الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظر علماء الأزهر إلى الشعر:
رسالة الأزهريين دينية خلقية، ينشرون دين الله في الأرض، ويحضون على الفضائل جهدهم، ويدعون إلى مكارم الأخلاق بكل أسلوب، ومن ثم كان طابعهم الجلال وسمتهم الزماتة والوقار، وحديثهم النقي العفيف، يحرصون كل الحرص على أن يكون شعرهم بعيدًا من الفحش لإمامتهم في الناس، ويجهدون أنفسهم في مجانبة ما لا يتفق مع هذه النزعة، أو يجافي ذلك الاتجاه.
وفي هذا الأفق ينظر علماء الأزهر إلى الشعر، وبهذه المثابة يرون رأيهم فيه، فلم يكن من الجائز في نظرهم أن يسرفوا في قول الشعر هجاء وملاحاة، أو يمنعوا في قرضه خوضا في عرض. أو تأريثا لعداوة، ولم يعهد فيهم أن يقولوا الشعر لا يتحرزون فيه عن ذكر الغافلات المقصورات في خدورهن، ورأوا من كرامة العلماء أن يعفوا عن المبالغة في المدح والإطراء، والتدلي إلى الكذب والتجني على الناس، وإذا حاموا حول ذلك في شعرهم، فبقصد واعتدال دون إغراق ولا مغالاة، وهذا الشعور من العلماء، وتلك النظرة منهم إلى الشعر كانت جناية في كثير من الأحيان على كثير من فنون الشعر وأغراضه، فقد أنفوا أن تفيض شاعريتهم في ألوان مختلفة تهتز لها الأسماع، وتخفق لها القلوب، فكان ذلك مضعفا لشعرهم فوق ما ضعف به من ضيق خيالهم، وأفقهم المحدود الذي يعيشون فيه.
والشعر في رأى الشاعر الذي لا يتزمت، ولا يتعفف خيال وتصوير وافتتان لا تحرج ولا تصون فيه، وأعذبه في رأيه أكذبه كما يقولون، ولكنه عندهم في هذا المتجه مجافاة لرسالتهم وزراية بمكانتهم، وذلك هو الذي حمل العلماء على أن يطووا صفحة فيها مجون وطرب، وفيها خفة وغزل، وألا ينشروا
من ذلك إلا الهين المقتصد، وذلك هو الذي حضهم على أن يخفوا عن الناس شعرا أو دعوه مكنون صدورهم، ومجلى أخيلتهم وخفقة أفئدتهم، وجعلهم يشعرون بأن من الشعر ما هو عورات يجب أن تستر، واستهتار لا ينبغي أن يظهر.
وهذا هو "السيد عبد الله نديم" الأزهري الخطيب الكاتب الشاعر تبحث عن شعره الذي تدفقت به شاعريته الفياضة، فلا تهدتدي إلا إلى غيض من فيض وقل من كثر حدث الأستاذ "أحمد سمير المترجم له في صدر مختاراته المعروفة "بسلافة النديم"، أن له ديوانين منظومين يشتملان على سبعة آلاف بيت.
ويقول في تصديره للسلافة، "ولما كان في يافا أول مرة بعث إلى محررًا يكلفني به أن أطلب "ديوان شعره الصغير" من صديقه المرحوم "عبد العزيز بك حافظ"، فلما قصدته وجدته مصابًا في قواه العقلية بما لم يدع للطب مجالا، ثم كتب إلى ثانيا بأن ديوانه الأوسط عند "م. بك. ف"، فطلبته منه فاعتذر بأنه ضاع، فلما أنبأت المترجم بذلك أرسل إلي في مكتوبه الثالث أنه إنما طلبهما ليحرقهما براءة منهما، ومن أمثالها؛ لأن فيهما هجوا كثيرا، وختم المكتوب بهذه العبارة، "وقد خلعت تلك الثياب الدنسة، وليست ثوب:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ".
ذلك هو رأي أحد علماء الأزهر في الشعر، وتلك هي نظرته له فالهجاء في نظره رجس والملاحاة في رأيه ثوب من الدنس، ومن ثم فهو يريد أن يحرق هذا الشعر، وأن يجعل هذه الثروة القيمة حطبا للتاركي يذهب الله عنه الرجس ويطهره تطهيرًا.
وهذا شاعر آخر من شعراء الأزهر الفحول، وهو المرحوم "الشيخ علي الليثي" يلعن من يطبع ديوانه المخطوط المحفوظ؛ لأنه يخشى حسابه على ما أودعه من قول يزعم أن فيه منافاة للورع والتقية.
