الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد
وفيه مذاهب:
المذهب الأول: أنه يقع ثلاثا وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والقياس:
أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) فإنه يدل على أنه إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، في طهر لزمه اثنتان، وإذا فيلزمه اثنتان إذا أوقعهما معا في كلمة واحدة (2) ؛لأنه لم يفرق بين ذلك أحد، وأيضا حكم الله بتحريمها عليه بعد الثالثة في قوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} (3) الآية، ولم يفرق أحد بين إيقاعها في طهر أو أطهار، فوجب الحكم بإلزامه بالجميع على أي وجه أوقعه، مباح أو محظور.
واعترض: بأن المراد بالآية: الطلاق المأذون فيه، وإيقاع الثلاث معا غير مأذون فيه، فكيف يستدل بها في الإلزام بطلاق وقع على غير الوجه المباح وهي لم تتضمنه؟
وأجيب: بأنها دلت على الأمر بتفريق الطلاق، ولا مانع من دلالتها
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
وكذا الثلاث إذا أوقعها معا
(3)
سورة البقرة الآية 230
على الإلزام به من جهة أخرى إذا وقع على غير الوجه المأمور به.
واعترض أيضا: بأن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) بين المراد من آية الاستدلال، وأن الطلاق إنما يكون للعدة، فمتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.
وأجيب: بأنا نثبت حكم كل من الآيتين فنثبت بآية {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) أن الطلاق المسنون ما كان للعدة، ونثبت بآية {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) أن من طلق لغير العدة أو جمع بين الثلاث لزمه ما فعل، وبذلك نكون قد أخذنا بحكم كل من الآيتين، على أن آخر آية الطلاق للعدة وهو قوله تعالى: وتلك حدود الله
…
الآية يدل على وقوع الطلاق لغير العدة، فإنه لو لم يلزمه لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه ولا بطلاقه، كما أن قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) يدل على ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان في الدليل الثاني إن شاء الله.
واعترض أيضا: بأن الزوج لو وكل من يطلق طلاقا مفرقا على الأطهار فجمع الثلاث في طهر لم يقع لكونه غير مأمور به فكذا الزوج.
وأجيب: بالفرق بينهما، فإن الزوج يملك الطلاق الثلاث، وإيقاعه على غير الوجه المشروع لا يمنع من إلزامه به كالظهار والردة، أما الوكيل فلا يملك من الطلاق إلا ما ملكه موكله ولا يملك إيقاعه إلا على الوجه
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة الطلاق الآية 2
الذي وصفه له موكله، إذ هو معبر عن موكله وتلزمه حقوق ما يوقعه، وسيأتي لهذا مزيد بحث.
واستدل أيضا بعموم قوله تعالى في الآية: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) على أنه يتناول إيقاع الثلاث دفعة.
وأجيب عن وجوه الاستدلال بالآية:
أولا: بأن تسريح المطلقة طلاقا رجعيا بإحسان تركها بلا مضارة لها حتى تنقضي عدتها، لا طلاقها مرة أخرى قبل رجعتها، وما روي مرفوعا من تفسير التسريح بالإحسان بطلاقها الثالثة فمرسل.
ثانيا: بأن من العلماء من فرق بين إيقاع الطلاق مفرقا في طهر أو مجموعا، وبين إيقاعه مفرقا في أطهار دون سبق رجعة، وإيقاعه مفرقا في أطهار مع سبق كل برجعة، فدعوى عدم الفرق مخالفة للواقع.
ثالثا: بأن الله جعل الطلاق إلى الزوج لكن على أن يوقعه مفرقا مرة بعد مرة على صفة خاصة، ولم يشرع سبحانه إيقاع الطلاق ثلاثا جملة حكمة في تشريعه ورحمة بعباده، فإيقاعه ثلاثا مجموعة مخالف لأمر الله وشرعه، وأما قياس الثلاث مجموعة على الظهار فيبطل قولكم ويثبت قول مخالفيكم، فإن الله لم يلزم المظاهر بما التزم من تحريم زوجته وجعلها كأمه أو أخته مثلا، بل لم تزل زوجته، وعاقبه بشيء آخر على جريمة الظهار هو الكفارة، فإذا أدى ما شرع من الكفارة حلت له مماستها، فمقتضى قياسكم أن لا يلزم بشيء من الثلاث، ويعاقب بأمر آخر على جريمة الجمع
(1) سورة البقرة الآية 229
بين الثلاث، وكذا القول في قياسكم جمع الثلاث على الردة، وإذا ليست الآية دليلا على إلزام الثلاث أو الثنتين إذا أوقعها مجموعة، بل تدل على خلافه.
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) ومن طلق ثلاثا مجموعة فقد تعدى حدود الله؛ لإيقاعه الطلاق على غير الوجه المشروع، وظلم نفسه بتعجله فيما كانت له فيه أناة، وحرمانه من رجعة زوجته، إذ لو لم يلزم بالثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لم يكن ظالما لنفسه ولا محروما من زوجته، لتمكنه من رجعتها.
ويؤيده: أن ابن عباس أفتى بإلزام الثلاث من طلق ثلاثا، وعاب على من جمع الثلاث ورماه بالحماقة، واستشهد بالآية، وأجيب بمنع دلالة الآية على الإلزام بالثلاث؛ لأن ركانة لما طلق امرأته ثلاثا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، وتلا هذه الآية، ولو كانت دليلا على إلزام الثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لما استدل بها صلى الله عليه وسلم، وستأتي مناقشة حديث ركانة.
وكما روي عن ابن عباس الإلزام بالثلاث والاستشهاد بالآية روي عنه اعتبارها واحدة.
ويمكن أن يقال: بحمل تعدي حدود الله في الآية وظلم المطلق لنفسه على الطلاق لغير العدة وإخراج الزوج مطلقته طلاقا رجعيا من بيتها الذي
(1) سورة الطلاق الآية 1
كانت تسكنه قبل الطلاق وخروجها منه أيام العدة، دون الطلاق الثلاث، وقد يساعد على هذا سابق الكلام ولاحقه، وفي هذا أيضا جمع بين الأدلة، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (1) ذكر عن الحسن أنها نزلت فيمن كان يطلق ويزوج ابنته ويعتق عبده، ويدعي أنه كان لاعبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثلاث من قالهن لاعبا جائزات: العتاق والطلاق والنكاح» .
