الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرصفي والبارودي:
كان الشيخ "حسين المرصفي" ذا شهرة بالعلم وصيت بالأدب، وكانت الزعامة قد انعقدت له في التوجيه والنقد، وغزارة العلم والبيان يؤمه كتاب وشعراء ويقصده علماء وأدباء، ويعرض أدبهم عليه فحول الأدب البيان.
"والبارودي" ممتلئ منذ نعومة أظفاره حبا للأدب، وإيثارًا للشعر وهوى للبيان، وما من شك في أن هواه هو الذي احتثه على "المرصفي" احتثاثا، واجتذبه اجتذابا يجد في درسه وتوجيهه، ونقده ما ينقع غلته ويروي صداه.
ولقد جهدت في تحديد الصلة التي كانت بين "المرصفي"، و"البارودي" وعنيت بها كيف نشأت وعلى أي وجه كانت، وأين كان الرجلان يلتقيان؟ ولكن جوابا عن شيء من ذلك لم يتيسر لي فيما قرأت واستقرأت، فقد يعرف كثير من الأدباء أن "للبارودي" صلة "بالمرصفي"، وأن للأول بالثاني انتفاعًا، فقد استفاض الحديث عن ذلك حتى تحدث الشاعر نفسه به، ولكن تحديد هذه الصلة وبدءها وكنهها غامض، فلعل "البارودي" ليساره، ونعمته كان قد سعى لاستقدام الشيخ في منزله، والانفراد به في كل مكان هادئ يمكن للتلميذ من الانتفاع بأستاذه، ويهيئ له أسباب النفع والتوجيه، ويجد من أستاذه كلما وفد إليه معلما يعلمه، وهاديا يهديه، ومهذبا يصقل أدبه ويجلو بيانه.
ويتحدث الأستاذ "الرافعي" عن صلة "البارودي""بالمرصفي"، فيقول: ومن عجيب أمره "البارودي" ما تراه فيما يكتبه عنه الشيخ "حسين المرصفي" منذ ثلاثين سنة، وهو أستاذه1".
1 المقتطف الصادر في 26 من ذي القعدة سنة 1322 الموافق 1 فبراير سنة 1905م.
ويقول الأستاذ "عباس العقاد" أن "المرصفي" أستاذ البارودي، وحافظ وقدوتهما في الرأي والنقد، وتذوق الكلام1.
ويقول المفصل: "وأخذ عن "المرصفي" كبار المتأدبين في عصره من البارودي، فصاحبوه ولازموه، وعرضوا عليه بيانهم فهدى ونقح وهذب".
"والمرصفي" حين يتحدث عن "البارودي" يدل على أن "البارودي""تلقى عنه وتعلم منه، فإنه يقول": إن "البارودي" لم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية غير أنه لما بلغ سنة التعقل، وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع
لبعض من له دراية، وهو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة قصيرة هيئات التراكيب العربية، ومواقع الموفوعات منها والمنصوبات، والمخفوضات حسبما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن"، ولم نعرف أن "البارودي" اتصل بغير "المرصفي" ممن له دراية، أو قرأ بحضرته دواوين الشعر.
ويقول: وسمعته مرة يسكن ياء المنقوض والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعرا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدا شريفها من خسيسها، واقفا على صوابها وخطأها، مدركا ما ينبغي وفق الكلام وما ينبغي1.
"فالمرصفي" يتحدث عنه حديث خبير به، ويدل على أن "البارودي" كانت له معه دراسة، وانتفاع وأن "المرصفي" كان يراجعه، ويوجهه وينقده وما أظن إلا أن "البارودي" قرأ هذه الدواوين الضخمة عليه، وسمعه ينقدها ويعلق عليها، ويبدي رأيه فيها -"والبارودي" يقدر صلته بأستاذه، وبفي حق الوفاء له، يقول "المرصفي": وكان حرسه الله كتب لأبناء وده كتبا، وهو في
1 الوسيلة الأدبية الجزء الثاني ص474.
حرب الروس ولم تصل إليهم، وظن وصولها وتقصيرهم عن المبادرة بالإجابة، وقد وصل إلى أحد كتابين كتبهما لي يوم قدومه إلى مصر بعد مدة من كتابته1، ومطلع هذه الأبيات.
يا ناعس الطرف إلى كم تنام
…
أسهرتني فيك ونام الأنام
ويقول فيها:
طال النوى من بعدكم وانقضت
…
بشاشة العيش وساء المقام
مولاي قد طال مرير النوى
…
فكل يوم مر بي ألف عام
إلى أن يقول في ختامها:
فتلك حالي لا رمتك النوى
…
فكيف أنتم بعدنا يا همام؟
ويقول "المرصفي"، وقد شرفت عناية وده أسمى بهذه القصيدة التي يقول فيهما:
بلوت ضروب الناس طرا فلم يكن
…
سوى "المرصفي" الحبر في الناس كامل
همام أراني الدهي في طي برده
…
وفقهني حتى اتقتني الأماثل
أخ حين لا يبقى أخ ومجامل
…
إذا قل عند النائبات المجامل
بعيد مجال الفكر لو خال خيلة
…
أراك بظهر الغيب ما الدهر فاعل
طرحت بني الأيام لما عرفته
…
وما الناس عند البحث إلا مخايل
فلو سامني ما يورد النفس حتفها
…
لأوردتها والحب للنفس قائل
فلا برحت مني إليه تحية
…
يناقلها عني الضحى والأصائل
ولا زال غض العمر ممتع الذرا
…
مريع الفنا يطوى إليه المراحل
يقول "المرصفي": وعلى أن ليس من طبعي أن أقول الشعر، إما لفوت أوان تحصيل وسائله، ولم تكن إذ ذاك دواع ترشد إليه، وإما؛ لأن الاستعداد
1 الوسيلة الأدبية ج2 ص497 -وأرسل الباوردي إلى المرصفي قصيدة أخرى يقول في مطلعها:
هو البين حتى لا سلام ولا رد
…
ولا نظرة يقضي بها حقه الوجد