ولعلي لم أسمع أن شاعرا آخر معاصرا غير أزهري طاوعته نفسه أن يحرق شعره؛ لأن فيه هجوا، وملاحاة مهما كان شعره من الغثاثة، والضعف والانحلال طلبا للتطهير وبعدا من الرجس والدنس، ولعلي أيضا لم أسمع أن شاعرًا آخر غير أزهري لعن من يطبع ديوانه المخطوط المحفوظ لسبب من الأسباب.
بل إن كثيرًا من الشعراء غير الأزهريين يقيمون حول شعرهم ضجة هائلة من الدعاية والترويج، ويجتهدون في طبع شعرهم محتالين على أرباب اليراعات أن يقدموا دواوينهم بعبارات التقريظ، والإطراء المبالغين، بل إن كثيرا من الشعراء غير الأزهريين يسعون لدى الشفعاء أن يتوسطوا لطبع لشعرهم، وعساهم ألا يقتصروا على طبع الشعر، بل يقدموا لكل قصيدة بصورة رمزية تمثل فتاة عارية أو صبيا ضارعا، أو منظرا مسرفا في فحشه وخلاعته، ويرى الأستاذ العقاد أن القدوة عند شعراء الأزهر في هذا المذهب ما يروى عن الإمام الشافعي، إذ يقول:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
…
لكنت اليوم أشعر من لبيد1
وقد يكون القدوة عندهم في ذلك ما حكم الدين به على الشعر، فهم يعلمون أن الإسلام إنما جاء بالجد الذي يحض على الثواب في الآخرة، ويحرم على المسلمين فضلا عن علمائهم الكذب في القول، وإشاعة الفاحشة، وقذف المحصنات والحديث عن الخمر والمحرمات، والولوع في الأغراض، وتأريث العداوات.
وهم يعلمون أن الله نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الشعر، فقال:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، وأن الله ذم الشعراء بقوله:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمتلئ جوف
1 شعراء مصر، وبيئاتهم للأستاذ عباس العقاد ص90.
أحدكم فيريه خير له من أن يمتلئ شعرا.
وهم يعلمون أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن من البيان لسحرا وإن من الشعر حكما"، وأنه خلع على كعب بن زهير بردته التي اشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم، وتوارثها الخلفاء من بعده يلبسونها في الجمع والأعياد.
وأنه كان يكثر من استنشاد الخنساء في رثاء أخيها صخر، ويقول:"هبه يا خناس"، وأنه دعا إلى الشعر واستعان به في دعوته، واتخذ حسان شاعرا له ينافح عنه، وكان يقول له:"شن الغارة على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع الحسام في غبش الظلام"، وأنه استحسن شعر النابغة الجعدي ودعا له، وذلك حيث يقول النابغة: "أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
…
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين المظهر يا أبا ليلى؟ " فقلت: الجنة يا رسول
الله، فقال: أجل إن شاء الله. ثم قال: أنشدني -فأنشدته قولي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له
…
بوادر2 تحمى صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
…
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجدت لا يفضض الله فاك"، قال الراوي: فنظرت إليه فكأن فاه البرد المنهل ما سقطت له سن، ولا انفلت3 ترف غروبة4.
1 وروى القيح جوفه كوعي أفسده، وروى فلان فلانا أصاب رثته.
2 بوادر جمع بادرة وهي الحدة، أو ما يبدر من الإنسان عند الحدة من الخفة إلى الانتقام بالقول أو الفعل.
3 انفلت انثلمت -ترف تبرق وتلمع- غروب الأسنان ماؤها وظلمها.
4 دلائل الإعجاز ص18.
كما يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أثابه ودعا له، وأن الشعراء أنشدوا بين يديه واهتز لما أنشدوه، فهذه هي قتيلة أخذت النضر بن الحارث الذي كان غالبا في عداوة المسلمين بمكة يكثر أذاهم، ويلقن فتيان قريش الشعر في هجائهم أسره النبي في بدر وقتله، فجاءته أخته وأنشدته:
يا راكبا إن الأتيل مظنة
…
من صبح خامسة وأنت موفق1
أبلغ به ميتا بأن تحية
…
ما إن تزال بها النجائب تخفق2
مني إليك وعبرة مسفوحة
…
جادت بواكفها وأخرى تخنق3
هل يسمعني النضر إن ناديته
…
أم كيف يسمع ميت لا ينطق4
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
…
لله ارحام هناك تشقق5
صبرا يقاد إلى المنية متعبا
…
رسف المقيد وهو عان موثق6
أمحمد ولدتك خير نجيبة
…
في قومها والفحل فحل معرق7
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنق8
فالنضر أقرب من قتلت قرابة
…
وأحقهم إن كان عتق يعتق
لو كانت قابل فدية لفديته
…
بأعز ما يغلى به من ينفق9
1 الأثيل واد قرب بدر، وهو الموضع الذي دفن به أخوها.
2 تخفق كتضرب -تسرع.
3 وكف المطر والد مع سال.
4 أم للأضراب -أي بل إنه لا يسمع؛ لأنه لا ينطق.
5 تنوشه -تتناوله.
6 يقال: قتله صبرا -وصبر الإنسان على القتل أن يحبس ويرمى حتى يموت، العاني الأسير الموثق المقيد بالوثاق.
7 الفحل -كناية عن الأب، والمعرق الأصيل.
8 المحنق -المغتاظ من أحنقه إذا أغاظه.
9 غلا بالشيء وغالى به -طلب فيه ثمنا غاليا أو اشتراه كذلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو سمعت هذا قبل قتله لمننت عليه".
وهم قد عرفوا أيضا أن كثيرا من شعراء الإسلام أنشدوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم غزلا، ومن ذلك ما أنشده كعب بن زهير إذ يقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم إثرها لم يفد مكبول1
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلا أغن غضيض الطرف مكحول2
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
…
لا يشتكي قصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
…
كأنه منهل بالراح معلول3
كما عرفوا أن الخلفاء ارتاحوا للشعراء، واهتزوا له وحضوا على الحرص عليه وتأديب النشء به، فهذا عمر بن الخطاب يقول: رووا أولادكم ما سار من المثل وحسن من الشعر، وكتب إلى أبي موسى الأشعري يقول: مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الراي ومعرفة الأنساب.
ويروى أن السيدة عائشة كانت تحفظ شعر لبيد وتقول: "رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم"، بل كانوا يجدون تعلمه ضروريا لتفهم القرآن، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:"إذا قرأتم شيئا في كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب".
1 المتبول -من تبله الحب إذا أضناه وأفسده أو ذهب بلبه وعقله، والمتيم المذلل المعبد، والمغلول من وضع الغل في عنقه، وفي رواية مكبول وهو المقيد بالكبل أي القيد.
2 الأغن الذي يتكلم من قبل خياشيمه. غضيض الطرف من غضه إذا خفضه.
3 العوارض جمع عارضة، وهي السن التي في عرض الفم، الظلم شدة صفاء منون الإنسان المنهل، النهل محركة أول الشرب والمنهل المشرب والشرب، والمنزل يكون بالمغارة، معلول -العلل محركة الشربة الثانية أو الشرب بعد الشرب تباعا.
هؤلاء العلماء عرفوا ذلك كله فيما توافد إليهم من التاريخ، والأدب فهم يعرفون أن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر، وموقف الخلفاء منه لم يكن بغضا كله ولا حبا كله، لم يرتاحوا للشعر في كل حال، ولم ينكروه وينفضوا عنه في كل حال، بل اهتزوا لما دعا منه لنصرة الدين، ومكارم الأخلاق وحض على المروءة والوفاء، والنجدة والأخذ بأسباب الفضائل، وارتاحوا لما كان غزلا عفيفا، وهوى بريئا لا يفضح النساء، ولا يكشف عن العورات ولا يتصل بالأعراض، بل يرمي إلى نبل الغاية وبراءة الهوى، وعفة القصد ولا يراد منه امرأة خاصة يكون الحديث عنها قذفا، وإفحاشا.
اهتزوا لهذا كله ولكنهم لم يستمعوا للشعر المفحش، ولم يطربوا لما تدلى إلى ضعة الأخلاق، ودناءة الأغراض.
فعلماء الأزهر الذين هم ورثة الأنبياء، والقائمون على دين الله سلكوا طريق الشعر على هذا النهج، وأباحوا منه لأنفسهم ما أباحه الإسلام، وحرموا منه على أنفسهم ما حرمه الدين، فنظرهم إلى الشعر فيه تقية وتورع، ومن ثم خلا شعرهم غالبا مما ينافي هذه المبادئ، ويحيد به عن الجادة.
ومن كانت رسالته بهذه المثابة، ومكانته على هذا الوضع، ونظرته في هذا الأفق لا يسمح لنفسه أن يشبب فيفحش، أو يهجو فيقذع، أو يمدح فيتضع أو يمعن في الحديث عن المحرمات والمجاهرة بالدعوة إلى الخمر، وهو العليم بأن ذلك تأثم واستهتار، فإن استجابت نفس بعض منهم لدواعي الشعر، وترنحت أعطافه بهوى ذلك الفن، وانساق في شعره مساق غيره من غير المتحرزين، فإنما يخفي ما يقوله ويكتمه عن الناس، وما ذلك فيهم إلا أقل من القليل.