وأجيب: بأنه لا دليل في الآية ولا في الحديث على المطلوب؛ لأنه لم يذكر فيهما طلاق الثلاث أصلا، وإنما فيهما النهي عن اللعب في الطلاق ونحوه، على أن ما ذكر من مراسيل الحسن.
وأما السنة فأولا: حديث تلاعن عويمر العجلاني وامرأته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما بإنفاذ الطلاق الثلاث لا باللعان، يؤيد هذا قول سهل:«فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » . . . إلخ. وبهذا يعلم أن طلاق عويمر اعتبر ثلاثا، وبانت منه امرأته بذلك، ثم أكد ذلك بتأبيد تحريمها عليه في اللعان خاصة، وقد يقال: بأن إنفاذ الطلاق الثلاث دفعة على الملاعن خاص باللعان، لما فيه من تأبيد التحريم بخلاف غيره، بدليل حديث محمود بن لبيد.
ويجاب: بأن حديث محمود بن لبيد - وإن صح - ليس فيه إنفاذ الثلاث ولا عدم إنفاذها، وحديث اللعان فيه إنفاذها فيقدم، بل قيل: إن حديث
(1) سورة البقرة الآية 231
(2)
صحيح البخاري الأدب (6084) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) .
محمود بن لبيد دليل على اعتبار إيقاع الثلاث دفعة ثلاثا؛ لأن الزوج طلق ثلاثا يظنها لازمة له، فلو كانت غير لازمة لبين له صلى الله عليه وسلم لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وقد أجيب عن أصل الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ تطليقات عويمر على الوجه الذي كان معروفا في عهده من اعتبارها واحدة رجعية، ثم حرمها عليه تحريما أبديا، بدليل قوله في الحديث:(فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما) فإن التفريق يتأتى مع بقاء النكاح، بخلاف ما إذا اعتبرت تطليقات عويمر ثلاثا، فإنها تكون أجنبية منه بذلك محرمة عليه حتى تنكح زوجا غيره.
وكذلك يقال فيما أمضاه على المطلق في حديث محمود بن لبيد، فإن حمله على ما كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم أقرب من حمله على الثلاث؛ بل هو المتعين.
ثانيا: حديث من طلقها زوجها ثلاثا وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيحها لزوجها الأول حتى يطأها الثاني، قالوا: الظاهر أنه طلقها ثلاثا مجموعة فأمضاها عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لحلت للأول دون أن تذوق عسيلة الثاني.
وأجيب: بأنه ورد في بعض الروايات أن الأول طلقها آخر ثلاث تطليقات، وعلى تقدير تعدد القصة وأن هذه الرواية كانت في إحداهما فكل منهما ليس فيها ما يدل على أن التطليقات كانت مجموعة؛ لجواز أن تكون متفرقة، بل في الحديث ما يدل على تفرقها، فإنه لا يقال: طلق ثلاثا إلا لمن فعل ذلك مرة بعد مرة، كما يقال: سلم ثلاثا، وسبح ثلاثا، ومع
هذا فقد كان المشهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق متفرقا، أما إيقاعه مجموعا فقد كان قليلا ومنكرا، وحمل اللفظ على الكثير الحق أقرب من حمله على القليل المنكر.
ثالثا: حديث فاطمة بنت قيس، فإن زوجها طلقها ثلاثا مجموعة، وقد تقدم الكلام فيه وفي مثله توجيها وإجابة، إلا أنه ذكر هنا زيادة في رواية مجالد بن سعيد عن الشعبي: أن زوجها طلقها ثلاثا جميعا.
وأجيب عنها: بأنها قد تفرد بها مجالد عن الشعبي وهو ضعيف، وعلى تقدير الصحة فكلمة (جميعا) في الغالب لتأكيد العدد، فالمعنى حصول الطلاق الذي يملكه جميعه لا اجتماعه، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1)
فالمراد: حصول الإيمان من جميعهم لا حصوله منهم في وقت واحد. وذكر بعضهم: أن تعبير فاطمة بنت قيس عن كيفية طلاقها مختلف الصيغة ولم يفرق بينهما الصحابة في الحكم وإلا لاستفسروا عما فيها من إجمال.
وأجيب: بأن الإجمال زال برواية طلقها آخر ثلاث تطليقات، ورواية أرسل إليها بطلقة كانت بقيت لها.
رابعا: حديث ركانة، فإنه طلق امرأته سهيمة البتة، واستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد، واستحلفه عليه فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها عليه، فدل على أنه لو أراد أكثر لأمضاه عليه، إذ لو لم يفترق الحكم لما استفسره ولا
(1) سورة يونس الآية 99
استحلفه، وهذا الحديث وإن تكلم فيه من أجل الزبير بن سعيد فقد صححه بعض العلماء، وحسنه بعضهم، وذكر الحاكم له متابعا من بيت ركانة.
وأجيب: بأن الإمام أحمد ضعف حديث طلاق ركانة زوجته ألبتة من جميع طرقه، وضعفه البخاري، وقال: مضطرب فيه، تارة قيل فيه: ثلاثا، وتارة قيل فيه: واحدة، وعلى ذلك تترك الروايتان المتعارضتان، ويرجع إلى غيرهما.
هذا وقد روي حديث تطليق ركانة امرأته ثلاثا، وجعلها واحدة من طريقين:
إحداهما: عند الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس مرفوعا.
والثانية: في [سنن أبي داود] من طريق ابن صالح بسنده إلى ابن عباس مرفوعا، فوجب المصير إلى ذلك.
وأجيب عن الأولى: بأنها لا تقوم بها الحجة؛ لمخالفتها فتيا ابن عباس، وستأتي مناقشة ذلك.
وأجيب عن الثانية: بأن في سندها مقالا؛ لأن ابن جريج روى هذا الحديث عن بعض بني أبي رافع، ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله، وسائرهم مجهولون، وقد رجح أبو داود في [سننه] رواية نافع بن عجير في طلاق ركانة زوجته ألبتة على رواية بعض بني أبي رافع:
أن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا لذلك، ولفظ ابن جريج في تسمية المطلق عبد يزيد مع أن عبد يزيد لم يدرك الإسلام، ولأن أهل بيت ركانة أعلم بحاله.
