الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجمة والتأليف ونهوض الأزهر بهما
مدخل
…
الترجمة والتأليف ونهوض الأزهر بهما:
اتجهت رغبة المصلح الخطير محمد علي باشا إلى أن ينقل الثقافة الغربية المتمثلة في آداب الإفرانج في مختلف مظاهرها، وكتب الطب والطبيعيات والرياضيات وعلوم الاجتماع والاقتصاد والحقوق، فبذل جهودًا عنيفةً في إنهاض الترجمة والتأليف في هذه الثقافات.
الترجمة:
وكان أول ما عَهِدَهٌ المصريون من الترجمة في صدر النهضة، ما قام المترجمون به من نقل الدورس بين الأساتذة والطلبة في مدرسة الطب.
وإذا كان محمد علي قد اعتمد أولًا على الأجانب، واستخدم بعض النزلاء من السوريين والمغاربة في النهوض بهذا العمل الجليل، فإنه وجَّه همته إلى إيجاد طائفة نابهة من المصريين تتولى هذا العمل، ونفذ السير فيه.
فلما عاد المرحوم رفاعة بك رافع من بعثه إلى باريس سنة 1821 كان قد برع في الفرنسية وجوَّهَا، وألَمَّ بطائفةٍ من العلوم الحديثة، فعهد إليه "محمد علي باشا" بالترجمة في مدرسة الطب، وعَوَّلَ عليه في ترجمة كتب الفنون العسكرية والهندسية.
ولم يكن "محمد علي" مطمئنًا إلى أن يشغل أعضاء البعوث عن وظائفهم، والأعمال التي كانوا مغتربين عن أوطانهم للتفرغ لها، والتبريز فيها، ولذلك رفض الاقتراح الذي رفع إليه بأن يجمع أعضاء البعوث المتشغلون بالترجمة في قلم واحد، وآثر أن ينشئ مدرسةً خاصّةً بالترجمة، وهي المدرسة التي أطلق عليها فيما بعد "مدرسة الألسن".
أنشئت هذه المدرسة لتخرج مترجمين، وولي المرحوم رفاعة بك إدراتها، وظلَّ على شئونها إلى أن خرجت طائفة من المترجمين الأفذاذ الذين ترجموا بإشراف رفاعة بك ومعاونته وتوجييه جمهرة من كتب العلوم والآداب
والطبيعيات والرياضيات والطب والزراعة والصناعة وفنون الحرب وغير ذلك.
ولمّا ألغيت اللغة الفرنسية من برنامج الدراسة في المدارس الخصوصية سنة 1836م أصبحت الترجمة مقصورة على تلامذة مدرسة الألسن وخريجيها، وفريق من الأساتذة المصريين المدرسين بالمدارس الخصوصية، ممن أتموا دراستهم بأوربة1.
ولما لم تكن ترجمة العلوم والفنون مقصورةً على معرفة اللغة، بل تستند إلى الإلمام بالعلم، أو الفن المتجرمين، أشارت اللجنة التي نظمت التعليم سنة 1841م بإنشاء قلم خاصٍّ للترجمة، يلحق بمدرسة الألسن، تحت إشراف مديرها المرحوم رفاعة بك، وقد جعل قلم الترجمة مقسمًا إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: لترجمة الكتب المتعلقة بالعلوم الرياضية.
القسم الثاني: لترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية.
القسم الثالث: لترجمة كتب الأدبيات؛ كالتاريخ والقصص والقوانين والجغرافية.
وهكذا أنشيء قلم الترجمة بأقسامه المختلفة، ودبر له ما يحتاج إليه من المترجمين.
الكتب المترجمة:
أما الكتب التي كانوا يتولون ترجمته، فَجُلُّهَا من الفرنسية إلى العربية، وبعضها من الفرنسية إلى التركية، وكان ديوان المدارس يطلب إلى نظار المدارس الخصوصية في كلِّ عامٍ بيانًا بما جدَّ من المؤلفات في المواد التي تدرس بمدرستهم، حتى إذا كانت هي، أو غيرها، مما يرى رفاعة بك ترجمته
1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي للأستاذ أحمد عزت عبد الكريم ص340.
بالكتبخانة الفرنسية المحلقة بمدرسة الألسن، وزعت على المترجمين وإلا أورسل الديوان في طلبها من أوربة1.
وكان أكثر هذه الكتب ضخمًا من أسفارٍ عدة، فيعطي كل مترجم سفرًا كي تتم ترجمته في زمن قصير.
والراجح أن توزيع الأعمال في قلم الترجمة -كما حددته اللجنة التي أشارت بإنشائه في تقريرها- لم يتبع بحذافيره، بل تجوَّز عن كثير مما فيه؛ إذ لم يكن ثمة تخصص في الترجمة، فقد ينتهي مترجم من تعريب كتاب في الكيمياء، فيشرع في تعريب آخر في الزارعة، أو التاريخ، أو تربية الحيوان، وقبل أن يأخذ المترجم في عمله تحدد له مدة معينة، على أن يتم كتابه فيها وإلّا عُدَّ مقصرًا2.
وكان يفحص أعمال "القلم" نهاية كل عام لجنةٌ؛ لتميز الخبيث من الطيب، والمقصر من المجدِّ، ثم توصي بعقاب الأول ومكافأة الثاني؛ إذ تمنح المهمل نصف راتبه فحسب في المدة التي قصر فيها، وتكافئ المجد الذي أتم ترجمة كتابه وطبع كتابه بخمس، ونسخ منه تقدم إليه هدية3.
