المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السيد على درويش المصري - الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة - جـ ٣

[محمد كامل الفقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌تابع الأزهر والنشر

- ‌الشيخ عبد العزيز البشري

- ‌أزهريون لغويون أدباء

- ‌مدخل

- ‌الشيخ حسن قويدر الخليلي:

- ‌الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري:

- ‌الشيخ حسين المرصفي:

- ‌الشيخ حمزة فتح الله:

- ‌الشيخ سيد المرصفي:

- ‌الشيخ حسين والي:

- ‌الشعر في العصر الحديث

- ‌مدخل

- ‌شعراء الأزهر والتجديد في الشعر:

- ‌الثورة على الأوزان الشعرية:

- ‌نظر علماء الأزهر إلى الشعر:

- ‌الصبغة العامة في شعر الأزهريين:

- ‌شعراء الأزهر

- ‌مدخل

- ‌السيد إسماعيل الخشاب:

- ‌الشيخ حسن العطار:

- ‌السيد على درويش المصري

- ‌الشيخ محمد شهاب الدين المصري:

- ‌السيد علي أبو النصر المنفلوطي:

- ‌الشيخ علي الليثي:

- ‌الشيخ عبد الرحمن قراعة:

- ‌الأزهريون أساتذة شعراء العصر

- ‌مدخل

- ‌المرصفي والبارودي:

- ‌الشيخ البسيوني وشوقي:

- ‌الشيخ محمد عبده وحافظ:

- ‌قراعة وعبد المطلب:

- ‌خاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌فهرست الجزء الأول

- ‌فهرست الجزء الثاني

- ‌فهرست الجزء الثالث

- ‌أهم مراجع البحث:

الفصل: ‌السيد على درويش المصري

‌السيد على درويش المصري

السيد علي الدرويش المصري:

المتوفى سنة "1270هـ-1853م"

نشأته وحياته:

هو، "السيد علي الدرويش" بن "حسن" بن "إبراهيم الأنكوري"، ولد بالقاهرة في غرة شهر المحرم سنة 1211هـ، ولما شب ألحق بالأزهر، فتلقى علومه على جلة من شيوخه، وكان منذ صباه ميالا إلى الأدب وفنونه، فأقبل على كتبه يغذي ملكته بقراءتها ويرتوي من محاسنها، ويستظهر ما يستطيبه منها، وقلب في كتب اللغة فعرف أسرارها، ووقف على مكنونها، وكان هواه إلى الهندسة والحساب أيضا فأجال فيهما نظره، ثم تفرغ للكتابة وقرض الشعر، وحرر الرسائل ونظم جمهرة من الأصوات "أدوار الغناء"، واشتهر بصناعة المواليا والموشحات، وتهيأت له بأدبه وشهرته منزلة رفيعة لدى الوجوه، وأمراء العصر حتى أصبح شاعر المرحوم "عباس الأولى".

وكان غنيا بماله وعقاره عن التكسب بشعره معروفا بميله إلى اللهو، والطرب غزير المدح لمن يحبه لاذع الهجاء لمن يبغضه، ولعله امتاز بهذين من الشعراء الأزهريين الذين لم يكونوا في ذلك مسرفين، كما كان حاضر البديهة عذب المفاكهة، حلو المنادرة، كانت وفاته في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين وألف من الهجرة.

شعره:

عصر الدرويش عصر صناعة وزخرف وطلاء، وتعمل وكلف بالبديع وإغراق فيه على تفاوت الشعراء في ذلك، ولو أن الدرويش اقتصر في شعره على الحظ الذي تناوله المعاصرون له من الصناعة، والمحسنات لكان من أجودهم شعرًا إلا أنه أغرق في البديع، وكلف بالزخرف يحشده حشدا، ويشده شدا،

ص: 147

ويسرف فيه إسرافا، ويتصيده بسهولة ويرتقبه رضيه الذوق أو أباه، وبذلك استغلق شعره، والتوى قصده، وانحط نسجه، وضت معانيه فيما أغرى به من صنعة، وما سهر عليه من زينة.