وقد أجاب ابن القيم بما خلاصته: سقوط رواية كل من نافع بن عجير وبعض بني أبي رافع لجهالة كل منهما، أما أن يرجح أحد المجهولين أو من هو أشد جهالة على الآخر فكلا، ويعدل إلى رواية الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس لسلامته، فإن أحمد وغيره احتجوا به في مسائل النكاح والعرايا وغيرها، وقد ذكر فيه: أن ركانة طلق امرأته سهيمة ثلاثا، فجعلها صلى الله عليه وسلم واحدة.
وستأتي لهذه زيادة بحث إن شاء الله.
خامسا: حديث ابن عمر في تطليق زوجته في الحيض، وفي آخره:«فقلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؛ قال: لا، كانت تبين منك وتكون معصية» فإنه ظاهر في إمضاء الثلاث مجموعة.
وأجيب أولا: بأن في سنده شعيب بن زريق الشامي عن عطاء الخراساني، وقد وثق الدارقطني شعيبا، وذكره ابن حبان في الثقات، وحكى عنه ابن حجر أنه قال: يعتبر بحديثه من غير روايته عن عطاء الخراساني، وقال الأزدي: فيه لين، وقال ابن حزم: ضعيف، أما عطاء الخراساني فقد ذكره البخاري في الضعفاء، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به، ووثقه ابن سعد وابن معين وأبو حاتم، ومع ذلك فقد انفرد شعيب عن الأئمة الأثبات بهذه الزيادة فإنه لم يعرف عن أحد منهم ذكرها.
سادسا: حديث عبادة بن الصامت في تطليق بعض آبائه امرأته ألفا، فلما سأل بنوه النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» .
وأجيب: بأن في سنده رواة مجهولين وضعفاء.
سابعا: حديث: «من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» . وأجيب: بأن في سنده إسماعيل بن أمية الذراع، وقد قال فيه الدارقطني بعد روايته لهذا الحديث، ضعيف متروك الحديث.
ثامنا: حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا طلق امرأته ألبتة، فأنكر ذلك، وقال:«من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره (1) » .
وأجيب: بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني: كوفي ضعيف، وقال ابن القيم: في إسناد هذا الحديث مجاهيل وضعفاء.
وأما الإجماع: فقد نقل كثير من العلماء الإجماع على إمضاء الثلاث في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، منهم: الشافعي وأبو بكر الرازي وابن العربي والباجي وابن رجب، وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه، بخلاف الإجماع فإنه معصوم.
وأجيب: بأنه قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القول برد الثلاث المجموعة إلى الواحدة.
منهم: أبو بكر، وعمر صدر من خلافته، وعلي، وابن مسعود، وابن
(1) سنن أبو داود الطلاق (2198) .
عباس، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطاووس، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن إسحاق، وابن تيمية المجد، وأصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وعطاء بن يسار، وابن زنباع، وخلاس بن عمرو، وأهل الظاهر، وخالفهم في ذلك ابن حزم.
وغاية الأمر أن يقال: أن بعض من نقل عنهم الإلزام بالثلاث إذا كانت مجموعة نقل عنهم أيضا جعلها واحدة فيكون لهم في المسألة قولان. والقصد أن الخلاف في الإلزام بها مجموعة لم يزل قائما ثابتا.
وممن حكى الخلاف في ذلك عن السلف والخلف: أبو الحسن علي بن عبد الله اللخمي، وأبو جعفر الطحاوي في [تهذيب الآثار] وغيرهم، وبهذا يتبين أنه ليس في المسألة إجماع.
وأما الآثار المروية عن الصحابة وغيرهم في إمضاء الثلاث على من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد فكثيرة:
منها: ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي هريرة وغيرهم، فإن سلم اعتبارها في الاحتجاج لكونها أقوال صحابة ثبت المطلوب، وخاصة أن فيهم ثلاثة من الخلفاء: عمر الملهم، وعثمان، وعلي، وحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهم، وإلا فالحجة في إجماعهم، فإن فتواهم اشتهرت عنهم، ولم يعرف عمن لم يفت بذلك إنكار لفتواهم به، فكان إجماعا وقد تقدم.
وأجيب: بأن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث عقوبة لهم لما رآه
من المصلحة في زمانه؛ ليكفوا عما تتابعوا فيه من جمع الطلاق الثلاث، ويرجعوا إلى ما جعل الله لهم من الفسحة والأناة رحمة منه بهم، ولما علم الصحابة منه حسن سياسته لرعيته وافقوه على ذلك، وأفتوا به رعاية لما رآه من المصلحة؛ ولذا صرحوا لمن استفتاهم في هذا الأمر بأنه عصى ربه ولم يتقه، فلم يجعل له مخرجا، ولم يجعل ذلك الإمضاء شرعا لازما مستمرا؛ لأنه مما تتغير الفتوى به بتغير الزمان والأحوال، بل جعل العقوبة به تقريرا لمن خالف ما أمر به كالنفي، ومنعه صلى الله عليه وسلم المخلفين الثلاثة من نسائهم مدة من الزمن، والضرب في الخمر، ونحو هذا مما يختلف التعزير فيه باختلاف الزمان والأحوال، وكان هذا من الخليفة اجتهادا.
وأما القياس: فهو أن النكاح ملك للزوج فتصح إزالته مجتمعا كما صحت إزالته متفرقا وأن الله جعله بيده يزيل منه ما شاء ويبقي ما شاء، كالعتق وعقد النكاح.
وأجيب: بأنه قياس مع الفارق فإن الطلاق جعل إليه ليوقعه متفرقا على كيفية معينة، ومنعه من جمعه؛ لما تقدم في المسألة الأولى، فلا يصح قياس جمعه على تفريقه، ولا على العتق، ولا عقد النكاح على أكثر من واحدة وما أشبهها، مما شرع له إيقاعه مجتمعا ومتفرقا.
