل
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(3)
[المقنع مع حاشيته](3\ 113، 114) منشورات المؤسسة السعيدية، الرياض.
له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا، فإن فعل جاز في القضاء، وقال ابن شبرمة: تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه، وإن كانت على إضرار منه لم تجز، وقال ابن وهب عن مالك: إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك.
وقال الثوري: إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا.
وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة: إن كانت ناشزة كان في ثلثها، إن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها -فلا أرى بذلك بأسا.
وقال الحسن بن حيي: إذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه، وكذلك قول عثمان البتي، وقال الشافعي: إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا، وتأخذ الفراق به.
قال أبو بكر: قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات، منها: قوله تعالى:
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله، فلذلك قال أصحابنا: لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا، وقال تعالى في آية أخرى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله، وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما، فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد، والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع، ولكن ما زاد مخصوص بالسنة، وقال تعالى في آية أخرى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3)
قيل فيه: إنه خطاب للزوج، وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، قيل فيها: إنها هي الزنا، وقيل: إنها النشوز من قبلها، وهذه نظير قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (4) وقال تعالى في آية أخرى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (5) وسنذكر حكمها في
(1) سورة النساء الآية 20
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة النساء الآية 19
(4)
سورة البقرة الآية 229
(5)
سورة النساء الآية 35
مواضعها إن شاء الله تعالى، وذكر تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (2) وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها.
فقلنا: إذا كان النشوز من قبله لم يحل أخذ شيء منها؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (3) وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (4)
وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما -جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد، وكذلك {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (5) وقد قيل فيه: إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (6) فهذا في غير حال الخلع، بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به، وقول من قال: إنه لما جاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في
(1) سورة النساء الآية 4
(2)
سورة البقرة الآية 237
(3)
سورة النساء الآية 20
(4)
سورة النساء الآية 19
(5)
سورة النساء الآية 19
(6)
سورة النساء الآية 4
الخلع خطأ؛ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين، في أحدهما بالحظر، وهو قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) وفي الآخر بالإباحة، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (3) فقول القائل: لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية:«أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاءه ثابت بن قيس قال له: هذه حبيبة بنت سهل، فذكرت ما شاء الله أن تذكره، فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت: خذ منها، فأخذ منها، وجلست هي في أهلها (4) » .
وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها: «خل سبيلها» وفي بعضها: «فارقها» ، وإنما قالوا: إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال: حدثنا
(1) سورة النساء الآية 20
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة النساء الآية 4
(4)
سنن النسائي الطلاق (3462) ، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198) ، سنن الدارمي الطلاق (2271) .
محمد بن يحيى بن أبي سمينة: قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: «أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تردين إليه ما أخذت منه "؟ قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الزيادة فلا» وقال أصحابنا: لا يأخذ منها الزيادة لهذا الخبر، وخصوا به ظاهر الآية، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) لفظ محتمل لمعان، والاجتهاد سائغ فيه، وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة، وكذلك قوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد، وهو كقوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (3) وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (4) لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به -جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به، وإنما قال أصحابنا: إذا خلعها على أكثر مما أعطاها، أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (5) » .
وأيضا: فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد، وإنما تعلق بمعنى
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة النساء الآية 19
(3)
سورة النساء الآية 43
(4)
سورة البقرة الآية 237
(5)
مسند أحمد بن حنبل (5/73) .
في غيره، وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها، ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها، فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة، وبيع حاضر لباد، وتلقي الركبان ونحو ذلك، وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره، وكذلك الصلح عن دم العمد. كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل، وهو بدل البضع - كذلك جائز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها؛ لأنه بدل من البضع في الحالين. .
فإن قيل: لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن.
قيل له: قولك: إن الخلع فسخ للعقد، خطأ، وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل، ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة؛ لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن، ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء، وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان، فروي عن الحسن وابن سيرين: أن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان، وقال سعيد بن جبير: لا يكون الخلع حتى يعظها، فإن اتعظت وإلا هجرها، فإن اتعظت إلا ضربها، فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان، فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق، وإن رأى أن يجمع جمع.
وروي عن علي، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وشريح، وطاووس، والزهري في آخرين: أن الخلع جائز دون السلطان، وروى سعيد عن قتادة
قال: كان زياد أول من رد الخلع دون السلطان، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان.
وكتاب الله يوجب جوازه، وهو قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس:«أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فقال للزوج: " خذها وفارقها (3) » يدل على ذلك أيضا؛ لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله: اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما، كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها، بل فرق بينهما، كما روى سهل بن سعد:«أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين (4) » ، كما قال في حديث آخر:«لا سبيل لك عليها (5) » . ولم يرجع ذلك إلى الزوج، فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه (6) » انتهى المقصود.
