الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي لا بد منه لم يكن في خليقتي أنطقني حبه بأبيات أجملت فيها صفته وهي:
زكا أميري طبعا واعتلى شرفا
…
فدار حيث تدور الشمس والقمر
ونال ما نال عن كد الرجال فلا
…
من عليه لشخص حين يفتخر
بفضله كل أهل الأرض معترف
…
كما تصادق فيه الخبر والخبر
لا يجهل الرتبة العلياء يعمرها
…
ولا يتيه بها ما أعظم الخطر
صحبته وهو سر في مخايله
…
حتى تخير من أعلائه الكبر
فما أخذت عليه شبه بادرة
…
ولا تخيلت أمرا منه يعتذر
أدامه الله نقني من فضائله
…
ومن فواضله ما أنبت الشجر
الشيخ البسيوني وشوقي:
قل أن نتكلم عن انتفاع أمير الشعراء المرحوم "أحمد شوقي بك" بثقافة الأزهر، والأخذ من بعض من أساتذته نقدم بكلمة عن الشيخ "محمد البسيوني" أستاذه، فإن الحديث يدور عليه.
من هو "البسيوني"؟:
الشيخ "محمد البسيوني البيباني" ينسب إلى "بيبان" قرية من قرى "البحيرة"، ولد بها في منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريبا، وبعد أن حفظ القرآن أشخص إلى القاهرة لطلب العلم في الأزهر، وما أن استقر به المقام بين جدرانه حتى طفق يدرس على أساتذته مختلف العلوم العقلية والنقلية، ولازم شيوخه بالأزهر سنين يقرأ عليهم أمهات الكتب في الفنون التي كانت تدرس إذ ذاك حتى حذقها، ولما نضجت كفايته، واكتملت مقدرته تصدر للتدريس، فكان معدودا من جلة الأساتذة، وامتاز الشيخ بنوح خاص في دراسة العلوم العربية، فكانت له طريقة في التدريس لم تكن
معهودة في ذلك العصر إذ يعمد إلى جوهر الموضوع، فيبرزه في أبهى حلة ويجليه الطلاب غاية التجلية باحثا في سره دون التعرض للضجة اللفظية، ولغط الكاتبين، وقد ظهر أثر هذه الطريقة في كتابه "حسن الصنيع" الذي ألفه في المعاني والبيان والبديع، وكتبه بأسلوب أدبي رقيق.
وجاوزت شهرته العلمية والأدبية المحيط الأزهري إلى أفق غير الأزهر، فأسندت إليه نظارة المعارف تدريس علوم اللغة العربية بالمدرسة التجهيزية "الخديوية".
واختاره الجالس على العرش الخديو "توفيق" إماما لحضرته ومدرسا لأنجاله، فقام بما عهد إليه خير قيام.
ثم أسند إليه مع عمله هذا تدريس اللغة العربية بمدرسة الإدارة التي سميت فيما بعد "مدرسة الحقوق"، وكان من بين تلامذته النابهين في هذه المدرسة المرحوم "أحمد زكي"، والمرحوم "أحمد شوقي بك"، وكان يدرس علوم البلاغة في مصنفه المسمى "حسن الصنيع".
ثم عين الشيخ "البسيوني" مفتيا للمعية السنية، وظل في وظيفته هذه إلى أن جاور ربه في ليلة الخميس 13 من ربيع الآخر سنة 1310هـ، الموافقة 3 من نوفمبر سنة 1812م في عهد الخديو "عباس الثاني" رحمه الله تعالى.
شعره والعوامل المحيطة به:
في أثناء هذه الحقبة التي قضاها "البسيوني" في خدمة بيت الملك كان يقرض الشعر في مدح الخديو، كلما حل موسم أو أهل عيد، أو بدت فرصة وقلما نظم الشعر في غير هذه الأغراض.
ولم يكن من الميسور له وهو من رجال الملك، وخلصائه أن يتعرض في شعره إلى السياسة إلا بقدر يسير جدا، كما لم يكن من المستطاع وهو من رجال الدين أن يتحدث إلا قليلا عن اللهو والخمر والنساء، وما لا يتفق مع جلال الدين ووقار العلم، لذلك جاء شعره في دائرة ضيقة، فلم نعثر له على
شعر إلا في المدائح والتهاني، وغيرها مما تنشره له الوقائع المصرية مما كان يزجيه لصاحب العرش.
وفيما وقفنا عليه يهنئ بها الخديو "توفيق" بعودته من الإسكندرية إلى العاصمة بعد إخفاق الثورة العرابية، ووقوع الثوار في قبضته.
وفي هذه القصيدة يؤرخ العودة بسنة 1299 هجرية، ويضفي على وليه حللا من الثناء، ثم يعرض إلى الثوار فينال منهم ويسفه أحلامهم، وإلى الثورة فيصف مآسيها وشرها، وأخيرا يكل أمر هؤلاء الخارجين على طاعة ولي الأمر في أسلوب جيد بالنسبة لعصره، ويقول في مطلعها:
رجوعك يا توفيق مصر هناؤها
…
وشمس بهاها دائما وضياؤها
1299هـ.
فأنت خديويها وأنت مليكها
…
وأنت لها من كل سقم شفاؤها
وأنت لها حصن على رغم حسد
…
وأنت لها بدر وأنت سماؤها
وما في إلا روضة وفكاهة
…
وما أنت إلا حسنها وازدهاؤها
وأنت لها إنسان عين حياتها
…
ولولا تلاقيها لخيف عناؤها
وما هي إلا جثة أنت روحها
…
وما أنت إلا مجدها وملاؤها
وما مثلها إلا لمثلك ينتمي
…
فيسمو بها بين الأنام انتماؤها
لبعدك كم قاست لعمري شدائدا
…
فاضت إلى أن تستباح دماؤها
ولولا تلافيها لأصبح تالفا
…
بقية أهليها وعز نماؤها
وأضحت لأرواح الرياح ملاعبا
…
وما طاب فيها للمقيم هواؤها
ومنها:
على عصبة البهتان لا تأس إذ هوى
…
بها في مهاوي الموبقات افتراؤها
فقد خلعت ثوب النجاة مذ اكتست
…
ثياب الردى جهلا وبئس اكتساؤها
وحيث أبت إلا هواها سفاهة
…
وساق لها الأخذ الوبيل شقاؤها
رأيت لها رأي الملوك فأصبحت
…
وقد ساءها إصباحها ومساؤها
فإن شئت فاصفح أو إذا شئت فانتقم
…
فمنك بقاها لو تشا وفناؤها
شوقي ثمرة البسيوني:
حين تولى الشيخ "البسيوني" تدريس اللغة العربية بمدرسة الإدارة "الحقوق"، كان بين تلامذتها، "أحمد شوقي بك"، "وأحمد زكي باشا" كما قلنا فانتفعا بعلمه وغنيا بثقافته، وتفطن الأستاذ إلى الموهبة الشابة في نفس شوقي، فأقبل عليها بالتوجيه، ويحدثنا "أحمد زكي باشا" في حفل تأبين شوقي الذي أقامته وزارة المعارف في ديسمبر سنة 1932م، بأن الشيخ البسيوني أستاذهما في فنون البلاغة كان لا تخطئه النكتة البارعة اللاذعة، أو الساحرة الساخرة، وما لبث أن رأى في تلميذه شوقي بواكير العبقرية وبوادر المواهب الربانية، فأنشا يعرض قصائده على تلميذه شوقي بواكير العبقرية، وبوادر المواهب الربانية، فأنشا يعرض قصائده على تلميذه قبل أن يرسلها إلى المعية السنية، وإلى جريدة الوقائع المصرية وغيرها من الصحف العربية، وكان شوقي ببساطة التلميذ الناشيء يشير بمحو هذه الكلمة، وتصحيح تلك القافية، وحذف هذا البيت، وتعديل ذياك الشطر والأستاذ يغتبط بقوله، وينزل على رأيه.
ويقول "أحمد زكي باشا"، وأحسن ما أذكر لأستاذي البسيوني رحمه الله أنه كان يتحدث بذلك إلينا، وإلى الفرق المتقدمة علينا، "وفيها أصحاب السعادة عثمان باشا مرتضى، وأبو بكر يحيى باشا، وعلي ثاقب باشا، وشاكر بك أحمد" دون أن تأخذه العزة بالإثم، وأن يغريه الكبرياء اللازم للمدرس بإنكار الفضل الذي منحه الله للدارس، فهذه أول سعادة أحرزها "شوقي".
أجل هذه أول سعادة أحرزها، فما من شك في أن إقبال الشيخ البسيوني على شوقي، وتنزله معه إلى هذا الحد قد ملأ نفسه ثقة بشاعريته، وإيمانا بموهبته وكان أول ما أخذه بيده إلى النهوض، وشجعه على المضي في سبيل مجده صعدا ناشئ يدني الأمل من نفس التلميذ، ويوطئ له أسباب المجد والسعادة مثلما
تفعله رعاية أستاذه البار الكريم الطيب النفس النزيه المسلك، الخبير بأسلوب التربية وطرق التشجيع.
على أن الأستاذ البسيوني تحدث بهذا النبوغ الباكر إلى صاحب العرش، وأفهمه أن بين أثواب هذا الفتى الناشئ براعة نادرة، وذكاء فذا، وأنه خليق بالرعاية العالية ليكون زهرة يتضوع شذاها في مشارق الأرض، ومغاربها وكانت هذه الشهادة من أكبر الأسباب التي حفزت الخديو "توفيق" في سنة 1887 إلى إيفاد شوقي إلى باريس ليتم دراسته على نفقته الخاصة، ولتغذية مواهبه بروائع الغرب وبدائعه، وقد تحققت به وفيه الآمال، فكانت هذه ثانية السعادات.
ومن هنا نرى أن الأزهر ممثلًا في شخص الأستاذ "البسيوني"، هو الذي كشف عن هذه القوة الكامنة في نفس شوقي، وهو الذي تهدى بشاعرية أشد أبنائه وفراسته إلى عبقريته أكبر الشعراء، فوجهها التوجيه الصالح، وتعهدها حتى نمت وأزهرت وأنبتت نباتا حسنا، وأثمرت ثمرًا لا يفنى ولا يبيد.
وجميل حقا أن يتفطن شيخ أزهري لم ير مفاتن الغرب، ولم يكتحل بمشاهده ومجاليه، إلى ما يجب لشوقي أن يطلع عليه من روائع باريس وحضارتها، ومباهجها ومفاتنها، فيشير على ولي الأمر بإرساله إليها ليتسع أفقه، ويخصب خياله ويمتلئ خاطره بأسباب القول ودواعي الشعر.
فلا عجب إذن أن يكون شوقي أمير الشعراء من أفق الأزهر، وثمرة من ثماره أو فكرة من أفكاره.
اعتراف شوقي:
ولشوقي حديث آخر بصدد الأزهر يشهد بحسن تقديره لهذا المعهد العظيم، وإجلاله لمهبط أساتذته، فقد أقيم حفل لتأبين المرحوم "عاطف
بركات باشا" بمدرسة المعلمين العليا في الخميس الثالث عشر من صفر سنة 1343هـ، الموافق الحادي عشر من شهر سبتمير سنة 1924، وأرسل أمير الشعراء قصيدته لتلقي في الحفل، وكان مما قاله فيها:
وحارب دونها صرعى قديم
…
كأن بهم على الزمن انقطاعا
إذ ألمح الجديد لهم تولوا
…
كذي رمد على الضوء امتناعا
وكان في الحفل صفوة من رجال مصر، وجمهرة من شيوخ الأزهر منهم فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وفضيلة مفتي الديار المصرية إذ ذاك، فعدوا ذلك جرحا لكرامتهم وطعنة في صدورهم، وكتب أحد علماء الأزهر إذ ذاك مقالًا بعنوان "أمير الشعراء"، ورجال الأزهر -للحقيقة والتاريخ. "نشرته جريدة الأخبار بتاريخ 17 من صفر سنة 1343هـ المواهفق 6 من سبتمبر سنة 1924"، وقد كانت براعته رمحا رد بينيا شك أمير الشعراء الذي نفى عنه الكاتب أن يكون كنادبة المسجي التي تجامل الحاضرين بذكر شيء من محاسن موتاهم، وقد ظهرت جريدة الأخبار بعد هذا المقال بيوم واحد، وفي صدرها حديث لأمير الشعراء ينفي ما فهمه صاحب المقال من تنكر شوقي للأزهر، ورجاله فكان مما قاله، "وما أنا من ينسى أن معظم أساتذة مدرسة القضاء نفسها في العلوم الشرعية بوجه خاص، كانوا من شيوخ الأزهر ورجاله، وليس من المعقول أن يكون هؤلاء الأفاضل حربا عليها، وهم في النهوض بها شركاء.
