المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشيخ عبد الرحمن قراعة: - الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة - جـ ٣

[محمد كامل الفقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌تابع الأزهر والنشر

- ‌الشيخ عبد العزيز البشري

- ‌أزهريون لغويون أدباء

- ‌مدخل

- ‌الشيخ حسن قويدر الخليلي:

- ‌الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري:

- ‌الشيخ حسين المرصفي:

- ‌الشيخ حمزة فتح الله:

- ‌الشيخ سيد المرصفي:

- ‌الشيخ حسين والي:

- ‌الشعر في العصر الحديث

- ‌مدخل

- ‌شعراء الأزهر والتجديد في الشعر:

- ‌الثورة على الأوزان الشعرية:

- ‌نظر علماء الأزهر إلى الشعر:

- ‌الصبغة العامة في شعر الأزهريين:

- ‌شعراء الأزهر

- ‌مدخل

- ‌السيد إسماعيل الخشاب:

- ‌الشيخ حسن العطار:

- ‌السيد على درويش المصري

- ‌الشيخ محمد شهاب الدين المصري:

- ‌السيد علي أبو النصر المنفلوطي:

- ‌الشيخ علي الليثي:

- ‌الشيخ عبد الرحمن قراعة:

- ‌الأزهريون أساتذة شعراء العصر

- ‌مدخل

- ‌المرصفي والبارودي:

- ‌الشيخ البسيوني وشوقي:

- ‌الشيخ محمد عبده وحافظ:

- ‌قراعة وعبد المطلب:

- ‌خاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌فهرست الجزء الأول

- ‌فهرست الجزء الثاني

- ‌فهرست الجزء الثالث

- ‌أهم مراجع البحث:

الفصل: ‌الشيخ عبد الرحمن قراعة:

‌الشيخ عبد الرحمن قراعة:

المتوفى سنة "1349هـ-1930م"

نشأته وحياته:

ولد بأسيوط قرابة سنة 1825م من أسرة عريقة في العلم والدين، فحفظ القرآن في صباه وكان والده أحد علماء الأزهر يحب الأدب، ويقرض الشعر وقد نظم في النحو خمسمائة ألف بيت تدارك فيها ما فات ابن مالك في ألفيته مما نبه إليه الشراح من قيود، وشروط وغيرها، فتأثر "عبد الرحمن" بأبيه واتجه متجهه، وتلقى العلم عنه في صغره، ولقي من رعايته وتوجيهه ما غذى قريحته بالأدب، وطبع ملكته على حبه.

ولما أصاب حظا من الثقافة الناشئة ألحقه والده بالأزهر، فانتظم في عقده وتلقى فنونه على أساتذته من أمثال الشيخ "حسن الطويل"، والشيخ "محمد الإنبابي" والشيخ "الأشموني" وأضرابهم، وقد قضى فترة في الطلب ناهزت عشر سنين، وكانت شهرته بالأدب قد ملأت الأذهان، وطوف صيته في ربوع الأزهر وخارجه، ووسم بالشعر الرصين والنثر المحكم، حتى كان علما بين شعراء الأزهر وأدبائه في ذلك الحين، وكان قد تقدم لامتحان العالمية، فحدثت في الأزهر فتنة كان من أثرها أن عين المرحوم الشيخ "محمد الإنبابي" شيخا للأزهر بعد سابقه المرحوم الشيخ "محمد المهدي العباسي"، ويقول بعض الرواة: إن "الإنبابي" غضب على قراعة ونفاه من القاهرة إلى أسيوط؛ لأنه أنشأ قصيدة هجاه بها قال في مطلعها:

خذوا حذركم فالأمر قد جاء بالضد

لقد ظهر الدجال واختبأ المهدي

ومما قاله الرواة - إن قراعة كان صديقا للمهدي، وكان المهدي يؤثره ويوليه حبه، فنظم قراعة هذا الشعر ولاء للمهدي، وزراية بالإنبابي، فأجرى

ص: 189

معه تحقيق كانت نتيجته النفي إلى أسيوط التي ظل بها قرابة أربعة عشر عاما كان يرسل فيها قصائد الاعتذار، والتنصل للإنبابي حتى عين الشيخ "حسونه النواوي وكيلا للأزهر، فاستوفده إلى القاهرة.

وقد رجعت في تحقيق ذلك إلى أسرته والأدنين منه ومن خالطوه، لأجلو الأمر واستوضح غامضه، فقيل: إن قراعة لم ينظم هذه القصيدة بل نحلها له خصوم الإنبابي اعتمادا على شهرة قراعة بالشعر وطلبا لذيوعها له، أما هو فبرئ منها لم يخط فيها حرفا، كيف وهو تلميذه المنتفع بعلمه المغتذى بثقافته؟ على أن فيما وجهه قراعة إلى الإنبابي من شعر ونثر ما يدل على نقاء صفحته، وبراءته من هذا الشعر، هذا ولم يكن ارتحال قراعة إلى بلده جزاء وعقوبة، وإنما كان انصرافا منه لكدر الجو من الدس والسعاية، ومهما يكن من شيء، فإن القصيدة سواء نظمها، أو نسبت إليه سارت على الألسن، وطوفت في الآفاق وعلقت بالأذهان.

وإذ ارتحل "قراعة" إلى أسيوط هذه الفترة الطويلة أكب على دراسة الأدب ونظم الشعر، وتوفر على التفسير والحديث، فتمكن من دراستهما واجتمع بجمهرة من علماء الأزهر الذين رحلوا إلى أسيوط وطنهم، فاتصل بهم وكان بيت أبيه شبيها بندوة أدبية، ودرس علمي يجمعهم، فعلا في هذا الندى صوته وتألق بين رواده نبوغه، فكان فيمن يفدون إلى هذا المجلس المرحوم "محمد بك أبو شادي" الذي أنشأ جريدة الظاهر فيما بعد، وكان من أبرع المحامين بأسيوط، كما كان منهم المرحوم "عبد الله هاشم" الأديب المطلع الذي وصفه "قراعة"، فقال:"أخذ هاشم نهايتنا فجعلها بداية له"، والمرحوم "حسين بك فهمي" الأديب أحد كبار محامي أسيوط، "وإمام بك فهمي" أحد أعلامهم أيضا، وما زالت شهرة "قراعة" تنمو، وتتطاير حتى كثر عشاقه، وأقبل عليه أنصار الأدب من كل حدب، فإذا بيته مقصد كل عظيم، وأديب من رجال القضاء والإدارة والتعليم، ومما قرأه على عشاقه في هذه الفترة

ص: 190

كتاب "الكشاف" للزمخشري "والنسائي" في الحديث، كما قرأ عليهم كتاب "الأغاني" على طوله واتساع جنباته.

بقى "قراعة" في أسيوط حتى استدعاه الشيخ "حسونه النواوي"، وكيل الأزهر إلى القاهرة فتقدم للامتحان، ونال شهادة العالمية، ثم اشتغل بتدريس الفقه والنحو في الأزهر حتى إذا وجهت العناية الخاصة إلى تدريس الأدب في الأزهر تولى تدريس مقامات الحريري، فجمع في شرحها بين اللغة، والأدب بأسلوبه العذب وبيانه الرائع، وكان "السيد مصطفى المنفلوطي" أحد من غشى درسه الأدبي.

ولم تطل هذه الفترة حتى عين مفتيًا شرعيا بمدينة سوهاج، فمكث بها عدة سنين عقد في أثنائها بأحد مساجدها درس التفسير الذي كان يلقيه بطريقة جذابة مشوقة، وأمه كثير من رجال العلم والأدب، واتخذ من بيته منتدى أدبيا يضم كثيرا من الأدباء، مثل المرحوم "الشيخ محمد عبد المطلب" الشاعر الذي لازمه، وانتفع به وبتوجيهه الأدبي، ولقي منه تشجيعا ورعاية، وكان أكثر عشاقه ملازمة له وترددًا عليه، كما كان من عشاقه أيضا، والمصاحبين له المرحوم "محمد أبو النعمان بك"، والمرحوم "يحيى أبو بكر باشا"، وكانا أديبين من أعلام القضاء الأهلي امتازا بمراعاتهما في تطبيق أحكام القانون موافقته، أو قربه لأحكام الشريعة الإسلامية، كما كان منهم المرحوم "أحمد أفندي عبد الباري طاهر" الأديب الذي كان مدرسًا بمدرسة سوهاج مع زميله الشيخ "محمد عبد المطلب.

ومما اقترحه الأدباء أن يشرح قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي مطلعها:

أمن آل أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

وقد أفاض "قراعة" في شرحها ونقدها، والتعليق عليها فقام هؤلاء بطبعها والاحتفاظ بها.

ثم نقل إلى وظيفة قاض بمديرية أسوان في فبراير سنة 1905م، وظل بها إلى سنة 1906م، حيث نقل قاضيا بمديرية المنصورة، فرئيسا لمحكمة بني سويف

ص: 191

الكلية الشرعية، ثم عين عضوا بمحكمة مصر العليا، فمديرا للأزهر والمعاهد الدينية، وقد بذل جهده في الإصلاح ما استطاع إليه سبيلًا.

وكان أول ما عمله منذ شغل هذا المنصب أن سعى لمنح الشيخ "سيد بن علي المرصفي، عضوية جماعة كبار العلماء، فكان ذلك إنهاضا للأدب ويدا تشجع على المضي فيه "ولا يؤخذ إلا من مصادره".

ثم أصبح مفتيا للديار المصرية، وذلك هو آخر ما تولاه من أعمال، وما أسند إليه من مناصب، حتى لستأثر الله به سنة 1349هـ، الموافقة 1391م.

شعره:

الشيخ "عبد الرحمن قراعة" شاعر مطبوع مشرق الديباجة متلاحم النسج متين السبك رائع التشبيه جزل العبارة رقيق المعنى واضح الغرض، يتدفق فيضه، ويجري بيانه في رقة وسلاسة ووضوح، فلا تعقيد في لفظه ولا التواء في غرضه ولا إغراب في معناه.

وكان الشعر قد طوع له وأرخى له عنانه، وأسلس قياده فهو بوافيه على غير تكره وينقاد له وكلما، خطرت له خاطرة، أو بدت له بادرة، أودع ذلك شعره الرصين الفخم، وكم كان للعربية من هذه الثروة الضخمة من نفع وجدوى ولقراء الأدب وعشاقه من لذة ومتاع، لو مكنت لهم رواية شعره جملة والوقوف على ما خلفه جميعا، ولكن شعره تفرق بددا، وذهب شتيتا، فلم يجمعه أو يطلبه من الصحف والمجملات، وصدور الناس حريص عليه، وكل ما رأيته في ذلك كتيب صغير جمع طرفا من نثره، وشعره بعنوان "عبد الرحمن قراعة كأديب".

وأيا ما كان فإنا لم نحكم هذا الحكم على شعره، إلا بدراستنا ما عثرنا عليه، وبتقليب النظر في كل ما تيسر لنا من مصادر مختلفة نثق بها.

فمما قاله يبرئ نفسه مما رمى به لدى أستاذه الشيخ "محمد الإنبابي":

أما آن أن تنسى الرباب وزينبا

وتقلع عما كان في زمن الصبا

ص: 192

ألا تعتبر إذ كنت أجرد أمردا

ودهم الليالي قد تركنت أشيبا

ضلال وغي أن يلج بك الهوى

فتقتعد الأخطار للهو مركبا

إذا لم يكن شيب الفتى رادعا له

فإن عناء أن تلوم وتعتبا

وإن أحق الناس باللوم من دعا

سواه إلى طرق الرشاد ونكبا

تركت التصابي ضنة بمناقبي

وصونا لعرض أن يشان ويثلبها

وما أنا من طعن الحسود بآمن

على أنه ما قال إلا ليكذبا

أبت همتي أني أقارف سبة

على مثلها لم ألف عما ولا أبا

جزى الله بالحسنى عداتي فإنهم

إذا حاولوا نقصي أزيد تأدبا

ورب صديق قد تجنبت سخطه

وآثرت ما يهوى خبيثا وطيبا

تحرش بالعدوان في وقت حاجتي

إليه وطبع المرء قد كان أغلبا

وألب أعدائي بما وصلت له

يداه ومنهم صار أنكى وأحربا

ومن ضرسته الحادثات بنابها

رأى أهوان الأشياء صديقا تألبا

ومن خبر الأيام لم ير باقيا

تمر به الأيام إلا تقلبا

سأضرب صفحا عن مساويه أنني

مقبل لعثرات الصديق إذا كبا

وأدرك بالصبر الجميل مآربي

فإن فات منها مأرب نلت مأربا

وأركب متن الرمح في طلب العلا

إذا لم أجد إلا الأسنة مركبا

وأطرح كل الناس إن علقت يدي

بحبل أمام الدين شرقا ومغربا

ملاذي وأستاذي وكهي ومعقلي

ووالد روحي البر إن شاء أو أبى

"محمد الإنبابي" أبدى الورى يدا

وأقومهم في نصرة الحق مذهبا

وأوضحهم عند الدراية حجة

وأعذبهم عند الرواية مشربا

إلى أن يقول:

خدمتك بالمدح الذي أنت فوقه

وما أبتغي إلا رضاك مطلبا

لعلك بالعفو الذي أنت أهله

تمن علي من لم يكن لك مذنبا

وهب أنني قارفت ما زعم العدا

فاعراضك الماضي كفاني مؤبا

حنانك إن الدهر صوب سهمه

إلي فأصماني بما كان صوبا

ص: 193

وخلفني عن ساقة القوم بعد ما

سبقتهمو نفسا وأصلا ومنصبا

وصبرني ما بين أهلي ومعشري

غريبا لفقدي ما ألفت معذبا

فخذ بيدي تحمد صنيعك إنني

رأيتك للمعروف أدنى وأقربا

وكف يد الأيام عني فإنها

لعمرك أبقت في نابا ومخلبا

بمن أحتمي منها إذا أنت لم تجب

ندائي وبعد الغيث لم ألف معتبا

فكن يا رعاك الله بالموضع الذي

عهدنك فيه أن تجيب وتطلبا

ودم سالما للدين تحمي ذماره

وللمجد توري زنده بعد ما خبا

فهذه الأبيات من خير ما قيل في براءة النفس والتنصل من الذنب، وطلب الرضا والتماس العفو، وهي تجلو عليك صورًا كريمة من خلق الشاعر وغير سجاياه، فقد أبت همته أن يقارف سبة لم يقترف مثلها عمه، أو أبوه وهو يدعو بمجازاة الحسنى أعداءه، ويزيد معهم تأدبا كلما حاولوا انتقاصه، وما أروع تأثر النفس بما قصه من صديق تجنب سخطه، وآثر هواه إن خبيثا أو طيبا جازه في وقت حاجته، فأذاه بالتحرش بالعدوان، وألقى في نفوس أعدائه، وصار أشد منهم حربا وأنكى إيلاما، ويعرج بعد ذلك بنفس مكلومة، وقلب جريح إلى أبلغ العظات

وأروع الحكم محدثا عن الصديق، والزمان متذرعا بالصبر يدرك به مآربه التي لا بد هو موف على طرف منها، ساعيا إلى العلا ولو كان مركبها الأسنة.

ثم يتجه إلى أستاذه، فيخاطبه بكل ما يلين عطفه، ويلفت إليه قلبه ملتمسا منه صفحا لم يكن عن ذنب، وإذ يفترض نفسه مذنبا، فإنما يستعطفه بأبلغ الأساليب تأثيرا في النفس، فقد يكفيه مؤدبا إعراض أستاذه الماضي عنه، ثم يعرض عليه ما قد أصابه من فعل الوشاة، وما تخلف به عن ساقة القوم، وقد سبقهم بنفسه

وأصله ومنصبه، وما زال يكرر له هول ما أصابه، وشدة إعراضه عنه، وتنكره له حتى أوفى على الغاية التي لا يصلها إلا الشعراء الفحول في قوة أسلوب، وبلاغة تصوير، وإشراق ديباجة، وحسن عبارة.

ص: 194

وإنك لتقرأ شعره، فتحس بروح الشاعر تطل عليك من خلال قصيدة، وتصافحك عاطفته الرقيقة، ويتمثل لك صدق إحساسه، حتى لتنطبع على شعوره، وتشاركه فيما ذهب إليه:

واستمع إليه إذ يرثي صديقه "محمد سلطان باشا"، فيقول:

كفى بي حزنا أنني صرت ناعيا

لنفسي نفسا في فناها فنائيا

فيا دمع أنجدني فما لي منجد

سواك فأنى قد فقدت اصطباريا

ويا حزن لا ترحل فما لك موطن

تقيم به إلا صميم فؤاديا

ويا حسرتى في كل يوم تجددي

ويا لوعتي لازدت إلا تماديا

ويا كبدي حزنا وبؤسا تقطعي

ويا جلدي إن كنت لا زلت واهيا

ويا صرف هذا الدهر جهدك إنني

أمنت الذي قد كنت من قبل حاشيا

فانظر كيف بلغ به الأسى مداه، وصور بك فجيعته بموت صديقه الذي نعاه لنفسه التي فناؤها في فنائه، وكيف استنجد بالدمع بعد أن فقد اصطباره واستبقى الحزن ليقيم بفؤاده، وأوصى الحسرة أن تتجدد، واللوعة أن تزيد تماديا، والكبد أن تتقطع حزنا وبؤسا، والجلد أن كان لا يزال واهيا، صرف الدهر أن يجهد ما شاء فقد أمن ما كان يخشاه "إن الذي تحذرين قد وقعا"، ثم انظر إلى هذه المعاني الرقاق التي يصور بها غفرانه زلات الدهر ما دام لم يكف عن صاحبه، وإغضاءه جفنه على القذى ما دام "أبو سلطان" باقيا:

غفرت لك الزلات قبل؛ لأنني

بكفك عن شخص العلا كنت راضيًا

وأغضيت عما فات جفني على القدى

لأن "أبا سلطان" قد كان باقيا

ثم يمضي الشاعر، فيصور عظم الخطب فيه، وبلاغة الخسران بفقده فيقول:

لك الويل كل الويل يا هر إنما

تعطلت مما منه قد كنت حاليا

عدوت على روض العلا فتركته

هشيما ومن بعد الضارة ذاويا

وأقفرت ربعا كان بالفضل آهلا

فأصبح -لا كفران لله- خاليا

ص: 195

إلى أن يقول:

فقدنا الندى لما فقدناه والحجا

وفصل القضايا والتقى والمعاليا

وكنت أرى نفسي وقيا فمذ قضى

ولم أقض قد أيقنت أن لا وفا ليا

وهذا المعنى الأخير من أبلغ المعاني الشعرية، وأروعها وأصدقها دلالة على الوفاء.

ومما قاله يهنئ به الشيخ "محمد عبده" إذ عين في الإفتاء.

بهديك للفتيا إلى الحق تهتدي

ومن فيض هذا الفضل نجدي ونجتدي

نمت بك للعلياء نفس أبية

وعزمة ماض كالحمام المجرد

ورأى رشيد في الخطوب وحنكة

وتجربة في مشهد بعد مشهد

وعلم كنور الشمس لم يك خانيا

على أحد إلا على عين أرمد

فضائل شتى في الأفاضل فرقت

ولكنها حلت بساحة مفرد

إلى أن يقول:

أمولاي يا مولاي دعوة مخلص

تقول فيصغي أو تؤم فيقتدي

لكل زمان من بنيه تجدد

لما أبلت الأهواء من دين أحمد

وقد علم الأقوام أن محمدا

مجد هذا الدين في اليوم والغد

فهذا شعر رائق عذب سائغ مقبول، لا نبو فيه ولا قلق ولا غموض، ولا التواء وكان صديقه الشيخ "محمد عبد المطلب" قد أرسل إليه إذ نقل إلى أسوان شطر البيتين المشهورين:

أمر على الديار ديار سلمى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

فكتب إليه "قراعة" هذا التشطير الرائع الرقيق فقال:

أقضي الوقت أجمعه ادكارا

لمن عنهم ترحلت اضطرارا

ص: 196

وأطفئ بالمدامع نار قلبي

فتذكي أدمعي في القلب نارا

وأطلب الاصطبار وأين مني

منال الاصطبار ولا اصطبارا

وألتمس الديار على التنائي

كما قد كنت ألتمس الديارا

ديار سكينة وأبى سكين

ألا يا نعم ذاك الجار جارا1

رعى الله الوفاء ومن رعاه

دنا أو شط راعيه مزارا

ولا قرت عيون فتى يوالي

جهارًا ثم لا يوفى سرارا

ليهنك أن عهدك عهد صدق

وإنك خير من حفظ الذمارا2

وإنك إن تمر بدار ليلى

أحاد فقد مررت بها مرارا

أمر بخاطري ومناي إني

أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي

فأمسح بالدموع لها ثرارا

وما همي الركون إلى الأماني

ولكن حب من سكن الديارا

وأرسل إلى صديق له يمدحه ويشكره إذ بعث إليه خطابا رقيقا حين كان عليلًا.

شقيق الروح أهداني "سلامه"

فألبسني به حلل السلامة

فلم أر قبله أبدًا سلاما

إذا وافى العليل شفى سقامه

سكرت بطيب رياه فلولا

تقاه لقلت أهداني المدامة

فيا لك ناظما عقدا ثمينا

يد الأفكار قد نسقت نظامه

لقد أحرزت غاية كل سبق

فما "عبد الحميد" وما "قدامه"

إذا همت دعاة المجد يومًا

بمكرمة تكون لك الزعامة

ومن يحكي "سليمان" إذا ما

دجى ليل الخطوب جلا ظلامه

1 سكينه -كريمة الشيخ محمد عبد المطلب الشاعر.

2 الذمار -ما يلزم حفظه.

ص: 197

عزائمه تفل يد الليالي

إذا امتدت لبغي أو ظلامة

يسدد سهمه نحو المعالي

فيدركها فما أمضى سهامه

إلى أن يقول:

كتابك للعليل وفي فوافي

على قلبي الهنا وروى أوامه

به عبرت عن حالي فشوقي

على أشواقكم أبدا علامه

به ابتدأ الشفا مما أقاسي

وأرجو الله مولانا تمامه

فهذه القطعة من أطايب الشعر، ورقراقه وأكثره ماء وأعذبه مذاقا، وقد استهل الأبيات بالتورية في لفظ "سلامه" هن معنيها سلام الصديق مضافا إلى الضمير، وسلامة التي هي بمعنى العافية -وختم الأبيات ببراعة المقطع في قوله "تمامه".

ومن توريته اللطيفة ما كتبه على مسجد اليوسفي الذي أنشأه بأسيوط صديقه "أحمد شكري باشا"، إذ قال:

مسجد اليوسفي تم بناه

وفق أمر الخديو توفيق مصر

فأقيموا الصلاة لله فيه

واشكروا من بناه "أحمد شكر"

فقد روي بأحمد شكر عن معنييه اسم صديقه وأبلغ الشكر.

وقد يستعمل التاريخ في شعره لكلن بقلة كما في قوله يهنئ "محمود بك رياض" مدير أسيوط إذ ذاك.

رياض المجد محمود رضاها

ومن يحمي العدالة لا يهاض

إلى أن يقول:

تلقيا البشائر أرختنا

يديم العدل محمود رياض

..................................

64 135 98 1011

ص: 198

ولعلك تلاحظ أن حرصه على التاريخ أضعف الشعر الذي حواه، وذهب بالجمال الذي ألف في شعره.

وأرسل إليه أيضا مهنئا بعيد الفطر، فكان مما قاله:

مولاي عيد الفطر أورق روضه

وجرت مياه سروره بحياضه

وسعى ليخدم منك أكرم ماجد

وليستميح الجود من فياضه

فاهنأ به في ظل والدك الذي

بالعدل داوى القطر من أمراضه

فبشيره بك قد أتى تاريخه

العيد محمود بعز رياضه

.......................

115 98 79 1016

سنة 1308

وهي أبيات ضعيفة واهية، وعسى أن يكون "التاريخ" هو المسئول عن تهافتها، وربما أودع شعره مسائل من العلم، وجوابا عنها وهي إذ ذاك نظم ليس فيه روح الشعر ولا روعته، ولكنك تجده مقبولا سائغا كما في سؤال وجهه المرحوم الشيخ "محمد الأمير"، وأجاب عليه فنسج "قراعة" برد السؤال والجواب، فقال في السؤال:

على قبر نعمان همت ديمة الرضا

وعمت أهاليه وجملة حزبه

فهم حرموا عرسا إذا مس أمها

بغير جماع بل بشهوة قلبه

فلما حمى حر الوطيس بقلبه

وفار وفاض الماء من عين سكبه

نفوا عنه تحريما فما السر أرشدوا

فتى في فتاويكم شفاء للبه

وقال في الجواب:

ألا أيها المولى الذي بحر فضله

تزاجمت الألباب في ورد عذبه

سألت عن المعنى الدقيق وطالما

كشفت الغطا عن مشكل الأمر صعبه

ص: 199

فخذ مدرك النعمان عني وإن أكون

إذا ذكر الأتباع أضعف حزبه

همو أثبتوا تحريم عرس بمسه

لابنتها اشتهاها بقلبه

لأن مساس البنت داع لوطئها

وبالوطء داعي الجزء قام فخذ به

ولم يثبتوا التحريم إن كان مسه

لها باشتهاء مع إفاضة عزبه

لتحقيقنا أن المراد بمسه

إذن شهوة تقضي تدور بصلبه

وهذا الذي أدركته من كلامهم

وأبصرتهم قد قرروه بكتبه

وقد يطول نفسه في الشعر، ويتدفق معينه كما في قصيدة الحج التي يقول في مطلعها:

على حقوق للمطي الرواسم

تطالبنيها كل حين عزائمي

فقد بلغت ستة وسبعين بيتا

نثره:

ولقراعة النثر الرائع الرصين الذي يضارع أرقى الأساليب في فصاحة تعبيره، وروعة معناه وحسن رصفه، وصفاء مائة، وبعده من التكلف ونقائه من الطلاء والزخرف.

ومن ذلك ما كتبه إلى أستاذه الشيخ "الإنبابي" ينفي عن نفسه ما رمي به من عقوق، وما اتهم به من طعن.

كتابي إلى المولى أطال الله بقاءه، وأنا أحمد من جثا على ركبتيه وانتفع بعلمك، وأخذ عن تلامذتك، وعرف لك جزيل حقك، حين تفاقم الخطب واشتد الكرب، وشمخ بأنفه الحاسد، وصغر خده الشامت، وسيدي وقاه الله ما يكره -يعلم أن الأعراض هي الزجاج لا يجبر كسرها، ولا يرأب صدعها والدنس إن لحقها لا يغسل بالأشنان، ولا يزول بتقادم الزمان، ومولاي أعزه الله هو الوالد المبرور، والناقم المشكور والعاتب الذي نتوخي

ص: 200

رضاه والغاضب الذي نخشى أن يحر غضبه علينا غضب الله، وهو القدوة الذي يتبع في فعله، ويتيمن برأيه، ويرجع إلى قوله، فلا أظن أن يرضى بأن يمزق في مجلسه أديمي، ويستباح ما حرم الله من عرضي، وأقذف بما أوجب الله فيه الحد وينتهك من حرمتي ما الله يعلم أنني منه براء، ولو شاء لعاملني بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} -الآية- "فوضح له الحق الذي لا يجهله والرشد الذي لا ينكره، وعلم أن من وسموا أنفسهم بتتبع العثرات، وكشف العورات إنما صنعوا هذا الصنيع حين علموا أن النقلة أمثالهم، والسفلة أشباههم أشاعوا عني لهذه الحضرة سابقا أني أسأت الأدب بشعر صنعته، وهجو قلته فانتهزوا هذه الفرصة الآن، وذهبوا مذهبا آخر يغبرون في وجه الحق، ويدفعون في صدور اليقين، والله من ورائهم محيط

إلخ.

وإنه وإن كان السجع يتمثل في مثل هذه الكلمة تجد أنه سجع مطبوع لا يتسم بسمة التكلف والقصد، ولا يطلبه الكاتب على تكره واستعصاء، وقد يبذل جهدا في طلب السجع، ويحرص عليه لكن ذلك غير ملتزم في الموضوع كله، ولا ينفر الذوق منه، أو تنبو الأسماع عنه، كما قال في رسالة أرسلها لبعض أصدقائه الشيوخ يستعطفه، ويطلب مساعدة محتاج في طلبته.

أخي - أبى الله إلا أن أكاتبك إذا عرضت مهمة، وعنت حاجة، كلمة بالغة، وقدر لا مفر منه ومحنة منيت بها، وسمتني بميم الجفاء، الذي طالما كنت أنبو عنه، ولعل اعترافي بجنابتي يوصلني للإغضاء عنها، وهنا أعجل بعرض حاجتي.

رافع هذا "فلان" كاده الشيطان من "فلان" بالخبل الخابل، والبلاء النازل العاجل، والداهية التي تصفر منها الأنامل، فلم يستجب لراق ولم ينفع في سمه درياقي، فسدت في وجهه السبل وأعيته الحيل، إلا ما كان من الأمل في الأستاذ الأعظم شيخ الجامع الأزهر، فرغب إلي في مخاطبتكم فأجبته مستمنحا شافعا لجوابكم السابق، وواجب مساعدته بما في الوسع، وقد نبهتك ورقدت، ودعوتك للخير وما دعوناك له إلا أجبت والسلام.

ص: 201