فمن جناسه الذي يستعمله في شعره قوله:

أيام أفراح هي الحسن

صدق اليمين بأنها يمن

فالجناس بين اليمين واليمن، وهو متكلف إلا أنه غير موغل في الثقل.

وقوله:

كالروض مختلف الثمار مهذبا

أفنانه من عنده فن

فالجناس بين أفنان جمع فنن "وفن".

وقوله:

أملي وعلم مآله أعياني

أو لم تكن منقولة أعياني

فالجناس بين أملي ومآله، وبين "أعياني" بمعنى أثقلني و"أعيان" المضافة إلى ياء المتكلم جمع عين.

وقوله:

صفو الليالي أحسنا

يمن تراهم أحسنا

فالجناس بين أحسن ضد أساء وأحسن وصفا من الحسن.

هذه الجناسات ليس فيها ما واتاه عفوا، أو انساق إليه دون استكراه بل احتفل الشاعر بها، فشدها شدا أضاع المعنى الشعري، وجرد الشعر من الجمال والروعة.

ومما أسرف فيه من الجناس، وكان غاية في الثقل والتعمل والنبو والقلق قوله:

جسمي لعري غدا بالبرد مكتسيا

ليلا وشمس نهاري بردي الثاني

بردان لا نفع "للبردان عندهما

وجبة البرد تكو كل عريان

أخاف أطلب بردا أستغيث به

يرده بردا بالغيث حرماني

ص: 148

لا أسأل الحظ بردا أن يحرقه

والبرد والبرد في التحرير سيان

فإنه ما زال يكرر لفظ "البرد"، ويديره في شعره في أوضاع مختلفة طلبا للجناس حتى قبح نسج الشعر وسمح نظمه، وأصبح غاية في السخف و"البرودة"، ولعل كلفه بالجناس أوقعه في الخطأ باستعمال كملة بردان العامية، وفصيحها بارد وبُراد وبَرُود وبَرْد.

ومن الطباق الذي يستعمله قوله:

بيت جديد قديم المجد عن سلف

بسعد أنجالهم قد شرف السكن

فقد طابق بين جديد وقديم وقوله:

فكم قالت لها الأخرى هلمي

وكم قالت لها الدنيا تأني

فقد طابق بين الأخرى والدنيا:

ومن أنواع البديع التي يستعملها في شعره مراعاة النظير كقوله:

لهم جامع من غير باب فكم عوت

عليهم من المحراب في الصبح جرذان

إذا سجدت حيطانه فهي ركع

وتسمع تسبيح الحصا منه سقفان

وقد أخطأ إذ جمع سقف على سقفان، والصحيح سقف وسقوف.

ومما أولع به من التورية في شعره قوله في مليح اسمه رضوان.

قد أكثر البعض في إنكاره سفها

يوم القيامة جنات ونيرانا

فأبطل الله في الدنيا أدلتهم

لما أراهم من الجنات رضوانا

فيحتمل أن يكون أراد "رضوان" خازن الجنة، أو المليح المسمى "رضوان"، أو الرضوان مصدر كالرضا من رضى "ورضوان من الله أكبر".

ويروى في كتاب اسمه "مراتع الغزلان" فيقول:

يا واردا سلسال ذا البستان

منك الدعاء لصادر ظمآن

ص: 149

واسمع قمارى الحب في أقمارها

فلقد سقاها كأسه وسقاني

واسترحم المولى شهيدا في الهوى

أبدا صريع "مراتع الغزلان"

فالتورية في قوله "مراتع الغزلان"، إذ يحتمل أن يكون اسم الكتاب أو مواطن النساء الشبيهات بالغزلان.

وهو يغرى بالبديع أيضا في الموشحات و"الأدوار" الغنائية، فتراه يلتزم الجناس فيها، ويستعمل التورية ما استطاع، كقوله:

بافاتك الفتان

ناسي ناسي أهواء

وخده النعمان

كاسي كاسي آه

وآه

فقد أوقع الجناس بين ناسي اسم فاعل و"ناسي" بمعنى أهلي، وأوقعه بين كاسي اسم فاعل من كسا و"كاسي" التي هي إناء الخمر مضافة إلى ياء المتكلم، كما أوقعه بين أهواه، فعلًا بمعنى أحبه، وآه، وواه اسمي فعل بمعنى أتألم، وفي ذلك من التكلف والتشدد ما فيه، ويقول:

يا من على خده دينار

صرفت فيه فضة دمعي

جد لي ببوسه قال دي نار

والبوس محرم في شرعي

ففي كلمة "دينار" الثانية تورية إذ يحتمل أن تكون مكونة من "دي" اسم الإشارة بالعامية "ونار" أي هذه نار لا تطيقها، وأن تكون النقد المعروف من المذهب، والمعنى هات دينارا إن أردت القبلة.

ولوعه بالتاريخ الشعري:

وهو مفتون بالتاريخ الشعري، وما زال يستعمله في شعره حتى عرف به، ومهر فيه حتى ما كانت تمر به حادثة إلا أرخها عفو الساعة1.

1 أعيان البيان للسندوبي ص46.

ص: 150

فمن ذلك ما قاله يؤرخ به إنشاء قنطرة:

إنشاء ممدوح الملا

من عدله الدنيا ملا

أعني الوزير محمدا

رب المحامد والولا

لقبوله قد أرخوا

إنشاء قنطرة العلا

352 759 132

سنة 1243هـ

ويؤرخ لتجديد القصر العالي، فيقول:

قصر به نور السعادة آهل

إسعاد منشئه به متواصل

فكأنه الفردوس في أوصافه

ظل وفاكهة وماء هاطل

وبلابل الأغصان فيه ترنمت

فرحا فنقطها اللجين الوابل

والسعد نادي بالسرور مؤرخا

قصر به نور السعادة آهل

...............................

390 7 526 568 36

سنة 1257هـ

ومما كتبه ليؤرخ به

تاريخه كمولد السيد أباظه حسن

100 105 105 109 118

سنة 1232هـ.

وهو يستعمل الشعر في التاريخ للمناسبات التافهة، فإذا مات حماره قال:

الدرويش مات حماره

سنة 1246هـ.

وإذا مات حمار "خليل" قال:

قد نفق حمار خليل

سنة 1253هـ.

ص: 151

ويموت خادمه في ذلك العام الذي مات فيه حماره، فيؤرخ كما أرخ له فيقول:

قد مات خادمي أحمد

سنة 1253

وإذا جدد منظرته كان تجديدها عمارة تستحق التاريخ، فيقول:

جدد أحمد منظرة

سنة 1259

هذا وسنورد أبياتا متصلة من شعره لتكون أنطق دلالة على مذهبه في الشعر، وأكثر توضيحا لمسلكه فيه، مما هو من أغراض شعره المختلفة.

فمما قاله يمدح المرحوم "محمدا عليا"، ويؤرخ لامتحان المدارس.

أيجهد في سوى العلم المعاني

ومعنى الأنس إدراك المعاني؟

كفاني أن رب العلم باق

على الدنيا وهل باق كفاني؟

فلو عرف الكمي مجال علم

لزاجمنا عليه باليماني

وسن يراعه بسمت بنجح

متى عبس البنان من الطعان

بديوان المدارس نعم يوم

ولا أنساه يوم المهرجان

بأنجاب جميعهم تحلى

بعقد النجم مسعود القران

وقال لهم نزال لدى المعاني

وراهنهم فجالوا في الرهان

ترى شجعانهم بثبات جأش

إذ عرف الجبين من الجبان1

وهم يتنافسون بكل فضل

ليمتحنوا وعند الامتحان

كأن جوابهم لمغالطيهم

"عتاب بين جحظة والزمان"

فهم سادوا بمسودات فضل

بها قد بيضوا وجه الزمان

1 يقال امرأة جبينة وجبين وجبانه.

ص: 152

معانيهم تصرف نحو فقه

ومنطقهم بديع في البيان

ولا عجب إذا كان المربي

مربي الروح بالعقل المصان

خديو عدله في كل دان

وفضل علائه في كل آن

معان من معالي أريحي

أريح من زهور في جنان

به الأوطان مثل الروض أضحت

وفيها مدحه كالأقحوان

قد اكسب هيئة الدنيا جمالا

وجمل مصر منه بامتنان

بترجمة العلوم وكن عجما

وتأليف اللآلى والجمان

ينظم فوق صدر الفضل عقد

ونثر ذاك منه النيران

بلين تمدن وشديد دين

فريد ما له مثل يداني

به الإفضال نادي الفضل أرخ

أجل كرامة للامتحان

.........................

34 661 560

سنة 1255هـ.

فهذه الأبيات حشد الشاعر فيها ما قدر عليه من أنواع البديع المشدود، وألوان الصنعة المتكلفة المستكرهة حتى لكأنها مقصده الأول، وغرضه الأسمى فجاءت فجة مقفرة من جمال الشعر، لا تتنسم منها روح الشاعرية الخصبة، بل لعلي لم أهتز لبيت واحد منها بخيال يطرب، أو تصوير يعجب.

ودعاه صديقه "السيد أباظه" لمقابلته أحد الأمراء، فكتب إليه:

غيري تلفته تلك الخيالات

فهل لخطك فوق الماء إثبات

لا تحسب الفضل عند الكل منقبة

إحسان قوم لدى قوم إساءات

وحاسب النفس عن ساعات ما اشتغلت

في أي نفع مضت تلك السويعات

1 يقال امرأة جبينة وجبين وجبانة.

ص: 153

قرب صديقك وابعد عن عدوك في

سر إذا منعتك الجهر حاجات

الناس بحر فمن والى سباحته

لا بد يعيا وفي البر السلامات

فوحشة الناس أنس أو يمازجهم

فتى بضاعته في الناس مزجاة

إن عاتب الدهر غيري لا أعاتبه

إذ موجب العتب في دهري سجيات

فأكثر الناس لم أفرح لعيشتهم

في أي حال ولم أحزن إذا ماتوا

ولا أضر إذا غابوا وإن حضروا

فلا أسر ولم أنظر إذا فاتوا

فللدراويش حالات مناقضة

وللمجانين أوقات وساعات

وفي الحق أن هذه الأبيات لم تخل من المعاني الشعرية، ففيها دلالة على مذهب الشاعر في الحياة، وأنه لا يعبأ بكبار الناس، ولا يتهافت عليهم فما ذلك في رأيه إلا خيالات، هي أشبه عنده بخطك فوق الماء لا ثبات له ولا أثر، وأنه لا يحمل لأكثر الناس فرحا إذا عاضوا في أي حال، ولا يحزن عليهم إذا رحلوا عن الحياة، وإن غابوا فلا يضره غيابهم، وإن حضروا لا يسره حضورهم، وإن فاتوا لم يكلف نفسه نظرًا.

وهو يلتمس لنفسه العذر بأنه من "الدراويش"، "وفي ذلك تورية باسمه لطيفة"، وللدراويش حالات مناقضة، ويحسب نفسه في المجانين ليقوم جنونه عذرا عند صاحبه، وذلك عدا ما في الأبيات من حكم جرت على لسان مجرب خبر الحياة وعرف الناس، وأنه وإن لم يدع في هذه الأبيات ما جبل عليه من حب الزخرف، والطلاء كان غير مسرف، وذلك مما أبقى لها كثيرا من الجمال وأهلها لغير قليل من التقدير، وحسن الوزن.

ومن شعره الذي فيه شيء من الطرافة، وحسن السبك ما قاله من قصيدة يعتذر بها للشيخ "البديري":

بدر صفا بعد تكدير النوى فيه

وجاد لي بعد أن زالت نوافيه

فروح الروح وأغنم نور بهجتها

بمفرد قد سما عمن يحاكيه

قل "للبديري" واستعطف أصالته

فإن عوني عليه في معاليه

ص: 154

قد يهمل النقع في البيدا لخسته

ويرجم الغصن إن طابت مجانيه

فإذا أغضيت عن الجناس في البيتين الأولين، أعجبك من الشاعر تعبيره "استطف أصالته"، وأنه جعل عونه عليه في معاليه، وراقك تشبيهاه المحكمان في البيت الأخير.

