الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ سيد المرصفي:
المتوفى سنة 1351هـ-1931م:
نشأته وحياته:
هو، الأديب العالم الجليل الشيخ "سيد" بن "علي المرصفي"، ولد "بالمرصفا" إحدى قرى "القليوبية"، وهي بلدة أنبتت كثيرًا من الأدباء والعلماء النابهين، نشأ بها وأتم القرآن حفظا، ثم التحق بالجامع الأزهر فنهل من علمه وارتوى من ثقافته، و"شب مطبوعا على الجد والمثابرة بهمة لا يتطرق إليها الملل، وكان ذا ميل شديد إلى كتب الأدب العربي يقلب فيها نظره، ويمتع بروائعها نفسه، وكثيرا ما حفظ من شعر العرب الفحول، وتزود من أدبهم القديم الرصين، كما أكب على دراسة الكتب اللغوية، فدرسها دراسة دقيقة ووقف على أسرارها، واكتنه دقائقها من أمثال كتاب "الكامل للمبرد" "والأمالي لأبي علي القالي" "والحماسة لأبي تمام"، وغيرها.
وظل يتلقى العلم على فحول العلماء من أمثال "الشيخ الشربيني شيخ الجامع الأزهر الأسبق"، ومن شيوخه أيضًا الشيخ "المبلط"، والشيخ "عبد الهادي نجا الأبياري"، وكان يقول أخذت اللغة عنه.
وقد كتب كثيرًا من كتب الشربيني بخطه منها شرح البخاري، وتقرير له على الأطول في البلاغة، وظل كذلك حتى تقدم لامتحان العالمية، فحصل عليها من الدرجة الأولى الممتازة.
الوظائف التي شغلها:
وأول عمل تولاه هو تدريسه اللغة العربية بمدرسة "عباس باشا الابتدائية" ببولاق، ثم عتب عليه "الإنباني" شيخ الأزهر أن يحرم الأزهر فضله، وعمله فشكا "المرصفي" من أن مرتبات الأزهر لا تغنيه، فتفضل "الإنبابي"
ومنحه مرتب التدريس بالأزهر على أن يلقي درسا في جامع الزاهد "بجهة باب البحر" بين المغرب والعشاء، فيجمع بينه وبين التدريس بمدرسة "عباس باشا الابتدائية"، فكان يؤم درسه الأدباء والفضلاء، وحين كان مدرسًا بهذه المدرسة تأخر قليلا عن الموعد المقرر، فاستدعاه الناظر فكان جوابه تقديم الاستقالة، ومما أثر عنه أنه قال: ذهبنا إلى المدارس، فوجدناها نظاما بلا علم، وجئنا إلى الأزهر فوجدناه علما بلا نظام، فآثر العلم على النظام وتولى "المرصفي" التدريس في الأزهر.
وكان الناهضون بالأزهر الراغبون في ترويج الآداب العربية به، قد اتجهت عزائمهم إلى التوفر على دراسة الأدب العربي في الأزهر، وبذل عناية خاصة به بعد أن كان نافلة ينساق الحديث إليه استطرادًا.
فلما نهض المرحوم الشيخ "محمد عبده" بإصلاح الأزهر، ومكن من تنفيذ خطط الإصلاح فيه، وكان من أجل ما عني به توسيع آفاق الأدب العربي في الأزهر، والعمل على أن يأخذ الأزهريون بحظ غير يسير منه، فاقترح أن يطلب من ديوان الأوقاف مبلغا لترقية التعليم في علوم اللغة العربية، وأجيب هذا الطلب، وقرر مبلغ مائة جنيه سنويا لهذا الغرض1.
وكان الشيخ "سيد المرصفي"، قد اشتهر بالتمكن من الأدب العربي، والاضلاع في علوم اللغة العربية، فعهد إليه بتدريس كتاب "الكامل للمبرد"، ثم درس "الأمالي لأبي علي القالي"، "والحماسة لأبي تمام"، كما درس غيرها من كتب اللغة العربية، والأدب العربي وزيد مرتبه عن غيره من المدرسين لاضطلاعه بتدريس الأدب، ثم جمع بين التدريس في الأزهر، والتدريس بمدرسة السلحدار الابتدائية، ولما عين الشاعر العالم "الشيخ عبد الرحمن قراعة" مديرا للأزهر، والمعاهد سعى في منحه عضوية جماعة كبار العلماء، "والمرصفي" فيما نعلم أول عالم أزهري تمحض درسه للأدب في الأزهر.