وإني لأسائل نفسي هل كان شعراء الأزهر من فطرة غير فطر الناس، وهل خرجوا عن طبيعة البشر، فكان لهم إحساس خاص؟ هل يجمدون
حيث ترق العواطف، وينقبضون إذ ينطلق المحيا، ويعبسون للجمال إذا ابتسم له فم الزمان؟ هل مكنوا من الحواس والمشاعر فحرموها حسن التعبير، وعاشوا بها دون شرح وتصوير؟ هل حبسوا الخيال أن يطير في مجاليه، والقلب فلم يخفق بحب من يستهويه؟
أنا أفهم أن فريقا من شعراء الأزهر أحنقهم بعض الناس، فامتلأت نفوسهم بغضا له فهجوه، وصوروا بغضهم في شعر لاذع وهجر مرير، ومنهم من أحب من يجدر بحبه وإجلاله، فأفاض في شرح مكارمه وتصوير خلاله، وخلع عليه من ألقاب الرفعة وحلل الكمال ما يشاء الشعراء، ومنهم من ترنحت عواطفه لمعاني الجمال، وخفق فؤاده لإشراق القسمات ونور المحيا، وحومت روحه حول الخرد الغيد والظباء الكنس، وعبر عن ذلك بصور من شعره، وألوان من فنه -لم يكونوا جمادا ولا تماثيل ولم تكن لهم قلوب من الحجارة، ولا عواطف من غير عواطف الناس، هم أحبوا كما يحب كل إنسان، وهووا كما تهوى كل روح، وائتلفوا مع بعض الخلائق كما يأتلف كل خليل مع خليله، ولكن حبهم حب فضيلة ونبل، وهواهم هوى عفة وشرف، وغزلهم غزل كمال محتشم، وصبابة مخدرة، يتخيلونه في مطلع القصائد حينا، ويعبرون به عن شعورهم حينا آخر.
ولقد كان العلماء الشعراء في حيرة من أمرهم، فدينهم يدفعهم إلى التوقر وعواطفهم تحضهم على العزل والتشبيب، وحياة أمثالهم "تتطلب تجاهل الحب، وعدم الانسياق فيه وغض النظر وكبت النفس، وترك ذلك لأهل الخلاعة"، ولكن ما جريرتهم، "وليس مرد العشق إلى الرأي فيملك، ولا إلى العقل فيدرك، إنما هو كما قال الشاعر:
ليس أمر الهوى يدبر بالرأ
…
ي ولا بالقياس والتدبير
إنما الأمر في الهوى خطرات
…
محدثات الأمور بعد الأمور
لا تدرك الأبصار مداخله، ولا تعي القلوب مسالكه، وهو كما قال
القائل -إن لم يكن طرفا من الجنون، فهو عصارة من السحر- فسواء أكان صاحبه فقيها أم دينا ورعا، أم داعرا فاجرا فهو إذا مس قلبه صرعه، وأذله:
لقد كنت ذا بأس شديد وهمة
…
إذا شئت لمسا للثريا لمستها
أتتني سهام من لحاظ فأرشقت
…
بقلبي ولو أسطيع ردا رددتها1
ومن ثم لم يكن لهم بد على رغم تدينهم من تصوير عواطفهم، وشرح وجدانهم بالشعر، ولكن لم يظهر من شعرهم الغزلي في أغلب الأمر إلا ما نقيت صفحته وطهر غرضه وشرف مغزاه، وعسى أن يكون من ذلك ما يقوله "عبد الله باشا فكري"، أحد شعراء الأزهر ممثلًا إلى حد كبير براءة شعره الغزلي، ومجانبة الإفحاش والإسراف، وذلك حيث يقول:
ما أحيلي يوم اجتمعنا بروض
…
أوردتنا ظلا ظليلا غصونه
كان فيه الرقيب غير قريب
…
والزمان الخئون نامت عيونه
فهجرنا مر المدامة فيه
…
بحديث مستعذب مضمونه
إن في سكرنا من اللفظ واللحـ
…
ـظ غناء عما تدير يمينه
فقد تهيأ له لقاء الحبيب في الروض الناضر وظل غصونه الظليل، وليست عين الرقيب قريبة، فترى ما عساه أن يكون بين المحب وحبيبه من لهو الهوى، وعبث الغرام، ولكنه كان في صون وتحرز وهجر "مر المدامة" إلى عذب حديثه، وآثر "السكر" من لفظه ولحظه على سكر الكأس تديرها يمينه.
