الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ إبراهيم الدسوقي:
المتوفى سنة 1300هـ 1883م"
هو السيد إبراهيم الدسوقي، الشهير بعبد الغفار، من نسل موسى الدسوقي، أخي سيدي إبراهيم الدسوقي بدسوق، من أسرة تنتمي إلى الحسين بن عليّ أبي طالب رضي الله عنهم.
ولد ببلدة دسوق سنة 1226هـ-1811م، ومات والده وهو صغير، فحفظ القرآن ببلده، وكان بها معهد ديني صغير، يعتبر صورةً مصغرةً من الأزهر، فتلقى بعض دروسه فيه، ثم قدم إلى الأزهر، فحضر دروسه على كثير من الأساتذة الأعلام، أمثال الشيخ: أحمد المرصفي، والشيخ: محمد عليش، شيخ المالكية، كما تلقى العلم عن علماء بلده، أمثال الشيخ: محمد عرفة الدسوقي، والشيخ: مصطفى البولاقي، وقد أفاد من هؤلاء المعقول والمنقول، ولكنه كان أكثر تأثرًا بالشيخين: مصطفى البولاقي، وأحمد المرصفي، أما الأول: فقد أخلص له؛ لأنه من بلده، وله به صلة قرابة، وقد كان على رغم تبحره في العلوم الأزهرية، ميّالًا إلى العلوم الرياضية؛ كالحساب، والهندسة، والفلك، وأدَّاه شغفه بهذه العلوم إلى مصادقة مشهوري الرياضيين؛ كمحمود باشا الفلكي، وأساتذة مدرسة المهندسخانة، وبرع في هذه العلوم حتى ألَّفَ رسائل في الجبر والمقابلة وحساب المثلثات.
وأما الشيخ أحمد المرصفي: فقد كان ذا نزعةٍ أدبية ٍإلى جانب نزعته الفقهية، واسع الاطلاع، عذب الحديث، صحب أحد المماليك، وسافر معه إلى الصعيد مدة عامين، وقد اقتبس الدسوقي من شيخه هذا توجيهًا أدبيًا، أجدى عليه في مستقبل حياته.
ظل الدسوقي يطلب العلم في الأزهر حتى تأهل للتديس فيه، وكان له اعتناء زائد بفن الأدب وقرض الشعر1، وكان رقيق الحال بائسًا، لم يرفه عنه التدريس، ولم يبدد من بؤس وشظف عيشه، ثم أسعده الحظ فعُيِّنَ مساعد مصحح للكتب الطبية بمدرسة أبي زعبل سنة 1248 هـ-1832م، مع الشيخ: محمد عمران الهواوي، فكان أطباء هذه المدرسة يؤلفون ويترجمون ويطبعون، ويساعد هو في تصحيح اللغة وتصحيح الطبع.
1 الخطط التوفيقية ج11 ص9.
ثم نقل إلى مدرسة المهندسخانة، فأصبح رئيس المصححين بها، وكانت تدرس بهذه المدرسة علوم الكيمياء والجبر والحساب والطبيعة والمعادن والهندسة والظل والنظر، وغير ذلك، ولم تكن هنالك كتب في هذه المواد، بل كان التلامذة يكتبون ما يسمعون من المدرسين في كراساتهم، وتفوتهم أشياء كثيرة في تدوينهم، ثم تقدمت المدرسة فأنشئت مطبعة حجر، يطبع بها الأساتذة بعض كتبهم بأشكالها ورسومها، ثم أنشئت في المدرسة مطبعة حروف بجانب الأولى، وكان الدسوقي يقوم على تصحيح هذه الكتب جميعًا، وانتقلت هذه المدرسة إلى بولاق، فكُلِّفَ أمرين:
أحدها: أن يعلم فرقة من تلامذتها علم العربية، وكيفية توفية الترجمة حقها عند النقل من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية.
ولما ألغيت هذه المدرسة في عهد سعيد باشا، انتخب للتصحيح بالمطبعة الكبرى، فصحح جملةً من كتب الطب والكيمياء وغيرها، وكان مع ذلك يعمل في تحرير صحيفة "الوقائع المصرية"، ثم صدر أمر الخديوي إسماعيل باشا بجعله رئيس المصححين لجميع الكتب التي تطبع بهذه المطبعة، على اختلاف فنونها، فأظهر براعةً ودقةً، وأدى عمله على أكمل وجه وأحسنه، ثم فصل منها، ورُتِّبَ له معاش إلى أن استأثر الله به.
