الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتماد محمد علي في إنشاء المدارس على الأزهر:
حين آلت ولاية مصر للمغفور له محمد علي باشا، اتجه عزمه إلى تأسيس دولةٍ عربيةٍ يرفع علمها، ويبدد آثار الجهل والانحلال اللذين خيَّمَا على البلاد في عهد المماليك، ولم يأل جهدًا في إنعاش الحياة العلمية والأدبية بشتى الوسائل التي كان منها إنشاء المدارس؛ لتنشر العلوم والفنون والآداب، وتهيء للبلاد ما تتطلبه من الثقافة الغربية والعلوم الحديثة؛ كي يتخرج فيها شبابٌ ناهضٌ يعمل على تحقيق مجدها.
ولم يجد محمد علي باشا نواةً صالحةً تقوم عليها هذه المدارس إلا من شباب الأزهر، فقد وجد فيهم دعامة نهضته الجديدة، فحملوا لواءها، وعضدوا اللغة العربية التي كانت التركية مزاحمة لها إلى ذلك الحين، وقامت عليهم الجمهرة العظمى من المدارس التي أسسها في صدر النهضة؛ كمدارس الطلب، والألسن، والمهندسخانة، وغيرها.
الأزهر ومدرسة الطب:
لما استقرَّ أمر مصر لمحمد علي باشا، أراد أن يوطِّدَ أركانه، ويثبّتَ دعائمه بجيش قويّ يدعم الأمن ويصدُّ المغير، واستلزم ذلك إنشاء مدرسةً تخرج الأطباء الذين يأسون الجرحى، ويردون الأوبئة إذا هبت ريحها، فأنشأ هذه المدرسة في سنة "1242هـ-1826م" بجهة أبي زعبل، ثم نقلت إلى قصر ابن العيني في سنة "1838م" فاستقدم لها أساتذةً من الغرب، وأسند رئاستها إلى الطبيب "كلوت بك الفرنسي" الذي كان قد استوفده لجيشه.
وعلى رغم أن هذه المدرسة قامت على تلاميذ من المصريين وغيرهم، فإن الأزهريين كانوا أغلب تلامذتها؛ إذ جلبت لها مائة تلميذ من طلبه الأزهر
ودرَّس لهم معلمون جلبهم لها من بلاد الإفرنج1.
ويقول كلوت بك في تقريره: "فقد اختير هؤلاء التلاميذ من بين الطلاب المترددين على الأزهر والمساجد الأخرى".
وكان كثيرٌ من الناس يرى أن التشريح لا يتفق مع الدين الإسلاميّ الذي يرعى حرمة الموتى، وبالغ بعض الكتاب فزعم أن الحكومة تأتي بمدرسة الطب إلى "أبي زعبل" لإبعادها عن أنظار المسلمين الذين يبغضون تشريح الموتى، ولكن الأزهر لم يقف في سبيل العلم، فأباح وسائله؛ إذ استعان كلوت بك مدير المدرسة بعلمائه، ودعاهم إلى المدرسة فلبوا دعوته، وخطبوا بها.
ولا يذهب عن مؤرخ الأدب في العصر الحديث أن يضيف أكبر الفضل في انبعاث اللغة العربية واتصالها بالعلم والفن الحديثين إلى هذه المدرسة2.
وذلك أن آداب اللغة العربية كانت إلى ذلك الحين غير متابعة للآداب الغربية التي توافيها قرائح الغرب كل يوم بجديد، ولم يكن من الميسّر الوقوف على ما يساوق العلوم الحديثة؛ من ألفاظ وصيغ ومصطلحات، وكانت لغة الدراسة بمدرسة الطب أجنبيةً، فاضطر المترجمون أن يقوموا بين الأساتذة والتلاميذ، فنيقلوا درسوهم إلى العربية، وهنا يقوم نبهاء الأزهر في هذه المدرسة بجهدهم الجبّار؛ إذ يقلبون في معاجم اللغة العربية، ويفتشون في الكتب العلمية القديمة؛ ليعثروا على الصيغ والمصطلحات التي تلائم الصيغ والمصطلحات الغربية، فنشروا ثروةً لغويَّةً كانت مطويةً، وواءموا بين اللغتين ما واتاهم الجهد في التعبير والأداء.
