المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشيخ عبد العزيز البشري - الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة - جـ ٣

[محمد كامل الفقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌تابع الأزهر والنشر

- ‌الشيخ عبد العزيز البشري

- ‌أزهريون لغويون أدباء

- ‌مدخل

- ‌الشيخ حسن قويدر الخليلي:

- ‌الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري:

- ‌الشيخ حسين المرصفي:

- ‌الشيخ حمزة فتح الله:

- ‌الشيخ سيد المرصفي:

- ‌الشيخ حسين والي:

- ‌الشعر في العصر الحديث

- ‌مدخل

- ‌شعراء الأزهر والتجديد في الشعر:

- ‌الثورة على الأوزان الشعرية:

- ‌نظر علماء الأزهر إلى الشعر:

- ‌الصبغة العامة في شعر الأزهريين:

- ‌شعراء الأزهر

- ‌مدخل

- ‌السيد إسماعيل الخشاب:

- ‌الشيخ حسن العطار:

- ‌السيد على درويش المصري

- ‌الشيخ محمد شهاب الدين المصري:

- ‌السيد علي أبو النصر المنفلوطي:

- ‌الشيخ علي الليثي:

- ‌الشيخ عبد الرحمن قراعة:

- ‌الأزهريون أساتذة شعراء العصر

- ‌مدخل

- ‌المرصفي والبارودي:

- ‌الشيخ البسيوني وشوقي:

- ‌الشيخ محمد عبده وحافظ:

- ‌قراعة وعبد المطلب:

- ‌خاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌فهرست الجزء الأول

- ‌فهرست الجزء الثاني

- ‌فهرست الجزء الثالث

- ‌أهم مراجع البحث:

الفصل: ‌الشيخ عبد العزيز البشري

‌المجلد الثالث

‌تابع الأزهر والنشر

‌الشيخ عبد العزيز البشري

الشيخ عبد العزيز البشري:

المتوفى سنة "1362-1943":

نشأته وحياته:

الشيخ "عبد العزيز" بن الأستاذ الأكبر المرحوم "سليم البشري"، الذي ظل شيخا للأزهر مدة من الزمان، وكان من المتبحرين في فقه المالكية، وكان إخوة الشيخ عبد العزيز "علماء وطلابا في الأزهر، فاقتضت هذه البيئة الأزهرية العلمية التي تنشأ في ظلالها أن يتجه متجهها، وأن يكون أحد طلاب الأزهر فألحق به في بواكير حياته، بعد أن قضى فترة في المكتب ألم فيها بمبادئ القراءة والكتابة وأتم القرآن حفظًا، وظل يوالي دراسته في الأزهر حتى نال شهادة العالمية، ولم يكد يحصل عليها حتى طلبته وزارة المعارف، وجعلته محررا فنيا بها لما ذاع من أدبه وطار من شهرته، ثم ولي القضاء الشرعي حينا من الدهر1، واختبر في مناصب أخرى حتى أصبح وكيلا لإدارة المطبوعات، فسكرتيرا برلمانيا لوزير المعارف، ثم عين رئيس تحرير لمجلة المجمع اللغوي الملكي، وكان المرحوم "محمد جاد المولى بك" مراقبا إداريا للمجمع، فلما نقل الثاني إلى وزارة المعارف عين "البشري" بدلًا منه، وظل بهذا العمل حتى استأثر الله به في صباح الخميس الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1943م.

صفاته ومواهبه:

وقد نشأ رحمه الله مجبولا على حب الأدب نهما في الاطلاع، عكوفا على

1 وإذ كان قاضيا بمحكمة "إمبابة" الشرعية ندب لتدريس الأدب في الأزهر، وكان يفد إلى درسه طلبة دار العلوم من أمثال الأستاذ "صالح هاشم"، والأستاذ "عبد الوهاب حمودة"، وغيرهما.

ص: 3

البيان العربي يروي نفسه من روائعه، ويستظهر من غرره، وقد سمعت من أهله وخلصائه الذين اندسست فيهم للوقوف على ما خفي من سيرته، فرووا أنه عكف ليلة على كتاب الأغاني لأبي الفرج، وكان من عشاقه المتوفرين على قراءته فظل مستغرقا في الاطلاع يضيء له مصباح نفط، ولم يرعه إلا أن والدته دخلت عليه، وقالت له:"أطفئ المصباح إذ لا حاجة لك به فقد طلعت الشمس".

وكان من فنونه بالأدب أن عزف به في كثير من الأحيان عن الدروس في الأزهر أيام الطلب، وشغف بالتفرغ للكتابة الأدبية يروي بها ظمأه، وأقبل على الصحف الأدبية يكتب لها، وهو حدث كما افتتن في صباه بحب الفن وأغرم بأهله، رويت عن أحد خلطائه الأدباء أنه لم يفته مجلس من مجالس الطرب التي كان يقيمها المطربون في شبابه من أمثال:"عبده الحمولي، ويوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، وغيرهم"، ومع أنه من هذه البيئة الدينية التي يلزمها مجانبة اللهو واللعب كان يحتال برشوة يقدمها للخدم للخلاص من القيود، فلا يزال يجول في القاهرة، ويتحسس مواقع السمر ومواطن الطرب حتى يعود مع الفجر، وقد أثر في نفسه طول ما غنمه من أوقات اللذة والسرور، وما استمتع به من الفن والتطريب، فزاد في إحساسه وهذب مشاعره، على ما نشأ عليه من رقة النفس وإرهاف الحس.

وكان البشري حاد الذكاء، حاضر البديهة، صفي الذهن، لماح الخاطر ذواقا إلى أبعد الحدود، قوي الحس إلى درجة ناردة حقا لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطا، ورسمه في نفسه رسما يخالطه مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منه1.

وكان سريع التأثر أيضا حتى لقد عرف بذلك بين أصدقائه، فكانوا يتقون مواطن تأثره، ويحسبون لها حسابا، وإذا تأثرا بشيء لم يكد يطيق

1 الدكتور طه حسين في مقدمة المختار الجزء الأول.

ص: 4

احتماله بل يتبرم بكتمانه، ويسعى لأحبابه وخلانه فيلقي به إليهم، ويعالنهم بما ضاق به فإذا هم صفحة من نفسه، وقسيم في شعوره وحسه.

ومما امتاز به حلاوة فكاهته، وحسن محاضرته وسعة اطلاعه على المجتمع وأخلاق الناس وأحوالهم، وإلمامه بأسرار الجيل التي واتته من طول المداخلة وحسن المخالطة حتى إذا حدث في هذا المقام، كان خبيرا بما يقول.

وقد عنى عناية خاصة واحتفل احتفالا بالغا "بكتاب الأغاني"، فقلب فيه النظر وأدمن الاطلاع عليه، وتروى كثيرا من أدب الجاحظ، وتردد على مطالعته وجرد له جانبا من وقته، وكان الاطلاع على "الأغاني" وكتب "الجاحظ" حبيبا إلى نفسه متسقا مع هواه، ترم "أبا الفرج""وأبا عثمان"، وتأثر بهما وانطبع على طريقتها وتحدث بلغتهما، وخاصة "الجاحظ" الذي يحيل عليه في كثير من المواطن، ويشير إلى الأخذ عنه والتهدي إليه، ويصرح في مطالع ما كتبه "في البخل" بأنه قرأ كتاب البخلاء "للإمام الجاحظ" أكثر من مرة، ويذكر حين يتحدث عن المداعبات، والأفاكيه بأنه قرأ للإمام "الجاحظ" شيئا في هذا المعنى، وحين يصور الشيخ "التفتازاني" في المرآة يقول:"أنه لو نجم في عهد "الجاحظ"، أو اطلع عليه "كارليل" لخصت به الرسل، وأفردت له الأسفار، ولكن أنى لنا جزالة قلم "الجاحظ" أو دقة ذهن كارليل، لنقول في الشيخ كل ما ينبغي أن يقال فيه1".

وإذ يتحدث في تمهيده للكتابة في المرآة عن النكتة يقول: "وللإمام الجاحظ" في هذا المعنى قول جليل، فراجعه إن شئت في كتابه البخلاء".

وممن تأثر بهم "البشري" في طريقتهم وأولع بأدبهم، وأسلوبهم "المويلحي الكبير"، فقد كان ينهج في رسائله "في المرآة" نهجه في تحليل الشخصيات دون

1 في المرآة ص121.

ص: 5

خدش في الأعراض أو إسفاف في الأداء1".