المذهب الثاني: أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة، دخل بها الزوج أم لا:
وهو قول أبي بكر، وعمر صدر من خلافته، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من التابعين ومن بعدهم؛ كطاووس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وداود الظاهري، وأكثر أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم.
واستدل لهذا المذهب بالكتاب، والسنة، والآثار، والإجماع، والقياس:
أما الكتاب: فأولا: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) إلى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) وبيانه: أن الألف واللام في قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) للعهد، والمعهود هو: الطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (4) وهو رجعي؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (5)
فالمعنى: الطلاق من الذي يكون للزوج فيه حق الرجعة مرتان: مرة بعد مرة، ولا فرق في اعتبار كل مرة منهما واحدة بين أن يقول في كل مرة: طلقتك واحدة أو ثلاثا أو ألفا، فكل مرة منهما طلقة رجعية؛ لما سبق،
(1) سورة البقرة الآية 228
(2)
سورة البقرة الآية 230
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة البقرة الآية 228
(5)
سورة البقرة الآية 228
ولقوله تعالى بعد: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) وأما قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) فالضمير المرفوع والمنصوب فيه عائدان إلى المطلق والمطلقة فيما سبق، لئلا يخلو الكلام عن مرجع لهما؛ ولأن الطلاق وقع بعد الشرط والحل بعد النفي، فدل على العموم، فلو كانت هذه الجملة مستقلة عما قبلها للزم تحريم كل مطلقة ولو طلقة أو طلقتين حتى تنكح زوجا آخر، وهو باطل بإجماع، وإذا فمعنى الآية: فإن طلقها مرة ثالثة بلفظ واحد طلقة أو ثلاثا فلا تحل له حتى تتزوج غيره، وبهذا يدل عموم الآية على اعتبار الثلاث بلفظ واحد طلقة، وقد سبقت مناقشة هذا الدليل.
ثانيا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (4)
وبيان أن الجمهور استدلوا بها من وجوه على تحريم جمع الثلاث، وإذا فلا يقع منها مجموعة إلا ما كان مشروعا وهو الواحدة.
وأجيب: بأن التحريم لا يناقض إمضاء الثلاث، فكم من عبادة أو عقد مشروع ارتكب فيه مخالفة فقيل لصاحبه: عصى، وصحت عبادته، ومضى عقده، وعلى تقرير المناقضة فهو يمنع من إمضاء الواحدة أيضا لوقوع الطلاق على خلاف ما شرع الله، وذلك ما لا يقول به أحد من
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة البقرة الآية 230
(3)
سورة الطلاق الآية 1
(4)
سورة الطلاق الآية 2
الجمهور.
وأما السنة: فمنها أولا: ما رواه مسلم في [صحيحه] من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1) » .
وأجيب عن الاستدلال به بما يأتي:
أولا: أنه حديث منسوخ؛ لأن ابن عباس أفتى بخلافه، فدل ذلك على أنه علم ناسخا له فاعتمد عليه في فتواه.
ونوقش: بأنه يمكن أن يكون اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاد عمر رضي الله عنهما في إمضاء الثلاث تعزيرا للمصلحة، كما تقدم، وأيضا لو علم ناسخا لذكره مع وجود الدواعي إليه، ولم يكتف بمثل ما كان يعلل به في فتواه، وأيضا الصواب: أن العبرة بما رواه الراوي لا بقوله، قالوا أيضا: يدل على نسخ الحديث ما ذكر في سبب نزول قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) من أن المطلق كان له الحق في الرجعة ولو طلق ألف مرة، ما دامت مطلقته في العدة، فأنزل الله الآية منعا لهم من الرجعة بعد المرة الثالثة حتى تنكح زوجا آخر.
ونوقش: أولا: بأنه روي مرسلا من طريق عروة بن الزبير ومتصلا من
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(2)
سورة البقرة الآية 229
طريق عكرمة عن ابن عباس، لكن في سنده علي بن حسين بن واقد، وهو ضعيف.
وثانيا: بأنه استدلال في غير محل النزاع، فإنه ليس فيه الإلزام بالثلاث في لفظ واحد.
وقالوا أيضا: يدل على نسخه حديث امرأة رفاعة وحديث اللعان وحديث فاطمة بنت قيس.
وقد سبق الاستدلال بها ومناقشتها.
وقالوا أيضا: يدل على نسخه إجماع الصحابة زمن عمر رضي الله عنهم على إمضاء الثلاث، فإنه لا يكون إلا عن علم بالناسخ.
ونوقش: بأنه لا يتأتى مع قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فلو كان اعتمادهم على العلم بالناسخ لذكروه ولم يعلل عمر بذلك، وأيضا كيف يستمر العمل بالمنسوح في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما؟ ! مع كون الأمة معصومة في إجماعها عن الخطأ.
ونوقش استمرار العمل بالمنسوخ في العهود الثلاثة: بأنه إنما فعله من لم يبلغه النسخ، فلما كان زمن عمر انتشر العلم بالناسخ فأجمعوا على إمضاء الثلاث كما حصل في متعه النكاح سواء.
ونوقش: بأن متعة النكاح كان الخلاف فيها مستمرا بين الصحابة؛ لعدم معرفة بعضهم بالناسخ المنقول نقلا صحيحا إلى أن أعلمهم به عمر في خلافته ونهاهم عنها، بخلاف جعل الثلاث في لفظ واحد طلقة واحدة فإنه
ثابت في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يزل العمل عليه عند كل الصحابة في خلافة الصديق إلى سنتين أو ثلاث من خلافة عمر رضي الله عنهما، إما فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أنه إجماع قديم، لم تجمع الأمة على خلافه بعد، بل لم يزل في الأمة من يفتي بجعل الثلاث واحدة؛ ولم ينقل حديث صحيح يصلح أن يعتمد عليه في نسخ حديث ابن عباس ويكون مستندا لما ذكر من الإجماع، بل الذي روي في ذلك إما في غير الموضوع، وإما في الموضوع لكنه ضعيف أو مكذوب، ومع هذا فقد ثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاوس مرفوعا وموقوفا على ابن عباس، فالمرفوع هو: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ما يخالفه مرفوعا، وقد سبقت مناقشة حديث ركانة، وستأتي بقيتها، ولا نكارة في إمضاء عمر للثلاث باجتهاده، ولا على غيره من الصحابة ممن وافق اجتهادهم اجتهاده في إمضائها، وقد بين عمر وابن عباس وغيرهما وجه ذلك بأن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم من تطليقهم ثلاثا مجموعة وكثير منهم ذلك على خلاف ما كانوا عليه قبل الزموا بالثلاث عقوبة لهم، ونظير هذا كلما تتغير فيه الفتوى بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة كالعقوبة في الخمر، والتفريق بين الذين خلفوا ونسائهم، وقتال علي لبعض أهل القبلة متأولا، ولم يكن الإمضاء شرعا مستمرا إنما كان رهن ظروفه.