إن للأزهر عندي حرمة لا أحب أن يتشكك فيها الأستاذ، وأعتقد أن الأزهر قد سد فراغا كبيرا كان التعليم في مصر، والبلاد الشرقية جميعا لا يرجو له بدون الأزهر من سداد.
وسأظل فخورًا دائما بأن من أساتذتي شيوخا من صميم الأزهر الشريف، وكبار علمائه.
ذلك هو ما قاله شوقي تلافيا لما عساه أن يكون قد فهم من قصيدة التأبين.
وإفصاحا عن تقديره الأزهر الذي يفخر أمير الشعراء بأن فيه أساتذة من شيوخه.
على أن أمير الشعراء أراد أن يزيد في تأكيده تقدير الأزهر، وينفي عنه مظنة النيل من أبنائه، فالتمس إصلاح الأزهر في أقرب فرصة، ونظم آيته الكبرى التي قالها في نفس العام الذي أدلى فيه بحديثه عن الأزهر، ويقول فيها:
قم في فم الدنيا وحي الأزهرا
…
وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واجعل مكان الدر إن فصلته
…
في مدحه خرز السماء النيرا
واذكره بعد المسجدين معظما
…
لمساجد الله الثلاثة مكبرا1
واخشع مليا واقضي حق أئمة
…
طلعوا به زهرا وما جوا أبحرا
كانوا أجل من الملوك جلالة
…
وأعز سلطانا وأفخم مظهرا
زمن المخاوف كان فيه جنابهم
…
حرم الأمان وكان ظلهم الذرا2
من كل بحر في الشريعة زاخر
…
ويريكه الخلق العظيم غضنفرا
ثم يقول:
يا معهدا أغنى القرون جدارة
…
وطوى الليالي ركنه والأعصرا
ومشى على يبس المشارق نوره
…
وأضاء أبيض لجها والأحمرا
إلى أن يقول:
عين من الفرقان فاض نميرها
…
وحيا من الفصحى جرى وتحدرا
ما ضرني أن ليس أفقك مطلعي
…
وعلى كواكبه تعلمت السرى
وهو يشير في هذا البيت إلى أنه، وإن لم يكن طلع في أفقه، ودرج في رحابه فقد اهتدى بأساتذته، وتعلم السرى على كواكبه ثم يقول:
لا والذي وكل البيان إليك لم
…
أك دون غايات البيان مقصرا
1 المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
2 الذرا الملجأ.
شوقي وكتاب الوسيلة الأدبية:
وما دمنا بصدد انتفاع أعلام الشعر بأساتذة الأزهر، وجهودهم الأدبية في هذا العصر، فقد يطيب الحديث عن هذا الكتاب الذي نهل منه "شوقي"، و"حافظ" وكان الكتاب الأول الذي راض خيال شوقي، وصقل طبعه، وصحح نشأته الأدبية، كما كانت منه بصيرة "حافظ".
وليس سر هذا الكتاب ما فيه من فنون البلاغة، ومختارات الشعر والكتابة فقد كان ذلك في مصر قديما، ولم يخرج لها شاعر مثل شوقي، ولكن السر في هذا الكتاب من شعر "البارودي"؛ لأنه معاصر والمعاصرة اقتداء ومتابعة، وقد تقضت القرون الكثيرة، والشعراء يتناقلون ديوان المتنبي وغيره، ثم لا يجيئون إلا بشعر الصناعة والتكلف، ولا يخلد الجيل منهم إلا لما رأى في عصره، ولا يستفتح غير الباب الذي فتح له إلى أن كان البارودي، فجاء بذلك الشعر الجزل الذي نقله "المرصفي" بإلهام من الله تعالى ليخرج للعربية "شوقي وحافظ"، وغيرهما، فكل ما في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الأديب الناشيء، فتبعثه هذه الروح على التمييز وصحة الاقتداء، فإذا هو على ميزة وبصيرة، وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما في نفسه ما فيه ذكاء وطبع، وبهذا ابتدأ "شوقي وحافظ" من موضع واحد، وانتهى كلاهما إلى طريقة غير طريقة الآخر1.
1 من مقال للمرحوم مصطفى صادق الرافعي في المقتطف الصادر في 2 من رجب سنة 1351 "أول نوفمبر سنة 1932م".