الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحرير
الأزهر والتحرير
…
التحرير 1:
لما اتجهت رغبة محمد علي باشا إلى نقل العلوم الحديثة إلى العربية، كان أكثر الذين كُلِّفُوا القيام بهذا العبء ضعفاء على اللغة العربية، وأكثر علماء اللغة العربية يجهلون اللغات الأجنبية، فاحتاج محمد علي إلى مَنْ يحرر الكتب المنقولة، ويضع لها ما تتطلبه من المصطلحات العلمية، ويهيئها للطبع، والذي يسند إليه هذا العمل هو المحرر.
ينتهي المترجم من نقل الكتاب الذي كُلِّفَ نقله من العلوم الحديثة إلى اللغة العربية، فيدفعه إلى المحرر فيقرأه، فإن كان المؤلف أو المترجم موجودًا قرآه المحرر بحضرته، وإلّا قام بدلًا منه عالِمٌ آخر له دراية باللغة الأصلية التي نُقِلَ الكتاب عنها، أو أُلِّفَ بها.
وكان ما يراد نقله من الكتب الحديثة إلى العربية علميًّا فنيَّا مشتملًا على مصطلحاتٍ خاصَّةٍِ، ومن ثَمَّ دعت الحاجة إلى محررين يعرفون هذه المصطلحات، ويدركون مكانها في اللغة العربية، مع معرفة قواعدها وشواردها.
الأزهر والتحرير:
احتاجت الحكومة في صدر هذه النهضة إلى محررين يتقنون اللغة العربية، فلم تجد سوى الأزهريين المجودين اللغة، والواقفين على أسرارها، والقابضين
1 التحرير: في الأصل معناه الإصلاح والتقويم، وفي "الأساس" حرر الكتاب: لفظ المحرر بمعنى حسنه وخلصه، بإقامة حروفه وإصلاح سقطه، ثم استعمل أكثر الكتاب الكاتب، فيقولون المحرر في صحيفة كذا، يريدون: الكاتب فيها، لما أنه يحرر المعاني والعبارات ويخلصهما من كل شائبة.
على ناصيتها، القادرين على البحث والتحقيق العلميّ، فعهدت إلى جمهرة منهم بهذا العمل الجليل، فحرروا الكتب المؤلفة أوالمترجمة في الطب والرياضة وغيرها من مختلف العلوم والفنون.
وكثيرًا ما كان يقوم بهذا العمل رفاعة بك رافع، أو بعض تلامذة مدرسة الألسن الأزهريين، الذين قامت عليهم هذه المدرسة، فيكون المحرر على درايةٍ بمعاني الألفاظ في اللغة الأصلية، ويضع لها ما يلائمها من الألفاظ العربية.
فإذا انتهى المحرر من ذلك "بَيَّضَ" الكتاب وأنهاه إلى المصحيين لقراءة المسودات وتنقيحها قبل طبعها.
وكثيرًا ما كان يتولى العملين معًا -التحرير والتصحيح- بعض الأزهرين الذين لهم براعة في الإلمام باللغة العربية وأسرارها.
ولا ينبغي أن نستهين بما لهؤلاء المحررين من نصيبٍ في هذه النهضة، فقد أظهروا هذه الثروة الضخمة الناشئة عن وضع مصطلحات عربيةٍ مناسبةٍ للمصطلحات الأجنبية، وزاد ذلك في ألفاظ اللغة العربية، وأعانها على تأدية رسالتها، وكثيرًا ما يتطلب هذا التحرير ممن يقومون به تقليبًا في كتب اللغة العربية ومراجعةً للكتب الفنية القديمة؛ كمفردات ابن البيطار؛ لاستخراج المصطلحات العلمية، أو للاستعانة بها على صوغ ما تتأدى به مطالب العلم الحديث.
إذًا لم ينهض القديم بأدائه حتى أصبح للطب في خمس سنين قاموس تزيد كلماته على ستة آلاف كلمة، وكم بذل علماء الأزهر في هذه السبيل من جهد، وكان لهم في النهوض بهذا العبء ما يذكرهم لهم بالحمد والتقدير، وسنتحدث عن أشهر المحررين من علماء الأزهر في صدر النهضة؛ لنرى إلى أيِّ حدٍّ كان جهدهم، وأثرهم، ولنقف على حياتهم.