1 تاريخ الإمام الجزء الثالث ص592 من تأبين الشيخ أحمد أبي خطوة.
وفي سنة 1913 عين مصححا بدار الكتب المصرية، فصحح "كتاب أساس البلاغة للزمخشري""وكتاب الطراز" في البلاغة.
مسلكه في التدريس:
كان يشرح ما في كتاب من شعر أو نثر شرحا دقيقا، وينقد ما فيه من غلط أو مجافاة، ويتجه اتجاها لغويا أكثر منه فكريا، وإذا نقد تبسط في نقده، ونفذ إلى الأعماق فيما يرمى إليه، وكان شديد الطرب للشعر القديم المتوغل في القدم، شديد الكره للتعبيرات النحوية أو الصرفية، أو غيرها مما يجري عليه مؤلف الكتب الأزهرية، يؤدي مراده بأسلوب أدبي رصين، ويحمل تلامذته على متابعته والاقتداء به، ولم يكن ليخفي نفوره من الشعر المصري الحديث الذي لا يجري في تركيبه على الأساليب العربية الجزلة.
وكانت دراسة أشبه بدراسة القدماء من اللغويين والأدباء، أمثال أبي العباس تعلب والمبرد والرياشي، وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم من أعلام اللغويين ورواة الشعر، ويقول عنه تلميذه "الدكتور طه حسين باشا" في مقدمة كتاب "الأدب الجاهلي"، وكان يفسر لتلاميذه في الأزهر ديوان الحماسة لأبي تمام، أو كتاب الكامل للمبرد، أو كتاب الأمالي للقالي، ينحو في هذا لتفسير مذهب اللغويين والنقد من قدماء المسلمين في البصرة والكوفة، وبغداد مع ميل شديد إلى النقد والغريب، وانصراف شديد عن النحو والصرف.
وكان طروبا لرقة الحديث وعذوبة المنطق، وحسن صوت المتكلم، تعجبه الكلمة الهادئة الرصينة المستقدة في موضعها التي لا نبو في استعمالها، وأكثر ما يؤذيه الكلمة الخشنة والصوت الأجش:
وإذا استحسن كلمة أو عبارة في بيت بالغ في استحسانها، وإظهار التأثر والإعجاب بها وأعادها جملة مرات في صوت رقيق ونغمة عذبة، وطلب إلى تلامذته أن يسمعوا أو يعجبوا ويشاركوه في عجبه، وبذلك تولدت عندهم
حاسة النقد الذوقي، ونشأت عند كثير منهم ملكة الشعر الغنائي، والنثر الرقيق الذي يشبه الشعر في لطف موسيقاه.
وكان ملحنا في طريقة أدائه حتى ليظهر طربه ويستخف تلامذته من موسيقى توقيعه، ويرى أن الأوزان الشعرية ترجع في توقيعها، ونغمتها إلى ضروب السير للرجالة والركبان والفرسان، ويجتهد في تمثيل ذلك بصوته وتوقيعه وحركته.
أثره في الأدب وتلامذته:
كان "المرصفي" يعقد درسه في الرواق العباسي، وقد حدثنا أحد تلامذته الخلصاء الأدباء1 أن حلقة درسه كانت مهرجانا يضم الأدباء والشعراء على اختلاف بيئاتهم وألوانهم، فلم تكن مقصورة على الأزهريين فحسب، بل كانت ندوة يؤمها عشاق الأدب جميعا، وكان يقيم بجهة باب الفتوح على مقربة من الأزهر، وبلغت الصلة بينه وبين تلامذته وعشاقه حدًّا غريبا فهم لا يقنعون بما انتفعوا به في دروسهم، ولكنهم يصحبونه إلى منزله فلا يزالون في حديث أدبي موصول، ودراسة طريقة ممتعة، ويشق عليهم أن يدعوا لأستاذهم فرصة ينفرد بها، والحق أن "المرصفي" كان خفيف الروح جذابًا"، يميل إلى الدعابة والمفاكهة، ويتبسط مع تلامذته فيزيل ما بينه وبينهم من الفوارق، ويشعرون بجو روحي خالص تمتزج فيه مشاعرهم بمشاعره وخواطرهم بخواطره.
وكان يهتز للسؤال الأدبي اهتزازا، ويخف له ويرتاح لموقعه من نفسه
1 هو العالم المحقق الأديب القد الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عميد كلية اللغة العربية، وقد شرح مقامات البديع وعرضه على أستاذه المرصفي، فقرظه كما شرح بعد ديوان الحماسة، وديوان الشريف الرضي، وسيرة ابن هشام وشرح ديواني أبي نواس والبحتري، وهما في طريقهما إلى الظهور، وله مؤلفات قيمة في النحو والصرف وغيرهما.
ويقرظ صاحبه حتى ليسمو بسؤاله، فإن سأله أحد تلامذته بما هو من النحو، أو علي شرف منه أعرض عنه، وقال:"نعم يا بن خروف".
تخرج علي الشيخ "سيد المرصفي"، فحول الأدباء والشعراء في مصر حتى ليجزم بعض تلامذته بأنه رأى جميع الأدباء والشعراء في درس "المرصفي"، ينتفعون بأدبه وتوجيهه.
ومن هؤلاء الذين غذاهم "المرصفي" بأدبه وعلمه، وبصرهم بمواقع الأدب، ومواطن الجمال فيه، وعلمهم النقد الأدبي الصحيح "السيد مصطفى لطفي المنفلوطي"، "والشيخ عبد العزيز البشري""محمد مصطفى الهيهاوي""والدكتور طه حسين باشا"، "والدكتور زكي مبارك""والأستاذ أحمد حسن الزيات"، "والأستاذ محمد حسن نائل المرصفي" الذي أخرج مجلة الجديد وشهر زاد، وصحح كتاب كليلة ودمنه، وعني بضبط غريبه وتفسيره، وبيان ما فيه من أسماء الحيوان والطير، وكتب مقدمة الكتاب، وترجم لعبد الله بن المقفع الذي نقله إلى العربية، ومنهم أيضا "الأستاذ حسن السندوبي" صاحب صحيفتي "الثمرات والجوانب"، وصاحب كتاب "أعيان البيان"، والشعراء الثلاثة "وشرح المفضليات"، "وشرح البيان والتبيين"، "وشرح المقابسات""وأدب الجاحظ""ورسائل الجاحظ"، "وشرح ديوان امرئ القيس"، "وأخبار المراقسة وأشعارهم""وأبو العباس المرسي"، ومنهم الأستاذ أحمد الزين الأديب الشاعر "والشيخ حسن القاياتي" الأديب الشاعر، "والشيخ محمود الزناتي" الذي شرح مختارات ابن الشجري، وبعض كتب أبي العلاء المعري، كما أنه له تصحيحات قيمة على كثير من كتب الأدب.
كما أن من تلامذته الأستاذ "محمود شاكر" الأديب الباحث الذي أخرج رسالة ممتازة عن المتنبي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته.
ومن تلامذته المجيدين الكاتب المعروف "المرحوم محمد إبراهم هلال"
الذي كان يكتب في "الكشكول" بعنوان "المرآة"، وكتب به "البشري" فيما بعد.
ومنهم الأديب الشاعر المؤلف الأستاذ "كامل الكيلاني"، كما أن منهم المرحوم الأستاذ "فهيم قنديل" صاحب مجلة عكاظ.
هؤلاء جميعا وغيرهم نهلوا من أدب "المرصفي"، واهتدوا بهديه واتجهوا متجهه في النقد الأدبي الصحيح.
وكان "المرصفي" صاحب الفضل العظيم في لفت الأنظار إلى الأدب العربي القديم، واستخراج كنوزه، والاقتباس من روائعه.
ومما قاله أحد تلامذته "الدكتور طه حسين "باشا" أستاذنا الجليل "سيد بن علي المرصفي" أصح من عرفت بمصر فقها في اللغة، وأسلمهم ذوقا في النقد، وأصدقهم رأيا في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر ولا سيما شعر الجاهلية، وصدر الإسلام، وقال:
"حب الأستاذ ودرسه قد أثر في نفسي تأثيرا شديدا، فصاغاها على مثاله، وكونا لها في الأدب والنقد ذوقا على مثال ذرقنه".
إيثار للبدوي الجزل على الحضرمي السهل، وكلف بمناحي الأعراب في فنون القول، ونبوعن تكلف المولدين لأنواع البديع، وانتحالهم لألوانه الفلسفية والمنطق، وتفطن شديد لحكم الضرورة في الشعر واللفظ السهل المهلهل يقع بين الألفاظ الجزلة الفخمة إلى غير ذلك، مما هو إلى مذهب القدماء من أئمة اللغة، ورواة الشعر أدنى منه إلى مذهب المحدثين من الأدباء والنقاد1.
وكان "المرصفي" شديد التمكن من رواية الشعر العربي القديم متوثقا من كل ما يرويه، مفاخرًا بذلك بين تلامذته، حتى لقد كان يقول: "إن أبا تمام
1 من مقدمة كتابه تجديد ذكرى أبي العلاء.
اختار من هذه القصيدة هذه الأبيات، وترك ما هو أجود منها وأكثر روعة.
وكان ينتقد أبا تمام في تصرفه في بعض القصائد بتقديم بعض أبياتها إذ يراها مروية على ترتيب آخر في كتب الأدب التي هي أوثق رواية مما اطلع عليه أبو تمام، كما كان يفعل مثل ذلك في شرح الكامل للمبرد.
استظهاره شعر اللصوص:
ومما امتاز به استظهاره شعر اللصوص، وكان يقول: إن لسان هؤلاء لم تشبه شائبة؛ لأنهم لم يتصلوا بالحضر، ولم تفسد ملكاتهم.
وهو يحب الشعر ويكلف به، ويحفظ من روائعه ما وسعه الجهد ويقول: تعلموا الشعر فإن لم تكونوا شعراء تكونوا لغويين".
نكاته ونوادره:
وكان رحمه الله حاضر البديهة، محبا للنكتة طريف النادرة، وقد أثر عنه من ذلك العذب السائغ، لقيه في الطريق رجل فاستوقفه قائلا:"طلقت امرأتي ثلاث فما ترى أيها الشيخ؟ فصاح في وجهه لا أدري، لا أدري فلما كلمه من معه قال: أتريدون أن ينكحها على قفاي؟ ".
وفي أحد أعياد المسلمين أقيم حفل قريب من منزله، واجتمع الناس به فقام قس، وأخذ يقول: إن عيسى أفضل من محمد، فثار الجمع لذلك وألحوا في استحضار الشيخ -وكان قريبا من الحفل لمحاجة القس، وأرهفت الأسماع واشرأبت أعناق- فقال له "المرصفي": أليس عيسى بن مريم؟ قال: نعم قال: أليس محمد بن عبد الله؟ قال: نعم -قال: أتفضل ابن المرأة على ابن الرجل؟
وحين كان مصححا بدار الكتب طلب منه "السيد محمد الببلاوي" كتاب تهذيب اللغة للأزهري، فقال: "تريد تهذي باللغة؟
ولعل هذه النكتة وفدت عليه من اطلاعه على قول الأول
لا تعرضن على الرواة قصيدة
…
ما لم تبالغ قبل في تهذيبها
فإذا عرضت الشعر غير مهذب
…
عدوه منك وساوسا تهذي بها
وقال لأصحابه يومًا: كانوا يقولون: إن البلاغة في طبع المصريين أتدرون أن المنطق في طبعهم أيضًا؟ قيل: كيف ذلك؟ لقيتني فتاة فسألتني نشوقا هي كونت في نفسها قياسا، كأنها قالت: هذا شيخ وكل شيخ يستنشق فهذا يستنشق.
علمه في كتب اللغة والأدب:
عمد إلى كتاب "الكامل للمبرد"، "والأماني لأبي علي القالي"، فبذل أكبر الجهود في شرحهما، وهما من أمهات الكتب العلمية الأدبية، وأغزرها مادة وأوسعها علما وأكثرها نفعا، وهما ميدان للبلاغة على مختلف فنونها والأساليب في شتى ألوانها، والأقلام في أخصب عصورها.
تصدى "المرصفي" لهذين الكتابين، فتجلت مادته اللغوية ودرايته بالرواية، وقدرته على الشرح، وبعد غوره في النقد وشدة تفطنه لمواطن البلاغة وروعة البيان، وطريقته في تناول هذين الكتابين أن يتم القصائد، ويشرح الغريب شرحا دقيقا، ويتعرض لنسبة الشعر إلى قائله، ويراجع من أخطأ في النسبة، ويترجم لصاحب الشعر كما يترجم للخطيب أو الكاتب.
ومن أهم ما عنى به تصحيح الرواية، وتخطئة الشراح السابقين.
ومما يظهر في شرحه إكبابه على دراسة الغريب، والتقصي عن وجوه استعمال الكلمة الواحدة، فيفرق بين معنى الكلمة في أسلوب، ومعناها في أسلوب آخر فرقا دقيقا لا يهتدي إليه الأمثلة من غزيري المادة اللغوية، وممارسي الأساليب العربية.
وشرح الأمالي والعقد كلاهما مخطوط، أما شرح الكامل فقد طبع في ثمانية أجزاء.
وقد تعقب "المرصفي" أبا العباس فيما رآه خطأ في الرواية، أو اللغة أو المعنى أو النحو أو شرح الغريب أو تفسير الغامض، وكثيرا ما كان يقسو في نقد المبرد، فيرسل جملا فيها من الجرأة مما لا يتفق مع مقام هذا الإمام الجليل، كأن يقول: كذب المبرد في هذا والمبرد كاذب في هذا، وهذا مما تفرد به. إلخ.
"والمرصفي" يقول في مقدمة الرغبة: أسميته رغبة الآمل من كتاب الكامل مهتما ببيان ما حاد فيه أبو العباس عن سنن الصواب من خطأ في الرواية، وخطل في الدراية، ولا ينبئك مثل خبير، فمن تخطئته المبرد1 قوله أبو العباس قوله صلى الله عليه وسلم: المتفيهقون، إنما هو بمنزلة قوله: الثرثارون توكيد له قال المرصفي ذلك صواب لو كان معناهما واحد، وليس كذلك وكأن أبا العباس ذهل عما ذكر من اشتقاقه، وبيان معناه وهو الامتلاء2، ومما خطأ به رواية المبرد قوله حين روى أبو العباس البيت.
إن الكريم من تلفت حوله
…
وإن اللئيم دائم الطرف أقود
قال المرصفي كذا أنشد أبو العباس، فغير لفظه ورواية الديوان
فمنهم جواد قد تلفت حوله
…
ومنهم لئيم دائم الطرف أقود3
وفي الرغبة كثير من هذا التغليظ وغيره، والحق أن المرصفي لم يطرد صواب ما أخذه على المبرد، وربما نزع في غير قوسه فراغ عن القصد سهمه كما وصف المبرد بذلك في مقدمة الرغبة، ومن ذلك ما أتى به المبرد هجاء، فجعله المرصفي مدحا، إذ قال -: قال أبو العباس المبرد-: ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا -يريد ابن خلف- قوله في الحسن بن سهل.
1 رغبة الآمل ج1 ص23.
2 رغبة الآمل ج ص178 وقوله: أقود يريد لا يلتفت إذ طعن مخافة أن يرى شخصا فيدعوه فوجهه مستقيم على زاده لا يكاد يصرفه، المرصفي في الرغبة في الصحيفة نفسها.
3 رغبة الآمل ج4 ص132.
باب الأمير عراء ما به أحد
…
إلا امرؤ واضع كفاعلي ذقن
قالت وقد أملت ما كنت آمله
…
هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمين
كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب
…
يفيء دارك يستعدى على الزمن
إن الرجاء الذي قد كنت آمله
…
وضعته ورجاء الناس في كفن
في الله منه وجدوى كفه خلف
…
ليس السدى والندى في راحقا لحسن
"في الحسن بن سهل" يريد ابن عبد الله السرخسي، وزير المأمون بعد أخيه الفضل بن سهل، "باب الأمير" كأنه يريد أميرًا غير الحسن "ولا تلقى أخا طلب
…
إلخ يريد الإرجاء السدي، وهو ندى الليل "والندى" ندى النهار ضربهما مثلا لجوده، وقد أخر هذا الاستثناء عن موضعه فيقل1، وقد عنى بتخطئته في مثل ذلك الأستاذ أحمد شاكر في تعليقه على الكامل.
على أن "المرصفي" وإن كان مضلعا في اللغة بارعا في النقد ثقة في الرواية لم يكن أول من وجه إلى المبرد ما وجه، فقد سبقه إلى ذلك كثيرون، ومنهم "أبو القاسم علي بن حمزة البصري" في كتابه التنبيه على أغاليط الرواة ما غلط فيه المبرد، ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب، وبالمكتبة نسخة منقولة عنها "والمرصفي"، قد يشير إلى نقد أبي القاسم المبرد وقد لا يشير.
أسرار الحماسة:
شرح هذا الكتاب على طريقته التي نهجها في الكتب الثلاثة، وقد رأى كما قال في المقدمة:
"إن أبا تمام سامحه الله تعالى كثيرا ما يعتمد على ذوقه، فأحيانا يقدم ويؤخر في أبياته، وأحيانا يبدل بعض كلمات العرب بكلماته، وبما حذف ما يحتاج
1 رغبة الآمل ج4 ص132.
إليه المعنى، فيختل المبنى"، كما رأى أن أيدي الرواة عبثت بجميع ما اختاره أبو تمام، فمنهم من ابتدأ بشعر قيس بن الحطيم الأنصاري، ومنهم من افتتحه بشعر قريط بن أنيف العنبري، وكثيرا ما يفرقون بين أشعار القبائل، ويذكرون الأواخر أثناء الأوائل -وربما فرقوا بين كلمتين قيلتا في حادثة واحدة لشاعر، وباعدوا بين أنساب العمائر، وأحساب العشائر.
لذلك رتبه "المرصفي" ترتيبًا آخر، فقسم أشعار الحماسة قسمين أولهما: الموضوعات الأدبية وثانيهما: شعر الوقائع الجاهلية والإسلامية، قدم الشعر الجاهلي على الإسلامي، والأموي على العباسي ملتزما إيراد القصيدة متى عثر عليها كاملة، منبها إلى ما وقع فيه أبو تمام، مفسرا المعنى مبينا المغزى، غير تابع لقوم مدوا أيديهم على ذلك الديوان بالكتابة، وظنوا أنهم فوقوا سهام الصواب، وقد أخطأوا غرض الإصابة.
ولغزارة مادته اللغوية وسعة أفقه، وفيض علمه كان كثير النقد والتعليق والتخطئ، والتصويب لكثير من كتب اللغة والأدب، وقد اطلعت في مكتبته على طرف مما يقتنيه من هذه الكتب، فوجدته قد طرز هوامشها، وحواشيها بغرر من العلم وفنون من النقد، كتبها بخطه الأنيق البديع الذي يضارع أروع الخطوط المحدثة.
ونسخته من لسان العرب قد زينت هوامشها بكثير من التصحيحات والنقد والمحاكمة خصوصا فيما نقله "ابن منظور"، عن "ابن بري""والجوهري" إذ كان "لابن بري" شرح على "صحاح الجوهري" يتعقبه فيه، ويكثر من تخطيئه "وابن منظور" ينقل العبارتين، فيقف "المرصفي" موقف الحكم بينهما.
وقد نقل "المرصفي" بخطه الجميل كثيرا من كتب الأدب، ودواوين الشعر في مختلف العصور، ونسخ كثيرا من كتب اللغة العربية والبلاغة، والفقه وغيرها، وقد كان يكتب المتن بمداد ذي لون، والشرح بمداد من لون آخر والتقرير بخط يخالف في حجمه، كل ذلك في شكل مقبول ووضع طريف،
وكثيرًا ما كلف أبناءه وتلامذته بنسخ ما يروقه من الكتب والدواوين.
ومما اطلعت عليه بخطه كراسة وضع في أطارها بالخط الضخم الرائع كلمات غربية عربية، ثم وضع داخل الصفحة شواهد من الشعر العربي المشتمل على هذه الكلمات منبها إلى مراجع هذه الأبيات، وقد يكتب الكلمات في الإطار، ويدع مقابلها فارغا من الشواهد، انتظارا للعثور عليه ومما كتبه.
الزرجون: قال أبو دهبل:
ثم ماشيتها إلى القبة الخـ
…
ـضراء تمشي في مرمر مسنون
وقباب قد أمرجت وبيوت
…
نظمت بالريحان والزرجون
الجفن: قال النمر التولبي "من مجموعة التعالبي":
ألم بصحبتي وهم هجود
…
خيال طارق من أم حصن
ألم ترها تريك غداة باتت
…
بملء العين من كرم وحسن
سقية بين أنهار ودور
…
وزرع ثابت وكروم جفن
لها ما تشتهي على مصفى
…
إذا شاءت وحواري بسمن
أسلوبه:
أما أسلوبه الأدبي فهو الأسلوب الرصين الفصيح العبارة المتخير اللفظ الحسن السبك الذي يطالعك منه غزارة البيان، وفيض اللغة والافتتان في الأخذ بأساليبها، ويغلب على "المرصفي" أن يتناول السجع في كتابته لكنه في رفق، ولطف لا غضاضة فيه ولا ثقل.
شعره:
أما شعره ففصيح التعبير متلائم النسج قوي الديباجة لكنه شعر علماء، وقد ينحو به نحو الصنعة، ويجهد في الجناس والتورية، ويتناول التاريخ في شعره
كسنة السابقين، ولكن ذلك لا يخرجه عن الوضوح والجزالة، وإيثار المعنى وتوخي الغرض.
نموذج من نثره:
مما قاله في مقدمة "أسرار الحماسة".
أما بعد. فلولا ما يؤثر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، لما كتبت في اللغة العربية آية تذكر أو حديثا يؤثر، أو حكمة غراء، أو رجزا تحدو به حداة الإبل، أو قصيدة تسير مسير المثل، ومعاذ الله أن يكون ذلك ضنة وبخلا، أو بما وجب سفاهة وجهلا، ولكن رأيت نفوس القوم مصروفة إلى تحقيق المسائل العلمية والمباحث العقلية، والعليم عندهم من نظر إلى الاستدلال، وأكثر طرق الاحتمال، وولد من الكلام ما لا يولد، وأوجد من الأفهام ما لا يوجد، ولو علموا "هداهم الله تعالى" ما علمناه من خصائص اللغة وأساليبها، وما أودعت من لطائف الأسرار في تراكيبها، لهجروا تلك الكتب ذوات التنافر والتعقيد، واغتنموا لغة القرآن المجيد، والحديث الحميد.
على أنها لغة أمين أميين لا يعلمون القراءة والكتابة، ويعلمون ما تحت السحاب وما فوق السحاب، ما تركوا من أودية المعاني واديا إلا بحثوه، ولا طرقوا من مبهمات الكلام غامضا إلا استنبئوه، وهم مع ذلك لم تجمعهم جامعة كلية، ولم تحوهم مدرسة نظامية، وإنما كان العربي في بدايته يتلقى من أمه وأبيه، وفصيلته التي تؤويه، حتى غذا بلغ أشده واستوى طفق ينتقل في الأحياء، تنقل الأفياء، يستمع ما يترنم به الفتيان وتشدو به الركبان فيحفظ منهم ما سمعه، ويعي ما جمعه. فيتفتق بذلك لسانه، ويقوى جنانه، "وإنما العلم بالتعلم وملاك الفهم التفهم".
نموذج من شعره: قال في عرس:
أهذه أنجم تزهو على الأنس
…
أم ذي بدور بدت من مطلع الأنس
أم ذي محاسن أنوار تنظمها
…
أيدي السرور تحلى بهجة العرس
لله ليلة أنس في ملاحتها
…
وحسن بهجتها أقصى منى النفس
يريك منظرها من لطف رونقها
…
روضا تنور زهرًا أطيب العرس
أعجب بها ليلة ما رامها أحد
…
إلا تكشف عنه شقوة النحس
تقارن البدر فيها وهو مكتمل
…
في دارة العز والإيناس بالشمس
وقال مقرظا كتابا في علم الإملاء ألفه "الشيخ حسن شهاب"، وسماه "دليل الكاتب".
