الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الأول
أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة
…
أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة:
لماذا اخترت هذا الموضوع، واتجهت هذه الوجهة؟
ولماذا آثرته بالدرس، وخصصته بالعناية؟
سؤال لابد أن يثور في النفس، ويجول في القلب، ويخطر بالبال، ويتردد عند القارئ والكاتب على السواء.
لقد وقفت طويلًا بين مختلف الموضوعات، ومتنوع البحوث، وعرضت على الفكر، ووضعت في ميزان الترجيح والاختيار كثيرًا من المسائل التي يصح أن يعالجها الباحث، ويصول في جانبها وأرجائها الكاتب، فلم أجد موضوعًا أكثر جِدَّةً، وأجمل طرافة، وأخلق بالدرس، وأحق بالاستقصاء، وأجدر بالاحتفال، من هذا الموضوع الذي عنيت بالكتابة فيه.
وطالما حاول العارفون أن يثنوا عزيمتي، ويطامنوا من نشاطي، ويفُلُّوا من رغبتي، ولعلهم أشفقوا عليّ من هذا البحث المتشعب الأطراف، الشاسع الأرجاء، المتوعِّر المسالك، الذي يضني القوي ويفني الجهود، وخاصةً أنه ليست له مراجع محدودة، ولا مصادر معلومة، يمكن أن يفيء إليها الإنسان، ويستمد منها آراءه وأفكاره.
بيد أني لم أستمع لنصحٍ، ولم أحفل بإشفاقٍ؛ لأني أردت بهذا البحث أن يكون تحيةً خالصةً صادقةً للأزهر في عيده الألفيّ، ويسعدني أن أنوب عن الأمة في هذه التحية، وكل جهد في ذلك قليل، وكل عناء في ذلك سائغ وحبيب.
وكان من واجب الأزهريين أن يحتفلوا بالعيد الألفيّ لهذا المعهد الخالد من يوم أن أشرفت هذه الألف على التمام، وكان من واجب الأمة أن تنهض
بهذا الاحتفال تخليدًا لذكرى هذه الجامعة العظيمة، وتمجيدًا للتراث الأدبيّ والعلميّ الذي أثمرته هذه المواهب الخصبة، وتلك القرائح الطيبة، ولكن العزائم انتكثت، والقوى تخاذلت.
وإنَّ ما يبعث الأسى في النفوس أن يقوم كل يوم احتفالٍ بالمهزولين من الرجال، يزعم أنهم عظماء ومفكرون وقادة وأبطال، ثم لا يكون لأدباء الأزهر وعلمائه وعظمائه في عشرة قرون من هذه العناية نصيب.
ولقد قلت لنفسي إذ رأيت دار العلوم تكرِّم نفسها بمضيِّ خمسين عامًا على إنشائها، ومدرسة المنصورة الابتدائية حيث تحفل بعيدها المئويّ.
قلت لنفسي إذ رايت ذلك: أكان الأزهر أهون من هاتين شأنًا وأقل خطرًا، أم أن العزائم إذا انحلَّت أغضت على كل واجب، واستهانت بكل عظيم.
وأردت كذلك أن يكون هذا البحث آيةَ وفاءٍ لمعهدٍ حرس الدين، واحتضن اللغة ما أربى على الف عام، ثم لم يجد إلّا عقوقًا وجحودًا، ولم يصادف إلّا كفرانًا وكنودًا، حتى رتع الناس في ربيعة، ثم انقلبوا عليه، وتفيأوا ظلاله، ثم رجعوا سهامًا تُصَوَّبُ إليه.
وأحببت أن يعرف الذين حيل بينهم وبين العرفان أعمدة الدولة التي بناها الأزهر، وأصول النهضة التي غرسها ودعمها، في وقت كانت الأمة فيه ترزح تحت أعباءٍ مرهقة من أوزار الماضي وسيئاته.
وأقبح شيء بالإنسان أن يستمتع بنعيمٍ لم يعرف مصدره، وأن يغرق في سعادة لم يشكر صاحبها.
ولو أن الأمة تلفتت لفتة سريعة إلى الوراء؛ لآمنت بأن الأزهر بعثها بعد رقدةٍ، وأيقظها إثرَ غفوةٍ، وأنه أخذ بيدها إلى قمة العظمة في كل ميدان، فقد كان العامل الأهم في نضجها السياسيّ، وفي تفتحها العلميّ، وفي نهوضها الأدبيّ، وفي وثوبها الفكريّ. ومن كان في شكٍّ من ذلك، فليقرأ هذا البحث
ليرى جهاد الأزهر وعمله وآثاره التي نُقِشَت على صفحة الزمان.
ومع العصبية القوية التي تثور في نفس الإنسان، وتتملكه لمعهده الذي ارتضع لبانه، واغتذى بثقافه.
ومع أن هذه العصبية تحل في نفسي أعز موضع، وأسمى مكانة، لم أدع للأزهر فضيلة لم يسلمها له عداه، ولم أخترع له مزايا لم يلمس الناس أقباسها، ولم ينتفعوا بأضوائها الساطعة، وأنوارها اللامعة، ولكنى حاولت ما استطعت أن أنشر من مفاخره ما طواه النسيان، وأذكر من مآثره ما عدا عليه الزمان، وأن أكشف عن تلك الكنوز المدفونة، والأعلاق النفيسة المكنونة، التي قامت عليها النهضة الأدبية الحاضرة.
ولعل المطَّلِعَ على هذا البحث يروعه ويهوله ما صادفني من عقباتٍ لم تستطع على وفرتها وضخامتها أن توهن من عزمتي، أو تَفُلَّ من همتي، أو تفتر من رغبتي، أو تضعف من نشاطي المشتعل؛ فقد كان من حظي أن أتحدث عن موضوعٍ لم يأخذ من التاريخ حظًّا كثيرًا ولا قليلًا على جلاله وخطره، وأن أترجم لأناس لا تستطيع أن تلقف آدابهم إلّا مشافهةً وسماعًا، وكثيرًا ما تتضارب الآثار، وتتناقض الأخبار، وأجدني مضطرًّا إلى إطالة الوقوف، وإدمان النظر حتى يستبين لي وجه الصواب، وينكشف قناع الحقيقة.
على أن المتاعب التي كابدتها صابرًا، وتحملتها راضيًا، كانت خليقةً أن تثير في النفس شيئًا من المضاضة والألم، ومن التراجع والنكوص، ولكني صبرت وامتثلت؛ فقد كان كثيرٌ من الأعلام الذين ترجمت لهم ودرستهم لا يستطيع الكاتب أن يصل إلى شيء من آثارهم وأخبارهم إلّا بالاتصال بأهلهم، والذين خالطوهم وعاشروهم، ومن هؤلاء شربت المرَّ، وجرعت الألم كئوسًا مترعة، فقد كان أكثر هؤلاء لا يقدِّرون سمو الغاية التي انتدبت لها، ولا شرف المقصد الذي أخذت نفسي به.
وطالما كاتبت فريقًا منهم وهم متعلمون مثقفون، وتشفعت إليهم بالوسطاء والشفعاء، فلم أصل من ورائهم إلى طائل، بل لم أظفر حتى يرجع الجواب، ورُدَّ الخطاب.
وكان بعضهم يكاد يضيّع وقتي في التردد عليه، والوقوف ببابه، ثم لا يكون نصيبي منه آخر الأمر إلّا حكايةً معادةً أو قصةً مسرودة، وبعضهم كان من الجهل والانصراف والنسيان بحيث لا يعي شيئًا عن المترجَم له حتى تاريخ وفاته، وقد شهد كثيرٌ من جُلَّةِ الأساتذة طرفًا من هذه القصة الفنية.
ومن بلائي في هذا البحث، وماعنيت به في سبيله، أني إذ عَزَّت المراجع، وتعسَّرت المصادر، عدت إلى الصحف والمجلات التي أنشئت من مستهلِّ النهضة إلى اليوم، فقرأتها، واستقرأتها، نشدانًا لحديث يقص خبرًا، أو يسوق أثرًا، أو يهدي من ضلال، وينير من ظلام.
ويعلم الله كم كانت أناملي من تصفحها، وكم قذيت عيناي من تتبعها، بل لعلِّي أدمنت النظر في مصادر لا تمت إلى الموضوع بصلةٍ في عنوانها، ولكني تلمست بالنظر فيها العثور على ما له بالبحث سبب قريب أو بعيد، وكثيرًا ما أفدت من هذا الجهد، ولكن بعد تعنية وضنى وطول اصطبار.