صلته بالمسترلين:
حكى عن نفسه مقالةً فيما اتفق له مع بعض الأدباء الإنكليز، تدل على براعته في الأدب، وتمكنه من لسان العرب2 ثم ساق هذه القصة الممتعة الطريفة، وخلاصتها: أنه كان بانجلترا مستشرق إنجليزيّ يدعى "لين" تعلم في بلده، ثم
1 الخطط التوفيقية ج11 ص10.
2 الخطط التوفيقية ج11 ص10.
تخصص في الاستشراق، وجد في التعلم والبحث حتى اعتلّ، ونصح له الأطباء أن يرحل إلى مصر ليستشفي بجوها، فكتب إلى صديق فرنسيٍّ يقال له "فزسنل" كان مقيمًا بمصر، وبينه وبين الدسوقي صلة، حتى أنه يقول عنه: "إنه أريبٌ في لغته، مدل في العربية بمعرفته وفصاحته، حتى أنه شرع معي في عمل شواهد للصحاح، لكنه لم يوفق بإتمامٍ للنجاح.
كتب "لين" إلى "فزسنل" هذا يسأله عن أديبٍ معروفٍ بعنايته للغة وكرم الطبع، فكتب إليه يدله على الدسوقي، وأنه الضالة التي ينشدها، وكان قد سبق أن حضر "لين" إلى مصر وهو في شبابه، سنة "1825م" وجعل عنايته أن يدرس اللغة العربية في أهم مصادرها، وأن يدرس أخلاق الشعب المصريّ وعاداته ومظاهر حياته، فتنقل في الأحياء الوطنية، وكتب مشاهداتٍ وتعليقاتٍ، وعرضها على جميعة في "انجلترا" بعد عودته إليها، فاستحسنتها وأشارت بطبعها، ولكنه رأى أنها ناقصةٌ تحتاج إلى الكمال، فعاد مرةً أخرى إلى مصر، سنة 1833م، وقضى بها قرابة عامين متنقلًا بين القاهرة والصعيد، للوصول إلى غرضه، واتصل بكبار المصريين، وتردد على الشيخ العروسي، والشيخ العطار، وعكف على ترجمة كتاب "ألف ليلة وليلة".
وقَدِمَ "لين" إلى مصر مرة ثانية في سنة 1842م، وأقام بالأحياء الوطنية ليتم ما بدأ، والتقى بالشيخ الدسوقي الصديق الذي يطلبه، والمعين الذي ينشده، وأعد مكتبةً ضخمةً يستعين بها على عمله، واتفق مع الشيخ الدسوقي على برنامج يقيدان به، وهو أن يقرأ كلَّ يومٍ نحو نصف كراسةٍ من شرح متن القاموس، المسمى:"بتاج العروس" للزبيدي، مع البحث الدقيق والدراسة العميقة، ومراجعة ما كان عنده من معتبرات اللغة الصحاح.
ثم يعود "لين" بعد انصراف الدسوقي إلى ترجمة ما فهمه إلى الإنجليزية، فتيسر الترجمة مع القراءة، واستمرا على ذلك سبعة أعوام، أتمَّا فيها تسعة أعشار الكتاب، وكان الدسوقي في طيلة هذه المدة موضع تقدير "لين" وإعجابه.
وقد رَتَّبَ "لين" للدسوقي نصيبًا شهريًّا من المال، تقرَّ به عينه، وكانت عشرتهما هادئة، يحدوها الإخلاص، ويسودها الوفاق والمحبة.
والدسوقي يحدث عن جهد "لين" وجده ونبوغه ونبوغ أسرته، وما تضلع به من مهمةٍ علميةٍ، ورسالةٍ ثقافيةٍ، فهذان الابنان تعلمهما أمهما اللغتين الإيطالية والفرنسية، ويقرأ لهما خالهما شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل، وأصغرهما وهو في الخامسة عشرة من عمره يجيد اللغة الهيروغليفية، يقول الدسوقي: فانظر يا ذا الكسل الذي هو أحلى مذاقًا من العسل، إلى هذا الاستعداد العجيب، والجد الغريب.
ثم يعود "لين" إلى بلاده، بعد أن قضى مع صاحبه العالم الأزهريّ حقبةً من الدهر، ناضرةً في عيشة زاهية زاهرة.
ثم أنقضت تلك السنون وأهلها
…
فكأنها وكأنهم أحلام
ولم يغفل الدسوقي عن العشر الباقي من "تاج العروس" بعد سفر "لين"، بل كان يقابل نسخته بالنسخ الأخرى، ويصحح خطأه، ويفسره غامضة، وينهيه إلى قسيس إنجليزي يقيم بمصر إذ ذاك، يدعى: المستر "ليد" ليرسله إلى "لين" في انجلتزا حتى تتم الكتابة.