هذا عدا ما كانوا يبذلونه من تصحيح هذه الدروس بعد نقلها إلى العربية، فقد كان يقوم على تصحيح الدروس التي ينقلها إلى العربية هذا المترجم الأزهريّ
1 الخطط التوفيقية ج3 ص88.
2 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص294
بالمدرسة، لعله الشيخ مصطفى كساب، الذي ظلَّ بالمدرسة حتى أواخر عصر محمد علي1.
الأزهر ومدرسة الألسن:
أنشأ محمد علي باشا هذه المدرسة في سنة "1836م" وجعل مقرَّها الأزبكية2.
وقد استقت هذه المدرة طلابها من الأزهر، وقام على تدريس اللغة العربية والأدب العربيّ فيها أبناء الأزهر، وكانت الكتب التي تدرس بها كتب الأزهر؛ كالأجرومية، والسنوسية، والشيخ خالد، وغيرها، وكتب العلوم الحديثة التي يراد نقلها إلى العربية، كان يقوم بترجمتها، ويسهر على تصحيحها أبناء الأزهر، وفي "الخطط التوفيقية" أن هذه المدرسة كان يدرس بها اللغة العربية والإفرنجية والأدبية، وخرج منها كثيرون من المترجمين والشعراء، وفيها ترجمت كتب كثيرة أدبية من اللغة الفرنجية إلى العربية3.
وقد دلنا على العلوم التي كانت تدرس بهذه المدرسة، مما كان عاملًا قويًّا في بناء النهضة الحاضرة، المرحوم "أحمد أفندي عثمان الوفائي" حيث قال:
"وكانت دروسنا في مدرسة الألسن عبارةً عن علوم اللغة الفرنساوية، والعربيّ؛ كالنحو، والمجاز، والمنطق، والبديع، والعروض، والأدب، والجغرافيا، والحساب، والهندسة، والطب، والتاريخ، والخط، والرسم، وذلك غير حفظ الدواوين، ولما كُلِّفْنَا بحفظها، حفظت ديوان ابن الفارض، وابن معتوق، والبرعيّ، وابن سهل، وبانت سعاد، والهمزية، وغير ذلك مِنْ خزانة الأدب، وحلبة الكميت.
ثم ذكر أنه حضر الفقه على مذهب أبي حنيفة حين كان يدرس في مدرسة الألسن على يد الشيخين: المنصوريّ والرشيد4.
1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ3 ص487.
2 تقويم النيل لأمين سامي جـ2 ص416.
3 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص576.
4 المرحوم مصطفى صادق الرفاعي وحي القلم ج3.
وكان قد أنشئ بها قسمٌ لدراسة العلوم الفقهية، يتكون من أربعين تلميذًا يتلقون الدرس في الفقه على المذاهب الأربعة، حتى إذا أتموا دراستهم عينوا قضاةً بالأقاليم، وكان يقوم بالتدرييس لهم الشيخان اللذان ذكرهما الوفائيّ، وكان مدير المدرسة الذي يشرف على شئون التعليم فيها المرحوم "رفاعه رافع" وقد تولى تدريس الفلسفة والترجمة بها بعد عودته من البعث.
ويقول "عبد الرحمن الرافعي":
"كانت مدرسة الألسن عبارةً عن كليِّةٍ تدرس فيها آداب اللغة العربية واللغات الأجنبية، وخاصّةً الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية، والإنجليزية، وعلوم التاريخ، والجغرافيا، والشريعة الإسلامية، والشرائع الأجنبية، فهي أشبه ما تكون بكلية الآداب والحقوق، فلا غرو أن كانت أكبر معهد لنشر الثقافة في مصر1.
تقدير محمد علي أبناء الأزهر:
ومن طريف ما يذكر أن "محمد علي" لمس نبوغ الأزهريين وجدهم وتبريزهم وتفوقهم على غيرهم في المدارس التي كانوا يتعلمون بها، فأصدر أمره بتخصيص ماهيةٍ شهريةٍ قدرها: أربعون قرشًا للذين صار إلحاقهم من مجاوري الجامع الأزهر بمدرسة المهندسخانة، بالنسبة لمعلوماتهم ومهارتهم، فمثل هؤلاء لا يقاسون بغيرهم من التلامذة المخصص لهم 15 قرشا شهريًّا2.