وقال ابن حجر رحمه الله على قول البخاري في صحيحه: وقول الله عز وجل: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (7)
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة النساء الآية 19
(3)
صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(4)
صحيح البخاري الطلاق (5309) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2251) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، مسند أحمد بن حنبل (5/337) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) .
(5)
صحيح البخاري الطلاق (5312) ، صحيح مسلم اللعان (1493) ، سنن الترمذي كتاب الطلاق (1203) ، سنن النسائي الطلاق (3473) ، سنن أبو داود الطلاق (2257) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2069) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك الطلاق (1202) ، سنن الدارمي النكاح (2231) .
(6)
مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .
(7)
سورة البقرة الآية 229
وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها: العقاص: بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة: جمع عقصة، وهو: ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه.
وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في أمالي أبي القاسم بن بشران من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان، وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا، وقال في آخره: فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه.
وهذا يدل على أن معنى (دون) : سوى، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها، وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم كان يقال: الخلع ما دون عقاص رأسها.
وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها، ومن طريق قبيصة بن ذؤيب إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، ثم تلا:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) وسنده صحيح.
ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء قال: أنبأنا يحيى بن عباد، حدثنا فليح بن سليمان، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلام - وكان زوجها- قالت: فقلت له: لك كل شيء
(1) سورة البقرة الآية 229
وفارقني، قال: قد فعلت، فأخذ كل شيء حتى فراشي، فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها.
قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها، وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك، لكنه ليس من مكارم الأخلاق. . . ثم ساق شرح باقي الحديث، وقال بعد ذلك:
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم (1) : أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها.
وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا، أخرجه ابن أبي شيبة، وكأنهما لم يبلغهما الحديث، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك، مع ما دل عليه الحديث، ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيه: وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه، فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة ولا يحب أن يفضحها، فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها
(1) أي: من [فتح الباري] .
(2)
سورة النساء الآية 19
فليس في ذلك مخالفة للحديث؛ لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها.
واختار ابن المنذر: أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين، ولا يخالف ما ورد فيه، وبه قال طاووس والشعبي وجماعة من التابعين.
وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية: بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا، ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخالفة إليها لذلك، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا. انتهى المقصود (1) .
وقال محمود العيني: أي: هذا باب في بيان الخلع -بضم الخاء المعجمة وسكون اللام- مأخوذ من خلع الثوب والنعل ونحوهما، وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (2) وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الأجرام والمعاني، يقال: خلع ثوبه ونعله خلعا بفتح الخاء، وخلع امرأته خلعا وخلعة بالضم.
وأما حقيقته الشرعية فهو: فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له، هكذا قاله شيخنا في شرح الترمذي، وقال: هو الصواب، وقال كثير من
(1)[فتح الباري](9\394، 397، 401) المطبعة السلفية.
(2)
سورة البقرة الآية 187
الفقهاء: هو مفارقة الرجل امرأته على مال ليس بجيد، فإنه لا يشترط كون عوض الخلع مالا، فإنه لو خالعها عليه من دين أو خالعها على قصاص لها عليه فإنه صحيح، وإن لم يأخذ الزوج منها شيئا، فلذلك عبرت بالحصول لا بالأخذ.
قلت: قال أصحابنا: الخلع إزالة الزوجية بما يعطيه من المال، وقال النسفي: الخلع: الفصل من النكاح بأخذ المال بلفظ الخلع وشرطه شرط الطلاق وحكمه وقوع الطلاق البائن، وهو من جهته يمين، ومن جهتها معاوضة، وأجمع العلماء على مشروعية الخلع إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور، حكاه ابن عبد البر في [التمهيد]، وقال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل يريد أن يخالع امرأته، فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: فأين قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) ؟ قال: هي منسوخة. قلت: وما نسخها؟ قال: ما في سورة النساء، قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (2) الآية.
قال ابن عبد البر: قول بكر بن عبد الله هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل، وخالف جماعة الفقهاء والعلماء بالحجاز والعراق والشام. انتهى.
وخصص ابن سيرين وأبو قلابة جوازه بوقوع الفاحشة، فكانا يقولان:
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة النساء الآية 20
لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلا؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1)
قال أبو قلابة: فإذا كان ذلك فقد جاز له أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه، قال أبو عمر: ليس هذا بشيء؛ لأن له أن يطلقها، أو يلاعنها، وأما أن يضارها ليأخذ مالها فليس له ذلك. اهـ (2) .
قال في حاشية [المقنع] على قوله: (ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإن فعل كره وصح) : إذا تراضيا على الخلع بشيء صح وإن كان أكثر من الصداق، وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها كان ذلك جائزا، وقال عطاء وطاووس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها. وروي ذلك عن علي بإسناد منقطع، واختاره أبو بكر، فإن فعل رد الزيادة.
واحتجوا بما روي: «أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد (3) » ، رواه ابن ماجه.
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
[عمدة القاري](20\260) .
(3)
صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .