الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ حسن العطار:
المتوفى سنة "1250هـ-1834م"
نشأته وحياته:
ولد بالقاهرة سنة نيف وثمانين ومائة وألف من الهجرة، ونشأ بها في ظل أبيه الشيخ "محمد كتن"، ويمت بنسبه إلى أسرة مغربية، وفدت إلى مصر وكان أبوه رقيق الحال "عطارا"، ملما بالعلم كما يدل عليه ما يقوله في بعض كتبه "ذاكرت بهذا الوالد رحمه الله"، وكان يستصحبه إلى متجره، ويستعين به في صغار شئونه -نشأ حاد الذكاء قوي الفطنة، إلى التعليم هواه، شديد الغيرة والتنافس، إذ يرى أترابه يترددون على المكاتب، ومن ثم يتسلل إلى الجامع الأزهر مستخفيا من أبيه، وقد عجب والده إذ رآه يقرأ القرآن في زمن وجيز، فشجعه ذلك على أن يدع ابنه الذكي الفطن المحب للعلم يختلف إلى العلماء، وينهل من وردهم ما يشاء، فجد في المثابرة والانتفاع من الفحول أمثال الشيخ "محمد الأمير"، والشيخ "الصبان"، وغيرهما حتى بلغ من العلم والتفوق فيه ما أهله للتدريس بالأزهر على تمكن وجدارة.
ولكن نفسه لم تقنع بهذه الغاية، بل مال إلى التبحر في العلوم، واشتغل بغرائب الفنون، والوقوف على أسرارها.
وكان منذ صباه ذا شغف بالأدب، جادا في مطالعته والتزود منه حتى أجاد النظم، والنثر في ريعان صباه وبواكير حياته.
وعني بالأدب الأندلسي عناية فائقة فأخذ يدرسه ويحاكيه، وكثيرا ما كان يأسف على انحطاط الأدب في عصره، ويصف شعراء زمانه بأنهم "اتخذوا الشعر حرفة، وسلكوا فيه طريقة متعسف، فصرفوا أكثر أشعارهم في المدح والاستجلاب والمنح، حتى مدحوا أرباب الحرف الجمع الدراهم، وكان منهم
من كان يصنع القطعة من الشعر في مدح شخص، ثم يغيرها في مدح آخر، وهكذا حتى يمتدح بها كثيرًا من الناس، وهو لا يزيد على أن يغير الاسم والقافية، وما أشبهه في ذلك إلا بمن يفرق أوراق الكدية1 بين صفوف المصلين في المساجد، وهكذا كان حال الرجل، فلا يكاد يتخذ وليمة أو عرسا أيبني بناء أو يرز بموت محب إلا بادره بشيء من الشعر قانعا بالشيء النزر".
ولما كانت تلك نظرته إلى الشعر والشعراء رأيناه قد أغفل شعره، ولم يحتفظ بما قاله في المدح، والهجاء اضطرارًا ورجا ألا يحفظ عنه، إلا ما لطف من النسيب"، مما ولع به "أيام الشباب حيث غض الشبيه، والزمن من الشوائب محض، ولأعين الملاح سهام بالفؤاد راشقة، وتثني قدود الغيد تظل له أعين الأحبة وامقة.
ذاك وقت قضيت فيه غرامي
…
من شبابي في ستره بالظلام
ثم لما بدا الصباح لعيني
…
من مثيبي ودعته بسلام"
ولما اضطربت الفتن بدخول الفرنسيين مصر رحل إلى الصيعد، ومعه جماعة من العلماء، ثم عاد إلى مصر بعد أن استقرت الأمور، وقد أداه حبه الحياة الاجتماعية وميله إلى المخالطة، وما عرف به من خفة الروح، وطيب المعاشرة، إلى الاتصال بالفرنسيين العلماء فاستفاد من فنونهم، وأفادهم اللغة العربية وكان يقول:"إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها"، وكان يتعجب مما وقف عليه من علوم الفرنسيين، ومن كثرة كتبهم وتحريرها وقربها من العقول وسهولة الاستفادة منها، وقد تحدثنا عن ذلك في صلة الأزهر بالحملة الفرنسية.
وهو الذي وقف في امتحان مدرسة الطب خطيبا يشيد بفائدة الطب في تقدم الإنسانية، ويفخر بأن أتيح للأزهر في تاريخ مدرسة الطب أول نشأتها
1 الكديسة: السؤال.
أثر جليل إذ كان جل تلامذتها الأول من الأزهر، وكان لهم في مدرسة الطب من الذكاء، وحسن الاستعداد ما راع وبهر.
والشيخ "حسن العطار" هو الذي قدم الشاب الشيخ "رفاعة رافع""لمحمد علي"، ليكون إماما للبعث الذي أرسل إلى فرنسه في سنة 1826م.
وهو الذي أوصى "رفاعة" أن يقيد مشاهداته في بلاد الغرب من الأمور التي يرى فيها فائدة لبني وطنه، كي يظهرها على النواحي المختلفة للحضارة الأوروبية، حتى إذا أطاع "رفاعة" أستاذه، وأتم رحلته "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" أوصى العطاء بها حتى قامت الحكومة على طبعها ونشرها.
تنقله:
ثم إنه ارتحل إلى الشام، وأقام بدمشق زمنا كان يقرض فيه الشعر حينا بعد حين، قال:"وقلت وأنا بدمشق هذه القصيدة، وسببها أن صاحبنا العلامة محمد المسيري كان قدم من بيروت لدمشق، فأقام بالمدرسة البدرية حيث أنا مقيم، ومكث نحو شهرين فوقع لي به أنس عظيم".
ثم عاد إلى بيروت وأرسل مكتوبا لبعض التجار فيه قصيدة تتضمن مدح دمشق، وعلمائها وتجارها الذين صاحبوه مدة إقامته، فكان جزاء تلك القصيدة أنها لم تقع منهم موقع القبول، وساروا يهزأون بكلماتها، وقوافيها فانتدبت لنظم هذه القصيدة على بحرها، ورويها انتصار للشيخ "المسيري"، وقد ذكرت بعض متنزهات دمشق في أول قصيدتي، وأتيت فيها بفنون من الغزل، والهجاء وغيرها، فقلت:
بوادي دمشق الشام جزبي أخا البسط
…
وعرج على باب السلام ولا تخطي
ولا تبك ما يبكي امرؤ القيس حوملا
…
ولا منزلا أودى بمنعرج السقط
هنالك تلقى ما يروقك منظرا
…
ويسلي عن الأخوان والصحب والرهط
عرائس أشجار إذا الريح هزها
…
تميل سكارى وهي تخطر1 في مرط2
كساها الحيا أثواب خضر تدثرت
…
بنور شعاع الشمس والزهر كالقرط3
ومنها:
وقف بي بجسر الصالحة وقفة
…
لأقضى لباتات الهوى فيه بالبسط
وعرج على باب البريد تجد به
…
مراصد للعشاق في ذلك الخط4
وحاذر سويقات العمارة أنها
…
مهالك للأموال تأخذ لا تعطى
فلو أن قارونا تبايع بينهم
…
لعاد فقيرًا للخلائق يستعطي
ولست لما أنفقت فيها بآسف
…
ولا بالرضا مني أمازج بالسخط
وجاء في بعض كتبه أنه أدى فريضة الحج، واتفق له بعد أدائه أن توجه مع الراكب الشامي إلى معان تم بلدة الخيل فأقام بها عشرة أيام، ثم ارتحل يمم القدس فنزل دار نقيبها، وهنأه بعودته إلى منصبه بعد عزله منه، ثم ارتحل إلى بلاد الروم وأقام بها طويلا، وسكن بلدًا من بلاد الأرنأود، وتأهل بها وأعقب، ولكن لم يعش عقبه.
1 تخطر -خطر في مشيته اهتز وتبختر.
2 المرط -كساء من صوف أو خز.
3 القرط -ما يعلق في شحمة الأذن.
4 الخط بالضم موضع الحي والطريق والشارع ويفتح، وبالكسر الأرض لم تمطر، والتي تنزلها ولم ينزلها نازل قبلك.
عودته إلى مصر:
ولما عاد إلى مصر تولى تحرير الوقائع المصرية، فكان أحد الأزهريين الأدباء الذين نهضوا بها، وكانت له شهرة علمية أدبية، ومكانة أذعن لها معاصروه من العلماء، والأدباء، والأفذاذ.
كان يعقد مجلسا لقراءة تفسير البيضاوي، فيتوافد الشيوخ عليه تاركين حلق دروسهم، وقد أهلته هذه المكانة العلمية والأدبية، وما اتسم به من النبوغ، وما طار من شهرته، وبعد صيته أن يكون شيخا للأزهر بعد وفاة الشيخ "أحمد الدمهوجي الشافعي".
ولما قدم إلى مصر عام سبعة وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة كبير الدروز، وكانوا قد انتقضوا عليه ملتجئا إلى "محمد علي باشا"، وكان في صحبته "بطرس النصراني" اجتمع به، وكان بينهما اتصال ومودة ورأى المترجم فيه تمكنا من الأدب والمحاضرة، ومعرفة بالتواريخ والأنساب وعلوم العربية، وقد حدث1 بذلك، وبأن "بطرسا" امتدحه بقصيدة منها:
أما الذكاء فإنه
…
أذكى وأبرع من إياسه
في أي فن شئته
…
فكأنه باني أساسه
أضحى البديع رفيقه
…
لما تفرد في جناسه
مواهبه:
كان رحمه الله طموحا محبا للاجتماع والتنقل، ومشاهدة الحضارات المختلفة، وكان معروفا بالجد والذكاء معًا، حدث عنه معاصره المحروم الشيخ "محمد شهاب الدين المصري"، الشاعر بأنه كان آية في حدة النظر وشدة
1 الخطط التوفيقية ج4 ص39.
الذكاء، وأنه ربما استعار منه الكتاب في مجلدين، فلا يلبث عنده الأسبوع، أو الأسبوعين ثم يعيده إلي وقد استوفى قراءته، وكتب في طرره1 على كثير من مواضعه2، ومما عرف عنه أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية.
آثاره:
له تآليف عدة منها حاشيته على جمع الجوامع نحو مجلدين، وحاشية على الأزهرية النحو، وحاشية على مقولات الشيخ "السجاعي"، وحاشية علي السمرقندية، ورسائل في الطب والتشريح "والرمل"، "والبازرجة" وغير ذلك، وقد شرح جزءًا من الكامل للمبرد.
شعره:
لم يجمع شعر العطار في ديوان، وقد أراد هو كما قلنا ألا يحتفظ بشعره الذي نظمه في المدح والهجاء، ورغب ألا يحفظ عنه إلا ما كان غزلًا رقيقا نظمه في صباه حيث العيش غض، والزمن من الشوائب محض، وأن مما يؤسف له أن يفقد كثير من ثروة العطاء الشعرية النفيسة، ولو توفر جميع شعره لارتسمت فيه صورة ناطقة لشاعريته، ومواهبه وشخصيته، ووضحت هذه القصائد مجتمعة كثيرا من أحوال العصر إذ الشعر مرآته المجلوة.
ومهما يكن من شيء ففي القصائد المتناثرة التي وقعنا عليها ما يعين -ولو في جهد- على دراسة شعره، وطريقته واتجاهه الشعري.
يدل ما بين أيدينا من شعر "العطار" على السهولة، ووضوح الغرض وإشراق المعنى وسعة الأفق، وغزارة مادة التشبيه، ولعل مما بسط في أفقه الشعري، ومد في خياله، ومال به في الشعر إلى الوضوح والرقة والسجاحة
1 الطرر جمع طرة، وهي جانب الثوب الذي لا هدب له، وشفير النهر والوادي وطرف كل شيء وحرفه والناصية.
2 الخطط التوفيقية ج4 ص39.
ما تهيأ له من مخالطة الكبراء والعظماء، وما كلف به من حب الحياة الاجتماعية وغشيانها في شتى مجاليها، ومختلف ميادينها وما اجتلاه في الممالك التي ارتحل إليها وجال في ربوعها من مشاهد وحضارات، وأخلاق وعادات، وما اطلع عليه من ألوان الحياة المتقاربة والمتباينة، فإن كل ذلك من مقومات الشعر، ومن أسباب بسيطه وتلوينه، على أن هذه المخالطات، وتلك الاتصالات التي وثق "العطار" أسبابها صرفت شعره عن التعقيد، والغموض والالتواء.
ويظهر أن العطاء يميل بطبعه إلى السلاسة، وينحرف بفطرته إلى الإشراق والسهولة، وإذا رجعت إلى أقدم ما عثر عليه من شعره لم تفتك منه هذه الصفات، وطالعتك منه صفحة نقية من الغموض والالتواء.
فمن أقدم شعره قصيدته التي رواها "الجبرتي"1 يمدح بها الشيخ "شامل أحمد بن رمضان" المتوفى سنة خمسة عشر ومائتين وألف من الهجرة، حينما ولى مشيخة رواق المغاربة إذ يقول:
انهض فقد ولت جيوش الظلام
…
وأقبل الصبح سفير اللئام
وغنت الورق على أيكها
…
تنبه الشرب لشرب المدام
والزهر أضحى في الربا باسما
…
لما بكت بالطل عين الغمام
وللغصن قد ماس بأزهاره
…
لما غدت كالدر في الانتظام
وعطر الروض مرور الصبا
…
على الرياحين فأبرا السقام
كأنما الورد على غضنه
…
تيجان إبريز على حسن هام
كأنما الغدران خلجان أغصـ
…
ـان النقا والنهر مثل الحسام2
كأن منظوم الزراجين بها
…
قوت غدا من نظمه في انسجام3
1 الجزء الثالث ص113.
2 النقا -القطعة من الرمل تنقاد محدود به.
3 الزرجون، كقربوس شجر العنب أو قضبانها والخمرة، وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة.
كأنما الآس1 عذار2 على
…
وجنته وقد علاها ضرام
كأنما الورقاء لما شدت
…
تتلو علينا فضل هذا الإمام
بشراك مولاي على منصب
…
كان له فيك مزيد الهيام
وافاك إقبال به دائما
…
وعشت مسعودا بطول الدوام
فقد رأينا فيك ما نرتضي
…
لازلت فينا سالما والسلام
هذه الأبيات من أقدم شعره الذي عثرنا عليه، وهي متسعة بالسهولة ووضوح الغرض ومجافاة الغموض، مع حسن صياغتها وتسلسلها، وكثرة تشبيهاتها المحكمة السائغة.
ومما قاله متغزلا:
إلى متى أشكو ولم ترث لي
…
أما كفى أن رق لي عذلي؟
يا باخلا بالوصل عن عاشق
…
بعسجد الأجفان لم يبخل
أنفق في حر الهوى عمره
…
وعن أمانيه فلا تسأل
لم يبق في الصب سوى مهجة
…
أمست بنيران الهوى تصطلي
ومقلة ترعى نجوم الدجى
…
شقيقك الزاهر عنها سل
تبيت تبكي شجوها كلما
…
هاج بذكراك فؤاد بلي
ما أطول الليل على عاشق
…
فارق محبوبا عليه ولي
كأنما الصبح اتقى سطوه
…
من كافر الليل فلم ينجل
فهذه القطعة من أرق أبيات الصبابة وأعذبها، أودعها الشاعر عواطفه وشجونه فعبرت عنها أصدق تعبير، فهو يعتب على محبوبه عتاب الشاكي، ويسائله إلام يغضي من شكواه، وقد رثى العذل لحاله؟ ثم يتجه إليه فيخاطبه قائلا متى بخل بالوصل على عاشق جاد بعسجد أجفانه لطول بكائه، وأنفق
1 الآس نبت معروف من الرياحين.
2 عذار اللحية الشعر النازل على اللحيتين.
عمره في حر الهوى، وأنت معرض لا تسأل عن أمانيه، لم يبق في محبك إلا مهجة تصطلي بنار الهوى، ومقلة تبيت ساهرة ترعى النجوم، فسل شقيقك ينبئك عن حالها، إنها تبيت تبكي كلما هاج بذكراك الفؤاد البالي، ثم ينتقل الشاعر إلى التبرم من طول الليل على العاشق الذي فارق محبوبا ولى عليه، وينتظر الصبح فلا يطلع، فيخيل إليه أنه يخشى سطوة الليل الكافر، فمن ثم لم ينجل، وهو مسبوق إلى هذا المعنى يقول البهاء زهير:
لي فيك أجر مجاهد
…
إن صح أن الليل كافر
المحسنات في شعره:
والمحسنات البديعية تبدو في شعر "العطار"، وتبدو أنواعها في شعره كما تدور في شعر أقرانه المعاصرين.
ففي شعره الطباق كقوله:
أسروني وأطلقوا دمع جفني
…
وأثاروا في القلب نار الجحيم
وهو بين "أسروا" و"أطلقوا".
والتقسيم كقوله:
فطرفي إلى رؤياكم متشوف
…
وقلبي إلى لقياكم متشوق
مع ما في البيت من الجناس بين متشوف ومتشوق.
وتجد في شعره الاقتباس كقوله:
مرج البحرين فيضا دمعه
…
إذ رأى جفنيه لا يلتقيان
وهو اقتباس من قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} .
ويستعمل الثورية في شعره، وتطالعك كثيرًا كما في قوله:
حلمه الروض جناه يجتني
…
ويرجي العفو منه كل جان
فقد روي بلفظ "جان" بين معنيه الآثم والقاطف.
وكما في قوله:
وكيف أجوز في ميدان قوم
…
حقيقة فضلهم أرجو مجازه
فقد روي بلفظ "مجاز" المضاف إلى الضمير يبين معنيه مقابل الحقيقة، والمصدر الميمي الذي هو بمعنى الاجتياز.
وكما في قوله:
كسر القلب وما كان التقى
…
فيه من حين هواه ساكنان
فلفظ "ساكنان" مورى به بين مثنى اسم الفاعل من سكن بمعنى حل، أو سكن بمعنى لم يتحرك، ويحسن أن نشير إلى أن "العطار" أخذ هذا المعنى من قول الشاعر:
يا ساكنا قلبي المعنى
…
وليس فيه سواك ثان
بأي معنى كسرت قلبي
…
وما التقى فيه ساكنان
أما الجناس فإنه مولع به، مفتون بفنونه، يستعمل منه في شعره ألوانا مختلفة ويدور في شعره في صور شتى، وكأن "بطرسًا" الذي قدم إلى مصر ضيفا مع كبير الدروز لم يقل في "العطار".
أضحى البديع رفيقه
…
لما تفرد في جناسه
إلا حيث كانت "العطار" شهرة بإدمان الجناس والافتتان فيه، وتلوينه بألوان مختلفة، فقد يعمد إلى الجناس في الكلمة الواحدة، فيوردها ذات معان شتى وفي صور متغايرة قد تصل أحيانا إلى أربع كقوله يمدح "إبراهيم باشا":
سمهري1 ينثني أم غصن بان
…
أم قوام دونه صبري بان
صان بالعسال2 معسول اللمي
…
وتهادي هادما ما أنا بان
1 السمهري -الرمح الصلب، والمنسوب إلى سمهر زوج ردينة، وكانا مثقفين للرماح، أو إلى قرية بالحبشة.
2 العسال الرمح الذي يهتز لينا، والمعسول المخلوط بالعسل.
يا مليك الحسن رفقا بشبح
…
كلما حاول كتم الشجو1 بان
فكلمة "بان" في هذه الأبيات كررها الشاعر أربع مرات، وهي على ترتيبها "اسم" للشجر، وفعل ماض بمعنى تعد، واسم فاعل من بني بمعنى أقام وشيد، وفعل ماض بمعنى ظهر، وولوعه بالجناس هذا هو الذي أوقعه في هذا التكرار الذي غاض معه جمال الشعر وبهاؤه، وجاء متكلفا لا تنفتح الأسماع له، وهو لا ينسى في غمار هذه الضجة التي أثارها بجناسه، "وبان" تكلفها في شعره أن يسوق جناسات أخرى في سياق هذه الأبيات، كما بين "العسال""ومعسول" اللمي "وتهادى" و"هادما" و"شج" و"شجو".