وقال مضمنًا:

وغادة غار مني زوجها فسعى

يريد قتلي وفي أحشائه ضرم

يا زوجها كف عن قتلي مسامحة

بيني وبينك لو أنصفتني رحم

وقال مضمنا أيضًا:

قد قلت لما بدا يختال في خفر

وهز عطفا كغصن البان ممشوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

ومما قاله متغزلًا:

تعالى من أعار الغصن لينا

وأحرم من جناه العاذ لينا

يهنأ العاشقون بطيب عيش

فما أحلى عذاب العاشقينا

سعدنا بالتواصل بعد هجر

وقد كنا بجفونه شقينا

فقل للصابرين على هواه

دعوا العذال فيما يفترونا

"سيخزيهم وينصركم عليهم

ويشف صدور قوم مؤمنينا"

أرى لي في محبته يقينا

فهل من لحظه شيء يقينا

إذا ما كنت تهوى البحر فينا

فدع هذا لقوم آخرينا

فمن هدب ومن شعر وخال

يوالي المسلمون الكافرينا

فإنا في هواك عبيد رق

على حب وما كنا سبينا

فإن تمنن بإحسان علينا

"فإن الله يجزي المحسنينا"

فقل للجاهلين بجاه حسن

لظبي لم يضف للجاه لينا

رأيتم طرة سلبت فؤادي

بصفراء تسر الناظرين

ص: 155

وهذه أبيات تمثل غزل العلماء الجاف، فليس فها من لوعة ولا صبابة، وإنما هي شعر جدب لا تهتز له نفس، ولا يمس عاطفتك أثر منه، عدا ما فيها من الجناس الذي حرص عليه، والاقتباس الذي سعى إليه وساقه في غير موضعه "سيخزيهم وينصرهم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنينا"، و"إن الله يجزي المحسنينا".

ولكن شعر الدرويش لا يخلو أحيانا من شعر مقبول، ونظم على طرف من الجمال والحسن، ويظفر بذلك كلما تحرر من قيود التكلف، وآثر السهولة والتطلق.

ومن ذلك قوله:

ألا محب يلاقيني أطارحه

هوى حبيب منيع الدار نازحه

رأيت في الغصن شيئا من رشاقته

فكدت من فرط أشواقي أصافحه

حتى يؤجج نار الحب في كبدي

ظلما وقلبي مع هذا يسامحه

كأن شمس الضحى من طوقه شرقت

لنا ومن فرعه عادت بوارحه

وإن جفاني لبعدي عن منازله

واعتاض بي مائقا يهجوه مادحه

فطالما قصرت أوقاتنا معه

في ظل بان يثير الوجد صادحه

ورب ماض من الأعراب ذي شرف

تصافح الهام في الهيجا صفائحه

سابقته للمعاني ثم قدمني

قلب إلى الذروة العليا مطامحه

وبات يسري إلى شأو ليدركه

كالوعل يمشي إلى طود يناطحه

ومهمه نازح الأرجاء ذي محن

كأنما لجج خضر مناوحه

قطعته وركاب الركب واقفة

سيان سانحه عندي وبارحه

ص: 156

حيا العقيق من الوسمي صوب حيا

وجاد مغناه غاديه ورائحه

فكم فؤاد أبى فيه منطرح

وعاشق سفحت فيه سوافحه

فما من ريب في أن في هذه الأبيات غير قليل من الرصانة، وجمال الشعر وقوة التصوير، ولم يتهيأ ذلك الشاعر إلا بتخلصه شيئا من الأغلال التي كان يرسف فيها من التعسف، وكريه الصناعة.