لله حسن مؤلف في وضعه
…
صور الحروف كفاية للطالب
يهدي إلى طرق الكتابة رسمه
…
يا حبذا الهادي دليل "الكاتب
ومدح الخديو "عباسا" الثاني بقصيدة مطلعها:
سل النجم عن جفني محبك والكرى
…
كفى شاهدا من سائل الدمع ما جرى
جرى فوق خدي ناحل رق جلده
…
فأمسى ولا صبر لديه فيصبرا
وهنأ "الشيخ الإنبابي" إذ ولي مشيخة الأزهر بقصيدة كان يسميها المعلقة الثامنة -قال في مطلعها:
ملاك العلا في غرة ملكت يدي
…
أمن شأن مثلي في العزازة أن يدي
أبت عزمتي أن آخذ الحمد هينا
…
بغير سنان أو لسان محدد
إلى أن يقول:
أمرت العلا أرخ بسامي كماله
…
تهنأت الدنيا ودين محمد
...................
…
856 66 70 92
1314 هـ
وكان الشعراء هنأوا "الشيخ الشربيني" بتوليته مشيخة الأزهر، فكتب له مهنئا فكان مما قاله:
تحجب البدر يا للناس عن نظري
…
هل عارف فيكم بالعين والأثر؟
ردوا علي فقلبي في هواه مضى
…
وحلف الجفن في التسهيد والسهر
يا شيء ما لي فما أدري تحجبه
…
أساحر بي وشي أم رمية القدر1
ولما قرأها "الشربيني"، وكان قد قرأ القصائد جميعا قال: علقوا قصيدة "المرصفي" فوق رأسي.
وللمرصفي ديوان مخطوط يجمع طائفة ضخمة من شعره الذي قاله في مختلف الأغراض، وله تخميس سماء "الدر الذي انسجم على لامية العجم"، التي قالها الوزير الكاتب مؤيد الدين "الحسين بن علي الطغرائي"، وأول اللامية:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
…
وحلية الفضل زانتني لدى العطل
ويقول "المرصفي" في مقدمة التخميس: إنه نظمه "قياما بواجب الأدب، وأخذا بنصرة لغة العرب وامتثالا لإشارة أعزائي الإخوان من بني الإنسان، وما هو إلا خطرات فكر نزهته في روض اليراع، فجنى من أدبه الغض ما استطاع، سميته بالدر الذي انسجم على لامية العجم" متخليا عن وصمة الخائل متحليا بحكمة القائل:
وما أعجبتني قط دعوى عريضة
…
ولو قام في تصديقها ألف شاهد
ومن التخميس قوله:
1 يا شيء كلمة يتعجب بها تقول: يا شيء ما لي كياهئ ما لي "قاموس"، وفي الأساس روى الكسائي يا شيء ما لي في التلهف على الشيء، وأنشد:
يا شيء ما لي من يعمر يفنه
…
مر الزمان عليه والتلقيب
وقال زهير بن مسعود:
يا شيء ما هم حين يدعوهم
…
داع ليوم الروع مكروب
أنا الإمام وكل الناس لي تبع
…
لم يلحقوا شأو مجدي أن هم انتجعوا
لي المفاخر فيما بينهم جمع
…
"مجدي أخير أو مجدي أولا شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل"
مجدي تعزز حتى اعتز بي وطني
…
وتاه كبرا على بغداد أو عدن
لا أبتغي غيره والعز ينشدني
…
"فيم الإقامة بالزوراء لا سكنى
بها ولا ناقتي فيها ولا جملي"
ويقول في آخره:
ويا بصيرا بحال الدهر أهله
…
للأمر أهل النهى حتى تأمله
إن وشحوك بما استوضحت مشكله
…
"قد رشحوك لأمر إن فطنت له
فارنا بنفسك أن ترعى من الهمل"
وقد طبع التخميس سنة 1312هـ، ويليه في كتيب واحد تخميس تلميذه "السيد طه أفندي أبو بكر" الذي سماه "بث الشجن على عينة أبي الحسن"، التي أنشأها ابن رزيق ومطلعها:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
…
قد قلت حقا، ولكن ليس يسمعه