وأجيب ثانيا: بتأويل حديث طاوس عن ابن عباس بأن الطلاق الذي كان الناس يوقعونه واحدة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة
عمر اعتادوا إيقاعه بعد ذلك ثلاثا، ويشهد لهذا قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة
…
إلخ.
ونوقش: بأنه تأويل يخالف الواقع في العهود الثلاثة الأولى، فإن الطلاق ثلاثا جملة قد وقع فيها من الصحابة، كما تقدم في حديث محمود بن لبيد، وحديث اللعان، وكما يأتي في حديث ركانة، وأيضا يمنع منه ما ورد في بعض روايات الحديث من أنها جعلت واحدة أو ردت إلى الواحدة.
وأجيب ثالثا: بحمل الحديث على غير المدخول بها بدليل ذكر ذلك في الرواية الأخرى، فإن الزوج إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق: بانت بالأولى، فكان الثلاث واحدة.
ونوقش هذا: ولم يزل ماضيا ولم يتقيد بعهد ولا زمان، وما نحن فيه تغير حكمه في أيام عمر رضي الله عنه عما كان عليه قبل.
وقد وجه بعضهم الجواب بتوجيه آخر، وهو: أن زوجها إذا قال لها: أنت طالق ثلاثا بانت بقوله أنت طالق، ولغي قوله: ثلاثا، ونوقش بأنه كلام متصل، فكيف يفصل بعضه من بعض ويحكم لكل بحكم؟
ونوقش أصل الجواب: بأن حديث طاوس نفسه عن ابن عباس مطلق ليس فيه ذكر لغير المدخول بها، وجواب ابن عباس في الرواية الأخرى، والرد على سؤال أبي الصهباء عن تطليق غير المدخول بها ثلاثا، فخص ابن عباس غير المدخول بها ليطابق الجواب السؤال، ومثل هذا ليس له مفهوم
مخالفة.
وأجيب رابعا: بأن جعل الثلاث واحدة لم يكن عن علم منه صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، وإلا ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه.
ونوقش: بأن جماهير المحدثين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهده صلى الله عليه وسلم له حكم، فإنه على تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بذلك يستبعد أن يفعله الصحابة وهم خير الخلق، ولا يعلمه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل، ثم كيف يستمر العمل من الأمة على خطأ في عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، والأمة معصومة من إجماعها على الخطأ.
وأجيب خامسا: بحمل الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق فإنه يعتبر واحدة مع قصد التوكيد، وثلاثا مع قصد الإيقاع، وكان الصحابة خيارا أمناء فصدقوا فيما قصدوا، فلما تغيرت الأحوال وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ واحد، ألزمهم عمر الثلاث في صورة التكرار؛ إذ صار الغالب عليهم قصدها.
ونوقش: بأن حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر، فإن الحكم لم يتغير في صورة التكرار فيما بعد عما كان عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، بل الأمر لم يزل على اعتباره واحدة في هذه الصورة عند قصد التوكيد، ومن ينويه لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب، ومن لا ينويه في الحكم لا يقبل منه مطلقا برا أم فاجرا، وأيضا قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. إلخ - يرد حمل الحديث على هذه الصورة -، فإن معناه: أن الناس استعجلوا فيما شرعه
الله لهم متراخيا بعضه عن بعض رحمة منه بهم، فأوقعوه بلفظ واحد، فهذا يدل على أن لفظ الثلاث في الحديث مراد به جمع الثلاث دفعة، وإن كان في نفسه محتملا.
وأجيب سادسا: بمخالفة فتوى ابن عباس لروايته، فإنه لم يكن ليروي حديثا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، ولذلك لما سئل أحمد بأي شيء تدفع حديث ابن عباس؛ قال: برواية الناس عنه من وجوه خلافه.
ونوقش: بأن الصواب من القولين في مخالفة الراوي لروايته أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة راويه، وهو غير معصوم، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في علنه ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لثقته به واعتقاد أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه، وعلى هذا الأصل بنى المالكية والشافعية والحنابلة فروعا كثيرة، حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه، وأيضا كما نقل عن ابن عباس إمضاء الثلاث، وروي عنه اعتبار الثلاث مجموعة طلقة واحدة، وإذا تعارضت الروايتان عدل عنهما إلى الحديث.
لكن هذه المناقشة مردودة بأمرين:
الأول: أن رواية الراوي إنما تقدم على قوله إذا كانت صريحة أو طاهرة في معنى قال بخلافه، وإلا قدم قوله؛ لأنه يدل على أن الاحتمال الذي خالفه قوله غير مراد من الحديث، وحديث ابن عباس هنا محتمل أن يكون
في الطلاق ثلاثا بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا كما في الصورة التي في الجواب الخامس عن الحديث، فدلت فتواه على إرادة صورة التفريق لا صورة الاجتماع.
الثاني: أن ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة: أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة معارض بما رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة: أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، ورواية إسماعيل مقدمة لموافقته الثقاة في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة.
وقد يقال في الأمر الأول: إن لفظ الطلاق الثلاث في الحديث ظاهر فيها مجموعة، وإلا لم يقل عمر رضي الله عنه إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. . . إلخ - اعتذارا منه في الحكم على خلاف ظاهره، وبه اعتذار ابن عباس وغيره في إمضاء الثلاث.
وقد سبق الكلام في هذا عند مناقشة الجواب عن الحديث بالنسخ.