"وعبد الله فكري باشا"، هو الذي يحدث في شعره بأن أسباب الفتنة تواتت له، وتيسرت له بالمحب مفاتن تغري النفس، ومباهج تنحل معها أواصر العفة والتصون، ولكنه لم يجاف الشرف، ولم ينأ عن التعفف، وذلك حيث يقول:
1 من مقال للأستاذ أحمد أمين بك في مجلة الثقافة عدد 364 بعنوان "إمامان فقيهان عاشقان" هما "محمد بن داود الظاهري، وعلي بن حزم".
فقالت وقد مال الكرى بقوامها
…
كما مال بالنشوان صرف من الخمر
وماست تزجي ردفها في مورد
…
من اللاذقد وشته بالدر والتبر1
وتمسح عن أجفانها النوم سحرة
…
فيرفض عنها كل فن من السحر2
وبتنا كما شاء الهوى في صيانة
…
وعفة ثوب لم يزر على وزر
وهذا هو "رفاعة رافع الطهطاوي" أحد علماء الأزهر وشعرائه يمثل عفة العلماء وقناعتهم في الملذات، ويمر مر الكرام بما يطيل الشعراء الوقوف عنده، وتسريح النظر فيه وذلك حيث يقول:
قد قلت لما بدا والكأس في يده
…
وجوهر الخمر فيه شبه خديه
حسبي نزاهة طرفي في محاسنه
…
ونشوتي من معاني سحر عينيه
فهو يقنع بنزاهة طرفه في محاسن محبوبه عن التمتع بهذه المحاسن، فلا يقبل فما ولا يهصر عودًا، ولا يذهب مذاهب العشاق، من الضم والعناق، ويغنيه من حبيبه النظر إلى مواطن جماله، والنشوة بمعاني سحر عينيه عن كل ما يلتمس سواه من لذة ومتاع.
وهذا هو "عبد الله فكري باشا" الذي يعف في الهجاء، ويتدلى إلى الملاحاة، ويذهب مذهب القصد والاعتدال، فيتحرج من الإسفاف في الهجاء والإقذاع فيه، انظر إليه إذ يقول:
رماني بهجر القول لا دردره
…
ولو رمت هجر القول لم يستطع في
1 اللاذ جمع لاذة، وهي ثوب حرير أحمر صيني -وشي الثوب نمنمه، ونقشه وحسنه.
2 السحرة بالضم السحر الأعلى.
ولو شئت حكمت القوافي بيننا
…
بماضي شباة القول فيهم مصمم1
ولكنني أنهى اللسان عن الخنا
…
وألوي عنان الأعوجي المقوم2
سأضرب صفح القول عنهم نزاهة
…
وأطويه طي الأتحمي المسهم3
وهذا مذهب فيه تقية وتورع وصون "للسان عن الهجر، والإفحاش حتى لو رام هجر القول لأباه فمه على رغم أن القوافي ماضية كالسيف".
"وعبد الله فكري" أيضا يضرب أبلغ الأمثال في صون قريضه عن مدح من لا يجدر بمدحه، وهو بمثل مذهب العلماء الشعراء في التسامي بشعرهم عن مدح من هان شأنه من الناس، والضن بالإطراء على غير من هو أهل لإطرائه، فهو يقول:
ولذت بأعطاف القريض وطالما
…
رميت ذراة بالقلا والتجهم
ولكنني أرويه عن غير أهله
…
وأهديه مدحا للخديو المعظم
كما يمثل مذهبهم أيضا في صدق الشعر، والنأي به عن الكذب والنفاق، وقصره
على ما الحب داع من دواعيه:
فخر القصائد أني لست أنظمها
…
إلا وللحب داع من وداعيها
1 شباة كل شيء حده، والجمع شبا وشبوات. صمم في الآمر تصميما مضى كمصمصم، وعض ونهب والسيف أصاب المقصل، وقطعه أو طبق.
2 "الأعوج السيء الخلق"، وبلا لام فرس لبني هلال تنسب إليه الأعوجيات.
3 الأتحمي -برد معرف- المسهم لمعظم البرد المخطط.
ولا تجافيت عنها قبل من حصر
…
بحمد ربي ولا ضنت قوافيها
لكنها نفس حر لا تهم بما
…
لا يستوي فيه باديها وخافيها
وعسى أن تجد بعض هؤلاء الشعراء يمدح من هان شأنه من الناس، ويهدي قصيده لمن هو غير أهل لمدحه، ولكن ذلك من بواعث الحاجة، ودوافع الحياة التي تتجاوز معها هذه المعاني، وتدفعهم إلى تقحمها دفعا.