وهذا الذي فعله "الدسوقي" مع "لين" إن هو إلّا جهد رائع، ومقدرة فائقة، وعلم يضطلع العزم النافذ والهمة البالغة.
وما من شك في أن الدسوقي أتيحت له بمخالطة المستشرق الإنجليزيّ في هذه المدة المتطاولة، أن يقف على ثقافة جديدة، وأن يطلع على أخلاق وعادات ما كانت تتيسر لغيره إلّا بالرحلة إلى انجلترا.
وما من شكٍّ في أن المخالطة زادت في إدراكه، وبسطت في أفق خياله، ووهبت له وهو الأديب الحساس الفكر المثمر والخيال الطريف.
آثاره:
خرجت من المطبعة الأميرية كتبٌ كثيرةٌ تحمل اسمه، فتجد آخر كل كتابٍ يقوم بتصحيحه خاتمةً يضعها بأسلوبه المسجع المشاكل لأدب عصره، ولما كان لقبه "الدسوقي" كلمة لا يسهل معها السجع، فإنه يحتال إلى إيجاد لفظة تشاكل هذا اللقب، ويتحقق بها السجع، وقد يهجر هذا اللفظ إلى سجعة أخرى أثقل منها صعوبة؛ ليتأتى معها السجع؛ كأن يقول في خاتمة "ابن الأثير": يقول المتوسل إلى مولاه، بالنبي المختار إبراهيم الدسوقي، الملقب بعبد الغفار، خادم تصحيح الكتاب والفنون، بدار الطباعة ذات الطبع السليم المصون".
ويقول في آخر كتاب "تزيين الأسواق": يقول المتوسل إلى مولاه، بالقطب الحقيقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، وفي آخر "شرح العكبري": يقول المتوسل إلى الله بالجاه، الفاروقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي.
ومماصححه صحيح الترمذي، وقد فرغ منه في أوائل شبعان سنة 1292هـ.
وله تقريظ في آخر الجزء الثاني من "الكشاف" يشتمل على ترجمة للزمخشريّ، وقيمة تفسيره.
ومما صححه كتاب "شرح التنوير على سفط الزند" لأبي العلاء المعري، ويقول في آخره ما نصه:
"يقول راجي غفران الأوزار، إبراهيم الدسوقي الملقب بعبد الغفار، تَمَّ طبع هذا الكتاب العذب المستطاب، الجامع لأنواع اللطائف على ذمة جمعية المعارف، المتوفرة دواعي مجدها، المشرقة كواكب سعدها، في ظلال من تحلت به مراتب الخديوية.... صاحب المناقب الشهيرة، والعطاء الجزيل، جناب مصر أفندي إسماعيل.
وكان طبع هذا الكتاب الفائق بهذا الشكل الجميل، والأسلوب الرائق في
المطبعة الزاهرة، ذات الأدوات البهية الباهرة، ببولاق مصر القاهرة، مشمولًا بنظر من عليه أحاسن أخلاقه، تثني جناب حسين بك حسني، ولما حبست عن تصحيحه أدهم اليراعة، انطلق يقرظه في ميادين البراعة، فقال مؤرخًا تمام طبعه، مثنيًا على حسن وضعه:
هات حدث عن البديع المجلي
…
عن بديع القريض في كل فصل
أحمد من أبو أبيه سليما
…
ن المعري، وهو التنوخي الأصل
مودع اللفظ، ساحرات المعاني
…
في رقيق من الأساليب جزل
ثم شَنَّفَ مسامعي بأغانٍ
…
من لحون التنوير شرح لأصل
فهو شرح بيانه للمعاني
…
يسترقُّ النهي بأبدع قول
ذو أساليب كالرياض تحلت
…
بزهور من ياسمين وجل
رق مبني وراق معنى وجلّى
…
عن معان تتحكى سقيط الطل
أحكمت ضبطه عصابة فضل
…
لهمو بالفنون حسن تحلى
أكسبته محلة الطبع حسنا
…
وكسته ثوب الجلال المحلى
إلى أن يقول:
ثم لما تكامل الطبع فيه
…
وكساه التمثيل أحسن شكل
وجمالا وبهجة قلت أرخ
…
تم طبع التنوير يزهو بحل
هذا وقد وافقت طباعته المستحسنة أوائل صفر الخير سنة 1286 من شهور هذه السنة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على صاحب المعجزات وعلى أزواجه وذريته وآله وكل ناسج على منواله.
وصحح الدسوقي كتبا أخرى جاءت مختومة بكلمته الدالة على تصحيحه