ويقول في الأمر الثاني: أنه لا مانع من ثبوت القول بجعل الثلاث بلفظ واحدة عن كل من ابن عباس وعكرمة، وعلى تقدير تعارض الروايتين بالنفي والإثبات، فالمثبت مقدم على النافي، على أن حماد بن زيد أثبت في أيوب من كل من روى عن أيوب، كما قال يحيى بن معين، فيقدم على إسماعيل بن إبراهيم (1) .
(1)[تهذيب التهذيب](3 \ 9) .
وأجيب سابعا: بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث بلفظ ألبتة؛ لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة، فرواه بعض رواته بالمعنى، فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة، وفي هذا جمع بين الروايات، وكان يراد بها واحدة كما أراد بها ركانة، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث بها ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه، ونظيره زيادته الضرب في شرب الخمر حين تتابع الناس فيه.
وقد يقال: إن هذا تأويل على خلاف الظاهر بلا دليل، وأيضا تقدم في كلام الشافعي أن كلمة ألبتة مستحدثة، وعلى ذلك لا يجوز حمل لفظ الطلاق الثلاث في الحديث عليها.
وأجيب ثامنا: بأنه حديث شاذ؛ لانفراد طاوس به عن ابن عباس، وانفراد الراوي بالحديث - وإن كان ثقة - علة توجب التوقف فيه إذا لم يرو معناه من وجه يصح.
ونوقش: بأن مجرد انفراد الثقة برواية الحديث ليس علة توجب رده أو التوقف، ولا يسمى هذا شذوذا عند علماء الحديث، إنما الشذوذ الذي يكون علة في رد الحديث هو: أن يخالف الثقة الثقاة مخالفة لا يمكن معها الجمع، ولم يخالف طاوس في رواية هذا الحديث أحدا من الرواة الثقاة عن ابن عباس في هذا الموضوع، وإنما وقعت المخالفة بين ما رواه وما أفتى به، وقد مضى الكلام في ذلك، لكن لقائل أن يقول: إن استمرار العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة وتغيير عمر لذلك على علم من
الصحابة مما تتوفر الدواعي على نقله، فنقله آحادا يوجب رده، اللهم إلا أن يحمل الحديث على ما تقدم من أن الطلاق كان على وجه التكرار مع قصد التأكيد أو قد كان بلفظ ألبتة فاختلف الحكم فيه لاختلاف النية.
وقد يناقش: ألا يراد بالمنع أن يكون ما ذكر مما توفر الدواعي على نقله، وأنه على تقدير أن يكون من ذلك، فللمستدل أن يقول: إن الحديث قد اشتهر نقله وصح سنده ولم يجرؤ أحد على تكذيبه أو تضعيفه بوجه يعتبر مثله، كما اشتهر نقل مخالفة فتوى عمر وابن عباس لظاهره، ويشهد لهذا اشتغال العلماء سلفا وخلفا بالأمرين، فبعضهم يؤول الحديث ليتفق مع الفتاوى، وبعضهم يذهب إلى بيان وجه مخالفة الفتاوى له ويبقيه على ظاهره، ويعتذر عن الفتوى بخلافه، وبعضهم يعارضه بفتوى ابن عباس ويقدم العمل بها عليه، إلى غير هذا مما يدل على شهرة النقل للأمرين، وعلى تقدير عدم الشهرة فكم من أمر تتوفر الدواعي على نقله قد نقل آحادا وعمل به جمع من أئمة الفقهاء ورده آخرون بهذه الدعوى.
وأجيب تاسعا: بأن الحديث مضطرب سندا ومتنا:
أما اضطراب سنده: فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس.
وأما اضطراب متنه: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدر
من خلافة عمر واحدة؟
ونوقش: بأن الاضطراب إنما يحكم به على الحديث إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح وكلاهما ممكن فيما نحن فيه، فإن الرواية عن أبي الجوزاء وهم فيها عبد الله بن المؤمل، حيث انتقل في روايته الحديث عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، وقد كان سيئ الحفظ فلا تعارض بها رواية الثقات عن أبي الصهباء، وأما روايته عن طاوس عن ابن عباس وعن طاوس عن أبي الصهباء وعن ابن عباس - فكلاهما ممكن، فلا تعارض ولا اضطراب، وأما اختلاف المتن فتقدم بيان الجمع بين الروايتين فلا اضطراب.
وأجيب عاشرا: بمعارضته بالإجماع، والإجماع معصوم فيقدم وقد تقدمت مناقشة ذلك.
ومن السنة أيضا: ما رواه الإمام أحمد في [مسنده] عن سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال: فراجعها (1) » ، فكان ابن عباس يرى الطلاق عند كل طهر، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد، واستدل بما روى به في رد ابنته صلى الله عليه وسلم على زوجها ابن أبي العاص بالنكاح الأولى، وقدمه على ما يخالفه فهو حجة ما لم
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .
يعارضه ما هو أقوى منه فكيف إذا عضده نظيره أو ما هو أقوى منه، ودلالة متنه ظاهرة في اعتبار الطلاق ثلاثا في مجلس واحد واحدة.
ونوقش: بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث: لفظ ألبتة، لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة، فرواه بعض رواته بالمعنى فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة، وفي هذا جمع بين الروايات، وكانت يراد بها واحدة أولا، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه، ونظيره زيادة الضرب في شرب الخمر ونحوه مما تغير فيه الحكم لتغير أحوال الناس، وقد تقدم هذا في الجواب السابع عند الاستدلال بحديث طاوس عن ابن عباس في جعل الثلاث المجموعة واحدة مع مناقشته.
ونوقش أيضا: بأن لفظ طلقتها ثلاثا يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا، وأجيب بأن احتمال تفريقه خلاف الظاهر؛ لقوله في الحديث في مجلس واحد، والغالب فيما كان كذلك أن يكون بلفظ واحد.
ونوقش أيضا: بمعارضته للإجماع، وقد تقدم مناقشة الإجماع عند الكلام على الاستدلال به على إمضاء الثلاث.
ونوقش أيضا: بمعارضته لحديث نافع بن عجير في إمضائه ثلاثا.