ومن أبياته الرقاق ما قاله في الهرمين:

أنظر إلى الهرمين واعلم أنني

فيما أراه منهما مبهوت

رسخا على صدر الزمان وقلبه

لم ينهضا حتى الزمان يموت

ديوان شعره:

وقد جمع تلميذه "مصطفى سلامة النجاري" شعره ونثره في كتاب سماه "الإشعار بحميد الأشعار"، وطبعه على مطبعة الحجر سنة 1284هـ، ورتب الديوان على ثلاثة أبواب -الأول: في الصناعات مرتبة على السنين، والثاني: في غير المصنع مرتبا على حروف الهجاء، والثالث: في الثنر والأدوار، وقد نظم الدرويش جملة متون، وأراجيز منها متن التنوير ومنظومتان في العروض والقوافي افتتح الأولى بقوله:

إلهي لك الحمد فصل مسلما

على المصطفى والآل والصحب تفضيلا

واستهل الثانية بقوله:

لك الحمد فاللهم صل مسلما

لطه وآل فضلهم مد أبحرا

وبعد ففي نظم عروضا قوافيا

على هو الدرويش وازن أسطرا

وهو نظم ضعيف منحل السبك كما ترى:

ص: 157

نثره:

أما نثره فهو صورة من شعره في التكلف والتعسف، يلتزم فيه السجع حسن أو ساء، "ولولا ما كانت تجره إليه الأسجاع من الحشو والخروج لعد من كتاب الطبقة الأولى في منشئ ذلك العصر1".

وقد تضمن نثره الباب الثالث من كتاب "الإشعار بحميد الأشعار"، وله مقامات ورسائل فيها روعة ورصانة، فمن نثره ما كتبه أحد أصدقائه، وقد دعاه للحضور.

"سيدي كان مأمولي الحضور، لأحظى بالحبور، لكن قابلني القدر بنحسه وحضر لي من قد بناه بنفسه، فكادت النفس تحس لي أن أقتله بسيف علي ولو كنت من شيعته، لحضر لأعتابكم العبد من ساعته، ولما لم تكن لي وسيلة حتى أشاهد بطرفكم كل حيلة، قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، واعتكف على إسماعيل.

ومن مقامة الفضيلة والرذيلة قوله:

"وفقك الله لما يرضاه، وعصمك من موجب الذم ومن لا يتحاشاه، وإن الفضيلة والرذيلة صفتان متضادتان، ونوع الإنسان مجبول على الميل للأولى والفرار من الأخرى على حسب آراء العباد وعوائد البلاد، فربما كانت الفضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين، وكانت الرذيلة عند أمم فضيلة عند غيرهم من المتأخرين، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، مع تفاوتهم في طبائعهم وأشكالهم وصنائعهم، فمنهم ذو الطبع السليم، ومنهم الذميم، ولا سبيل إلى ترغيب الأول ليجتهد في الازدياد، والترهيب للثاني ليتطبع على أن يتحاشى بالاعتياد، إلا باللسان الآتي بسحر البيان، فقد جاء في الحديث أن إيمان المرء ليربو إذا مدح، وربما يصح الجسم إذا جرح".

مؤلفاته:

من مؤلفاته كتاب الدرج والدرك، وهو كتاب وضعه في مدح من

1 أعيان البيان للسندوبي ص47.

ص: 158

اشتهر في أيامه بكريم الصفات وجميل المزايا، وذم ذوي الدنايا والمثالث على ما هداه ميله وأوحى إليه عقله، جعل الدرج للممدوحين والدرك للمذمومين روى تلميذه "مصطفى النجاري" أن هذا الكتاب استعاره منه صديقه "حافظ بك مصطفى"، ولم يرده.

وله كتاب آخر اسمه "تاريخ محاسن الميل لصور الخيل"، وهو كتاب وضعه تلبية لرغبة الخديو "عباس الأول" ذكر فيه محاسن الخيل، ومساوئها وله رحلة لم تطبع ولم يتيسر الاطلاع عليها، وله سفينة الآداب، استعارها منه صديقه "على أغا الترجمان"، ولم يردها.

ص: 159