وهذا الجناس الذي يغرق "العطار" في تناوله، ويسرف في استعماله يحلو أحيانا، فيكون مقبولا سائغا لا نبو فيه كقوله:
وصفا لي زمان أنس صفا لي
…
بحبيب غض وراح قديم
وقوله:
وما لي إن منعتكها اقتدارا
…
وما لي إن منحتكها إجازة
وقوله:
يمم اليم ورد ما تشتهي
…
وعلى المورد يا صاح الضمان
وقوله:
وغنت الورق على أيكها
…
تنبه الشرب لشرب المدام
وقوله:
همم فوق السموات سمت
…
ومعال دونهن الصعب هان
فالجناس بين "صفا" و"صفا" و"منعتكها"، و"منحتكها" و"يمم" و"اليم" و"الشرب" جمع شارب و"الشرب" مصدر شرب و"السموات"، و"سمت" و"دونهن" و"هان"، وهذه جناسات سائغة لا تمجها النفس
1 الشجو -شجاه حزنه وطرفه كأشجاه فهما ضد.
ولا تتكره لها ومن جناسه ما يسمح، وينسبو وتسمعه الآذان بغضاضة، وتسخط لما يبذله له من التكلف والتعسف كقوله:
وحلى حلت وجلت غاية
…
أيجاري من له سبق الرهان
وقوله:
فهو كالشمس سمت آفاقها
…
وسناها كان في كل مكان
هذه جناسات موسومة بطابع التكلف ارتصد لها الشاعر، فلم تخف على الأسماع.
حسن الانتقال في شعره:
والشاعر يحسن الانتقال من معنى إلى معنى، فلا تحس بقلق بين المعنيين أو اقتضاب، أو تنقل من الأول إلى الثاني بل نجد تمام الالتئام، وحسن السبك وأحكام التآخي كقوله:
يا نديمي قم وباكرها وطب
…
هذه الجنة والحور الحسان
وأدر لي بنت كرم عتقت
…
نورها الباهر يحكي البهرمان
بالنهى قد فعلت كاساتها
…
فعل إبراهيم سلطان الزمان
فقد انتقل من أثر الكؤوس في النهى، وما تفعل به إلى أثر إبراهيم الممدوح في نفوس الناس دون مجافاة بين المعنى الأول والثاني، أو تعثر أو فجوة بينهما.
أغراض شعره:
هو واسع الأفق في شعره يتناول فيه جميع الأغراض الشعرية من غزل، ومدح وهجاء وفخر ورثاء، ووصف وتهنئة وحكم وغير ذلك.
ومن حكمه قوله:
قد يطلب الحسناء من لم يكن
…
كفؤًا لها للحمق في عقله
قد يتساوي اثنان في منصب
…
وإنما التفريق في سبله
ويفخر المرء بأفعاله
…
لا بالذي قد مات من أهله
المصطلحات العلمية في شعره:
تبدو المصطلحات العلمية في شعره، ولكن على قلة فمن ذلك قوله:
فمنصب المرء قرين له
…
والشكل مجذوب إلى شكله
وقد ترى فرعين من دوحة
…
تخالفا في الحكم مع شكله
التاريخ الشعري وبراءته منه:
أما التاريخ الشعري الذي تهافت عليه الشعراء المعاصرون له، فختموا به قصائدهم وسجلوا به كل حادث، وافتنوا في تناوله، فقد تحرر "العطار" منه ولم نعثر فيما وقع بين أيدينا من شعره على استعماله هذا النوع.
نثره:
جرى "العلطاء" في إنشائه على طريقة عصره، وخاصة في أوائله فالتزم السجع حتى لم تفلت منه جملة، وتكلف الصنعة ما طاوعه جهده، فكان نثره عكس شعره قيودا، والتزامات في النثر وسهولة وانطلاقا في الشعر في أغلب الأمر، وقد أودع ما كتبه في كتاب سماه "إنشاء العطار"، وقسمه قسمين "كتابة الشروط والصكوك، وإنشاء المراسلات الواقعة بين السوقة والمملوك، وأثبت في هذا الكتاب" من كل فن منهما قدرا به اللبيب عن غيره يستغني، فهو لكل كاتب عن الافتقار لسواه مغني".
وكان له في صباه أغراض دونها في أوراق تلاعبت بها الأيدي، ولم يبق منهما إلا النزر القليل، فلخص منها ما يحسن إيراده في "المخاطبات"، وترك "ما لا يتعلق به غرض في المكاتبات".
ولما كانت الأقلام في هذه الفترة متقاصرة عن تصوير المشاعر، وتسجيل الخواطر، وتدوين الرسائل في مختلف الأغراض، وضع "العطار" لشتى المناسبات إنشاء مختلفا يستعمله كل كاتب في غرضه، مراعيا مقام المكتوب إليه، فإن كتب رسالة ترفع إلى أمير، أو سلطان حشن له المدح والثناء، أو لمرجو في حاجة بسط إليه أكف الضراعة والاستجداء، واستدر عطفه ونداه، وإن خاطب عالما كان خطابه متسقا مع ما عرف به المخاطب من نوع علمه، وراعى في رسالته إليه ما يناسب من العبارات، والتراكيب مستشهدا بالشعر حينا من نظمه، وحينا آخر من محفوظه.
وبعد أن حشد في القسم الأول من هذه المخاطبات طائفة من الرسائل المتنوعة، عقب بخاتمة "تشتمل على أبيات تورد في أوائل الصدور، ويستشهد بها في أثناء السطور"، وبطائفة أخرى من "شطور أبيات تحلى بها السجعات".
ثم كتب في القسم الثاني ما يلائمه من رسائل أعدها لمن يعجز عن الكتابة، فيستعين بها من صور مبايعات، وصلح وحوالة وشركة وشفعة، ووكالة ونحو ذلك.
نماذج من إنشائه:
مما كتبه في رسائل الإخوان:
"الإخاء بيننا أدام الله سعدك وأثل مجدك، وأورى زندك، وأهلك ضدك، وأجرى على الألسنة شكرك وحمدك.
فالناس أجدر من أن يمدحوا رجلًا
…
حتى يروا عنده آثار إحسان
قوى الارتباط بعيد الانحطاط، متزايد متصاعد، عتيد أكيد، لا يطمع واش في نثر عقده، ولا يوجب طول التباعد تناسى عهده، كيف وأنت الجليل الذي عليه المعول، والحبيب الذي آخر شوقي إليه أول، لي بلقياك أنس وارتياح، وبدارك غدو ورواح، ومبيت ومقيل، في ظل عيش ظليل قوبل بإجلال، وعومل بإفضال:
وقيل له أهلا وسهلا ومرحبا
…
فهذا مكان صالح ومقيل
يجد منك القاصد إليك، والمستقر لديك، ما تقر به عينه، ويستقر أينه من نفيس كتاب، ولذيذ خطاب، وجليس أنيس، ونديم نفيس.
مجلس تكثر الفوائد فيه
…
وتسر العيون والأسماع
وكتب لعالم نحوي
"يقبل الأرض إجلالًا ويشرح ما
…
يحس من حرق الأشواق والقلق
ويشتكي بعض ما يلقى وأعجب ما
…
رأيت أن تخمد النيران بالورق
ويبدي غراما تحرك سواكنه عوامل الاشتياق، وحبا أضرمت ناره في الضمير فكاد يشعله الاحتراق، وينعت ودا ممتزجا بتوابع الثناء والمدح، ويرفع أدعية صارت بها الأكف مبنية على الفتح، ويصف أشواقا سكنت في صميم الضمير، وسلم جمعها من التكسير، بعد دعاء إذا قصد باب القبول قيل: ادخلوها بسلام، وسلام أعطر من حديث النسيم بأخبار زهر الكمام، وينهى بعد بث أشواق أصبحت بها الدموع في محاجر العين معثرة، ولو لم يقرأ إنسانها بمرسلات الدمع لقلقت في حقه قتل الإنسان ما أكفره.
إنه إن تفضل المولى بالسؤال عن حال هذا العبد المخلص، والمحب المتخصص، فهو باق على ما تشهد به الذات العلية، من صدق المحبة ورق العبودية، ويخبركم بكذا وكذا
…
إلخ".