وأجيب: بترجيح هذه الرواية على رواية نافع بن عجير، لسلامتها، وضعف نافع، وقد سبق شرح ذلك.
إلى غير هذا من المناقشات التي سبقت عند الإجابة عن الاستدلال بحديث ابن عباس في اعتبار الثلاث واحدة.
ومن السنة أيضا: حديث بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس: «أن عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - طلق أم ركانة وتزوج امرأة أخرى، فشكت ضعفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بطلاقها فطلقها، وقال له: راجع أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثا، فقال: قد علمت، راجعها (1) » .
وقد سبق نص الحديث مع مناقشته.
ومن السنة أيضا: «حديث ابن عمر، وفيه: أنه طلق امرأته وهي حائض، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى السنة (2) » .
ورد: أولا: بأن رواة هذا الحديث شيعة.
وثانيا: بأن في سنده ظريف بن ناصح، وهو شيعي لا يكاد يعرف.
وثالثا: بأنه مع ما ذكر مخالف لما رواه الثقات الأثبات: أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقة واحدة، فهو حديث منكر.
واستدلوا بالإجماع: قالوا: إن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر.
ويمكن أن يجاب: بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة من أن الثلاث بلفظ واحد تمضي ثلاثا.
وقد سبق ذكرها في استدلال من يقول بإمضاء الثلاث. لكن للمستدل أن يقول: إن الآثار التي وردت فيها الفتوى بخلاف هذا الدليل بدأت في عهد عمر بضرب من التأويل، يدل على تأخير بدئها ظاهر حديث طاوس
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) .
(2)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4908) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، سنن ابن ماجه كتاب الطلاق (2022) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
عن ابن عباس.
وقد تقدم مع المناقشة.
واستدلوا: بالقياس، قالوا: كما لا يعتبر قول الملاعن وقول الملاعنة: أشهد بالله أربع شهادات - بكذا، أربع شهادات - لا يعتبر قول الزوج لامرأته: أنت طالق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث تطليقات، وكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول أو الفعل من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وإقرار.
ونوقش: بأنه قياس مع الفارق، للإجماع على اعتبار الطلقة المفردة في الطلاق، وبينونة المعتدة منها بانتهاء العدة، وعدم اعتبار الشهادة الواحدة من الأربع في اللعان.
وللمستدل أن يقول: هذا الفارق مسلم، ومعه فوارق أخرى بينهما، انفرد كل من الطلاق واللعان بشيء منها، لكنها ليست في مورد قياس المستدل هنا، فإنه وارد فيما يعتبر فيه تكرار الفعل أو القول، ولا يعتد فيه بالاكتفاء بذكر اسم العدد، وليس من شرط سلامة القياس اشتراك المقيس والمقيس عليه في جميع صفاتهما، بل إن اعتبار هذا لا يتأتى معه قياس؛ لأن كل شيئين لا بد أن ينفرد كل منهما عن الآخر بخاصة أو خواص، وإلا كان عينه.
واستدلوا: بما روي من الآثار في الإفتاء بذلك عن ابن عباس وعلي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم.
ونوقش: بأن ما روي من ذلك عن طاوس عن ابن عباس مردود، فإن لطاوس عن ابن عباس مناكير منها روايته هذه الفتوى عن ابن عباس.
وأجيب: بأن طاووس بن كيسان قد وثقه ابن معين، وسئل أيهما أحب إليك طاوس أم سعيد بن جبير؟ فلم يخير بينهما، وقال قيس بن سعد: كان طاوس فينا مثل ابن سيرين بالبصرة، وقال الزهري: لو رأيت طاووسا علمت أنه لا يكذب، وروى له أصحاب [الكتب الستة] في أصولهم (1) .
فعلى من ادعى روايته للمناكير عن ابن عباس أن يثبت ذلك بشواهد من رواياته عنه في غير هذه المسألة، أما فيما رواه في هذه المسألة فهو مجرد دعوى في محل النزاع، وما ذكر من مخالفة غيره له في هذه المسألة فغايته أن يكون لابن عباس فيها قولان، روى كل من الفريقين عنه قولا منهما؛ ولذلك قدرتم رجوعه عنها على تقدير صحة روايتها، ثم إن عكرمة تابع طاووسا في روايته هذا الأثر عن ابن عباس وهو من رجال السنة.
ونوقش: بأن رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس معارضة برواية إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب: أن هذا الأثر من قول عكرمة.
وأجيب: أولا: بأنه لا معارضة لجواز أن يكون روي عن كل منهما.
وثانيا: أنه على تقدير المعارضة فرواية حماد بن زيد مقدمة على رواية إسماعيل بن إبراهيم، فإن حمادا أثبت في الرواية عن أيوب من كل من
(1)[تهذيب التهذيب](5 \ 8، 9) .
روى عنه (1) .
المذهب الثالث: أن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها:
واستدلوا لمذهبهم في المدخول بها بما استدل به الجمهور.
وقد تقدم مع مناقشته.
واستدلوا لمذهبهم في غير المدخول بها بحديث أبي الصهباء الذي قال فيه لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر؟ ! قال: بلى.
وقد تقدم الحديث، قالوا: إن التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول بها فيه جمع بين الروايات وإثبات حكم كل منها في حال.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل.
المذهب الرابع: أنه لا يعتد به مطلقا:
لأن إيقاعه ثلاثا بلفظ واحد بدعة محرمة، فكان غير معتبر شرعا، لحديث:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
ورد بأنه لا يعرف القول به عن أحد من السلف، وأن أهل العلم في جميع الأمصار مجمعون على اعتباره والاعتداد به، وإن اختلفوا فيما
(1)[تهذيب التهذيب](1 \ 398، 399) .
(2)
صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
يمضي منه، ولم يخالف فيه إلا ناس من أهل البدع ممن لا يعتد بهم في انعقاد الإجماع.
وقد يستدل لهم أيضا: بأنه كالظهار فإنه لما كان محرما لم يعتبر طلاقا مع قصد المظاهر الطلاق فكذا الطلاق ثلاثا مجموعة.