جهود "رفاعة بك وتلامذته:
وغير خافٍ ما كان يضطلع به رفاعة بك من جهد في الترجمة، والتوجيه والرعاية البالغة مما كان يمضي تلامذته فيه من نقل هذه الثقافة الغربية في كثير من فنونها، حتى استطاع رفاعة بك وتلامذته أن يعقدوا صلة ثقافية بين العربية والعلوم المحدثة، وقد استنفذ ذلك جهدًا وصبرًا وطول مثابرة.
1 دفتر 26 مدارس عربي ص438 رقم 77 إلى مدرسة الألسن في 6شوال سنة 1261هـ.
2 للأستاذ أحمد عزت عبد الكريم ص343.
3 دفتر 17 "مدارس عربي" ص642 رقم 36 إلى الكتبخانة في ذي الحجة سنة 1261هـ.
وفي ذلك يقول المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري:
"فهذا رفاعة الأزهريّ يعود من فرنسا بعد المقام فيها مع إحدى البعثات بضع سنين، وإنه ليقوم في جماعةٍ من لداته وتلاميذه على قلم الترجمة، وقد راحوا يصبون ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، يتوسلون إلى هذا بالبحث فيما أُثِرَ عن الأقدمين تارة بالاشتقاق، وأخرى بالتعريب، وأحيانًا بغير أولئك من وسائل الدلالات، واللغة تتئد في معاناتهم مرةً، وتخف في التيار مرةً، على أنها في الحالين واتت بقدرٍ ما مطالبَ العلم الحديث، فحقق جهدهم فيها وجهدها معهم ما كاد يصل الظن بجملة المستحيل1.
أثر الأزهريين في الترجمة والتأليف:
نهض تلامذة مدرسة الطب بترجمة العلوم الغربية في هذه المدرسة، وبدأ بهذا العمل بها فخر الأزهر المرحوم: رفاعة بك، وكان جل طلبة هذه المدرسة من الأزهريين؛ إذ اعتمدت عليهم في مستهلِّ نشأتها، وكانوا فيما بعد أعلام الطب في مصر.
وقام بالترجمة في مدرسة الألسن رفاعة بك الذي أشرف على قلم الترجمة، ووجَّه القائمين به، وأشار بالكتب التي ترجموها، وكان عماد هذه المدرسة الأزهريين الذين كانوا مثلًا رفيعًا للطلبة في نباهة الشأن وطول المثابرة.
أخرج رفاعة بك وتلامذته الأزهريون ثمراتٍ طبيةٍ مما عرَّبوه من علوم الغرب وآدابه وفنونه، ولما اقتدر هؤلاء الطلاب على التأليف في الثقافة المحدثة، كان رفاعة بك معلهم ومشجعهم وهاديهم إلى هذا الغرض الجليل، فأخرج وأخرجوا معه كتبًا في علوم الغرب وآدابه، فسهَّل بها اطلاع الناس على هذا الثقافات، وتزودوا منها، وأفادوا بها، ووجد كلُّ متأدب بغيته من هذه الثقافة التي أصبحت الترجمة والتأليف مُعَبَّدَة السبيل، سهلة المنال
1 المختار للأستاذ عبد العزيز البشري ج1 ص40.
سائغة الورود، وكان مما أعان هؤلاء الأزهريين على التوفر على التأليف والترجمة؛ إذ ذاك إيفاد كثير من نبغائهم إلى بلاد الغرب فيما أوفد من بعوث؛ إذ اتصلوا بثقافة أوربة، واستمكنوا من لغتها، وكانوا أقرب من هذه الثقافة بالمخالطة والدراسة.
نشرت حركة الترجمة والتأليف ثروة عربية لغوية، اقتضى التعبير بها الكشف عنها، وكانت الترجمة والتأليف حاثًّا للمترجمين والمؤلفين أن يقبلوا في مجفوات الكتب العربية عن مصطلحات وتعبيرات تلائم عملهم الجديد، واسلتزمت حركة الترجمة والتأليف صوغ عباراتٍ تتأدى بها المعاني التي لم يكن في الألفاظ العربية القديمة ما ينهض بها.
واستدعت هذه الحركة القوية أن يلتفت المتأدبون إلى هذه الثقافة الجديدة، وأن يطيلوا الوقوف عند ما حوته من جدة وطرافة، فاتسع الخيال، وأمرع الفكر، واتجه الأدباء متجه الأدب الغربيّ في سهولة أدائه ووضوح تعبيره، واتجهوا إلى المعنى، وتوخوا الفكرة، وانصرفوا عن الصناعة التي كانوا بها كلفين، وكان ذلك بدء حياة جديدة في الأدب العربيّ، سار الأدباء في طريقها، أما رفاعة بك زعيم المؤلفين والمترجمين في صدر هذه النهضة فسنخصه بحديثٍ نطيل الوقوف عنده.
وأما غيره من الأزهريين الذين نهضوا بالترجمة والتأليف إذ ذاك، فهم كثيرون متعددون، وسنبدأ بالكلام عن أشهرهم، مبينين في إيجازٍ طرفًا من حياتهم وآثارهم، ترجمةً وتأليفًا.