وربا خدعتني العناوين، وأغرتني دلالتها، فطرت شوقًا إليها. وكلفت بإجالة النظر فيها، ثم لم أعد منها إلّا بما يعود به الظامئ من السراب.
ثم إن الكتابة في عَلَمٍ من الأعلام أيسر كلفةً، وأقل جهدًا، وأضأل مشقةً، من الكتابة في هذا الموضوع المتسع المتشعب، الذي لا ينتهي المرء من جانبٍ منه، إلّا أطلَّت له جوانب تتطلب الدرس، وتحتاج إلى الكشف والتجلية.
ولقد كانت لي مندوحة عن الاستيعاب والاستقصاء، فلو أني تحدثت عن الأزهر والخطابة، أو الصحافة، أو الكتابة، أو الشعر مثلًا، لكان مادةً غزيرةً للكلام، ولكني آثرت أن يكون الحديث شاملًا، والبحث مستكملًا أطرافه ونواحيه.
وإذا كانوا يقولون: إن اختيار الرجل قطعةً من عقله، فهذا من غير شكٍّ قطعة أو جذوةً من عاطفتي، وخفقة من وفائي، لمعهدٍ عتيدٍ مجيدٍ، يدين له بالوفاء والإخلاص كلُّ عاقلٍ رشيدٍ.
ولست أدعي أني خير من كتب، ولكني أفاخر بأني أول مَنْ كتب وبوَّبَ ورتَّب، بل لعلي مبتكر هذا البحث، ومبدع ذلك التحقيق، والناهض بتناول نواحٍ منه، لم يسبقني إليها سابقٌ؛ ففي البحث، عدا ما فيه من جهد ودراسة، تراجم لفريق من أدباء الأزهر، لم يظفروا من قبلي بيراعٍ يجول في حياتهم وآثارهم، أو يحاول. وفيها حديث مستفيضٌ عن شخصياتٍ لم يتح لها من التحقيق إلّا عجالة لا تنقع ظمأً، ولا تشبع نهمًا، فأجلت فيها القلم، وعبَّدتُ طريق بيانها وتوضيحها حتى أشرقت واستبانت جوانبها.
ومما ابتكرته، وكنت أول متناولٍ له، حديثي في المصححين الأزهريين الأدباء عن الشيخ، محمد قطة العدوي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، وفي خطباء الأزهر الدينيين، عن الشيخ محمد مصطفى المراغي، والقضائيين، عن إبراهيم الهلباوي.
وفي الكتَّاب عن الشيخ "محمد شاكر" والشيخ "عبد العزيز البشري" وفي اللغويين الأدباء عن الشيخ "سيد المرصفي" والشيخ "حسين والي" وفي الشعراء عن الشيخ "عبد الرحمن قراعة"
على أن حديثي عن الشعراء عامةً حديث دراسة وتفصيل وتحليل واستيعاب لم أسبق إليه، ولم أجر فيه على نهجٍ ابتدعه غيري.
فهذا البحث على هذه الصورة المشرقة، وفي هذا العناء الممض، وفي هذا السمت الخاصِّ، هو من جهدي وعملي، وقد توخيت فيه أن أضيف كل فكرة لصاحبها، وأن أنسب الرأي الذي أرتضيه لمرتئيه، ولو اتفق خاطري مع أحد من الذين كتبوا ودرسوا نسبت الرأي إليه مبالغةً في الحيطة، وإيغالا في الحذر.
أما بعد:
فقد أنفقت في كتابة هذا البحث عامين لم أضيع وقتَا، ولم أفلت فرصة،
وقد جهدت أن يكون مستوعبًا شاملًا، يجد المطَّلِعُ عليه ما تصبوا إليه نفسه من ألوان المعرفة.
وعلى رغم ما لقيت وما بذلت، أعترف بأن بحثي هذا لم يبلغ حَدَّ الكمال، ولا يزال هنالك من أدباء الأزهر من يخلق بالباحث أن يتحدث عنهم، وأن يعرض صفحةً من حياتهم وأدبهم، فعسى أن أنهض في فرصة مواتية بإتمام ما بدأت -إن شاء الله تعالى.
بل إني لأهيب بالعلماء، وبعشاق الأدب، أن يجعلوا ذلك من آثار عنايتهم، ومظاهر احتفالهم.
وأسأل الله أن يكتب لنا التوفيق والسداد، وأن يهيء لنا من أمرنا رشدًا بفضله وكرمه.