1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص487.
2 تقويم النيل لأمين سامي ج2 ص487.
إمداد الأزهرللمدارس الابتدائية والتجهيزية والخصوصية:
حين اتسع نطاق التعليم وأنشئت المدارس الابتدائية والتجهيزية، وغلب العنصر المصريّ فيها، واشتد الاهتمام باللغة العربية وتعليمها، لم يكن أمام الحكومة مورد ثروة لتغذي به هذه المدارس إلّا الأزهر، فاعتمدت عليه تلتمس عنده الطلبة والمدرسين، ولجأت إلى كتبه في تعليم اللغة العربية، وأدخلت في هذه المدارس طريقة الأزهر في التعليم، أجل، فقد كانت اللغة العربية سواء في مدارس المبتديان أو في التجهيزية، والخصوصية، هي المادة الأساسية، في خطط الدراسة، ودرس علماء الأزهر في مدارس المبتديان كتب السنوسية والأجرومية والألفية والكفراوي، وفي المدارس التجهيزية كتب الشذور وقطر الندى والشيخ خالد وغيرها؛ فكانت أزهرًا في وضعه وثقافته1.
ولم يكن علماء الأزهر وحدهم ليقوموا بتدريس اللغة العربية في هذه المدارس فحسب، بل كان منهم رؤساء المدرسين في مكاتب المبتديان، والتجهيزية، والخصوصية.
وقد نص في قانون التعليم الابتدائيّ الذي صدر في سنة "1386" على أن يكون نظار المبتديان من علماء الأزهر، بعد أن ارتفعت الشكوى من جهل النظار الأولين الذين كانوا من مشايخ القرى، فقد كانوا جهلاء ضعفاء الإدارة، فاسدي النظم، وكانت إدارتهم لهذه المدارس في مستهلِّ نشأتها مدعاةً لكثير من العبث والانحلال والفساد، فكان لإحلال الأزهريين
1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص576.
محلَّ هؤلاء في الإشراف على الحياة التعليمية بهذه المدارس أثرٌ ملموس في صلاح الإدارة وحسن التوجيه.
ولا ريب أن علماء الأزهر بروحهم الدينيّ الجذّاب، وتضلعهم في اللغة العربية وآدابها، كانوا خير من عرفتهم هذه المدارس، وأبلغ من وجدت فيهم النفع الجمَّ والرعاية الرشيدة1.
ومن هؤلاء الذين أشرفوا على هذه المدارس من علماء الأزهر، فكانوا مثالًا يحتذى في النزاهة والتوجيه والنهوض بالنشء، الشيخ: خليل الخوانكي، ناظر مدرسة الرحمانية، والشيخ: غنيم سالم، ناظر مدرسة شبراخيت، والشيخ: أحمد عصافيري، ناظر مدرسة دمنهور، والشيخ: محمد حسن، ناظر مدرسة أبيار، والشيخ: رضوان بالي، ناظر مدرسة الحلمية الكبرى، والشيخ: وهبه مصطفى، ناظر مدرسة بندر زفتى، والشيخ: محمد كفافي، ناظر مدرسة شربين، والشيخ: سليمان الخطيب، ناظر مدرسة ميت غمر، والشيخ: أحمد الشيخ، ناظر مدرسة فارسكور، والشيخ: علي القهتيم، والشيخ: جوده مصطفى، ناظر مدرسة ميت غمر، والشيخ: محمد عبد الرحمن، ناظر مدرسة الزقازيق.
ومن هؤلاء المدرسين الذين تولوا التدريس بهذه المدارس من شيوخ الأزهر، وعُرِفَ عنهم الجدُّ والميل إلى البحث والتحقيق، طائفةٌ حدَّث عنهم علي مبارك في خططه، كالشيخ: محمد قطه العدوي، والشيخ: الدمنهوري، والشيخ: علي فرغلي الأنصاري -وهو ابن خالة رفاعة بك، والشيخ: حسنين حريز الغمراوي، والشيخ: أحمد عبد الرحيم الطهطاوي، والشيخ: عبد المنعم الجرجاوي.
1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص576.