وأجيب: بالفرق، فإن الظهار محرم في نفسه على كل حال، فكان باطلا ولزمت فيه العقوبة على كل حال، بخلاف الطلاق فإن جنسه مشروع كالنكاح والبيع؛ ولذا امتنع في حال دون حال، وانقسم إلى صحيح وباطل أو فاسد.
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. . .
حرر في 19 \ 9 \ 1393 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع
…
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (18) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة، المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ بحث مسألة (الطلاق الثلاث بلفظ واحد) واستنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء، والتي تنص على: أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة في ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ في هذه الدورة جرى دراسة الموضوع.
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع (الطلاق الثلاث بلفظ واحد) .
وبعد دراسة المسألة، وتداول الرأي، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قول من إيراد - توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا؛ وذلك لأمور أهمها ما
يلي:
أولا: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2)
فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة، وما كان صاحبه مخيرا بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان. وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلم يكن طلاقا للعدة، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) وهو الرجعة حسبما تأوله ابن عباس رضي الله عنه حين قال للسائل الذي سأله - وقد طلق ثلاثا -: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك.
ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثا مثلا فقد ظلم نفسه، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثا فلا يقع من طلاقه إلا واحدة، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المخرج واليسر، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة، فلقد جعل الشارع على من قال قولا منكرا لا يترتب عليه مقتضى قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
سورة الطلاق الآية 2
(4)
سورة الطلاق الآية 2
المظاهر من امرأته بكفارة الظهار، فظهر والله أعلم: أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثا بإنفاذها عليه وسد المخرج أمامه، حيث لم يتق الله فظلم نفسه وتعدى حدود الله.
ثانيا: ما في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها: «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1) » ، فقد ذكره البخاري رحمه الله تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا) ، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بن وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات.
ورد الحافظ ابن حجر رحمه الله الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فلا مانع من التعدد، فإن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها، ثم قال: وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب. اهـ.
وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاوس «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (2) » إلخ. . .) فإن الحال لا تخلو من أمرين: إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة أو متفرقة، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج، وإن كانت متفرقة
(1) صحيح البخاري الطلاق (5261) .
(2)
صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
فلا حجة في حديث طاوس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة، وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه.
ثالثا: لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة رحمه الله حيث يقول: ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. والقرطبي رحمه الله حيث يقول: وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. اهـ، وغاية ما يمكن أن يتجه على المطلق بالثلاث لومه على الإسراف برفع نفاذ تصرفه.
رابعا: لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل، استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول، من أن «ثلاثا جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة (1) » ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل، حيث قال: ومن قال: لا لغو في الطلاق فلا حجة معه؛ بل عليه؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن أبو داود الطلاق (2194) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) .
ذ كره. اهـ.
فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق بل هو من صريحه، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقيه بلا مسوغ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله.
خامسا: إن القول بوقوع الثلاث ثلاثا قول أكثر أهل العلم، فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب رحمه الله قوله: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة، إذا سبق بلفظ واحد. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بحثه الأقوال في ذلك: الثاني: أنه طلاق محرم ولازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين. اهـ.
وقال ابن القيم: واختلف الناس فيها - أي: في وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب: أحدها: أنه يقع، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ.
وقال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف.
وقال ابن العربي في كتابه: [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] : قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة، ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل. . . إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، إلى أن قال: وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة. اهـ.
سادسا: لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس رضي الله عنه: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة (2) » إلى آخر الحديث، مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي:
(أ) ما قيل من أن الحديث مضطرب سندا ومتنا:
أما اضطراب سنده: فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
عباس.
وأما اضطراب متنه: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، وتارة يقول:«ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة (1) » .
(ب) قد تفرد به عن ابن عباس طاوس، وطاووس متكلم فيه من حيث روايته المناكير عن ابن عباس، قال القاضي إسماعيل في كتابه [أحكام القرآن] : طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس، وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث، وقال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال: رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب.
(ج) ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث شاذ من طريقين:
أحدهما: تفرد طاوس بروايته، وأنه لم يتابع عليه، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى طاوس، وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. الثاني: ما ذكره البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، وقال ابن التركماني: وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. اهـ.
فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فقد قال للأثرم وابن منصور: بأنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد، لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
(د) أن حديث ابن عباس يتحدث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها، وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق أحادي عن ابن عباس فقط، ولم يروها عن ابن عباس غير طاوس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير، ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصول من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة، ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته، فقد قال صاحب [جمع الجوامع] عطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر: والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ.
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اهـ.
فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره، ولا شك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحادا مع توفر الدواعي لنقله.
(هـ) ما عليه ابن عباس رضي الله عنه من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها، يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر رضي الله عنه من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر من أنه يجعل واحدة.
فلا يخفى خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه، وإلى قوته رضي الله عنه في الصدع بكلمة الحق التي يراها، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول:
قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
(و) على فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء بما عليه الحال المعتبرة شرعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر - يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد، ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه.
(ز) ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس؛ لأنهم قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة. وهذا مشكل، ووجه الإشكال: كيف يقرر عمر رضي الله عنه وهو هو تقى وصلاحا وعلما وفقها - بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها، وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام، ونعني بالطرف الآخر: الزوجات، حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج، وحقوق الرجعة، مما يدل على أن حديث طاوس عن ابن عباس فيه نظر.
وأما المشايخ: عبد العزيز بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله خياط، وراشد بن خنين، ومحمد بن جبير - فقد اختاروا القول بوقوع الثلاث واحدة، ولهم وجهة نظر مرفقة، وأما الشيخ صالح بن لحيدان فقد أبدى التوقف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الرابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط مخالف
…
عبد العزيز بن صالح
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان
…
صالح بن لحيدان
…
محمد الأمين الشنقيطي
عبد المجيد حسن
…
سليمان بن عبيد
…
راشد بن خنين
عبد الله بن منيع
…
عبد الرزاق عفيفي
…
عبد العزيز بن باز
محمد الحركان
…
صالح بن غصون
…
محمد بن جبير