ولم يكن ذلك وحده هو ما تأثر به من "المويلحي"، فقد كان منذ شب على الكتابة يكتب إلى صحيفته الأدبية "مصباح الشرق"، ويكلف بالمصباح الذي أصبح في الأدب العربي فتحا جديدا، وأمسى مصباحا حقا يهتدي المتأدبون بسناه، بل صار أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد، بل إن "البشري" يدل صراحة على أنه اهتدى بالمصباح في نشأته الأدبية، فيقول: "لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان مصباح الشرق عندي هو المثل الأعلى للبيان العربي، وبهذا كنت شديد الإكباب على قراءته، وتقليب الذهن واللسان في روائع صيغه، وطرائف عبارته حتى لقد كنت أشعر بأنني أترشفهما ترشفا لتدور في أعراقي، وتخالط دمي وتطبع على هذا اللون من البيان الجزل السهل النافد الطريف2.

"والبشري" نظم الشعر في شبابه، وكثيرا ما نظمه في هجاء المرحوم الشيخ "علي يوسف"، ونشره في جريده "الظاهر"، ولكن شعره قليل على جودته، وقد استأثرت الكتابة بعبقريته، فلم تدع للشعر مجالا في نفسه، حتى إذ توفي صديقه المرحوم "حلمي المنشاوي" الطبيب، وهو غض الشباب جرت عاطفته بشعر نشرته "الرسالة" في حينه.

أسلوب البشري:

اتسم أدب البشري بالجزالة والفصاحة التي ترجع بالكتابة إلى العصر

1 المويلحي الكبير هو "إبراهيم بك المويلحي" الأديب الكاتب كان من أول من اهتدوا في هذه النهضة إلى الأدب العربي القديم، وفتنوا بروعته وسحر بيانه ترسم الجاحظ في أسلوبه، وامتاز بجزالة اللفظ، ودقة الوصف وجمال العبارة وتوفى سنة 1906.

والمويلحي الصغير هو ولده الكاتب العالم "محمد بك المويلحي" صاحب حديث عيسى بن هشام توفي سنة 1930.

2 المختار ج1 ص296.

ص: 6

العباسي الأول، وتجلت في أسلوبه كثرة الترادف والآن دواع وتكرار المعنى في كثير من صوره، وفي أسلوبه كثير من السجع، ولكنه مقبول لا يعل سماعه ومن لا يستكره ترديده، على أنه يوافيك بثروة لغوية خصبة ليس لها أثر من التوعر تواتت له من غزارة مادته، وسعة إطلاعه وكثرة ما رواه من البيان العربي وأساليب القدماء، وقد ظهر في أدبه دقة الوصف، وإيفاؤه حقه ولا سيما حين يصف الأشخاص، كما يظهر للمطلع على مقالاته التي كتبه في "المرآة"، وقد تأثر فيها بأساليب الغرب في تحليل الشخصية، والإفاضة في وصف الأشخاص والتسلل إلى مداخلهم النفسية فضلا عن أوصافهم الظاهرية.

وإنه ليروعك من "البشري" تفطنه إلى عادات الناس وأخلاقهم، وشذوذهم وخواصهم البعيدة التي لا يلتفت إليها إلا الذواقون من الأدباء المرهفون حسا، حتى إنه ليعرف الشخص فيرسم له صورة دقيقة منعطفا فيها إلى سماته الخلقية والخلقية بما يعز اكتناهه على أحد، وهو يجرد قلمه الرشيق، فيصور به كل خاطرة تخطر أو حادثة تقع، أو فكرة تملك عليه نفسه.

ولقد أتيح له من مخالطة العظماء، ومصادفة الكبراء وغشيانه كل مجلس وناد واقتحامه ميادين المختلفة من سياسية، واجتماعية أن يلم بمظاهر الحياة فيها، وأن يقف على كثير من صورها.

وكثيرًا ما يتمثل بالشعر العربي الرصين في كتابته حتى ليستفتح بالشعر أحيانا كتابته.

وما من شك في أن أسلوب "البشري" كان متشددا في السجع، واستعمال الكلمات العربية الغريبة، وإن كان ذلك عن طبع منه لا أثر للتكلف والقصد فيه لكنه حينما طلبت إليه الصحف أن يكتب لها، والإذاعة أن يلقي بها أحاديث

للناس ألان حينئذ أسلوبه، وطوع بيانه، وقصد أن يزيد وضوحه

ص: 7

وإشراقه ليلائم الغرض، ويشاكل القصد وينتفع بأدبه خاصة الناس وعامتهم، وإذ ذاك خلف غريبه وقل سجعه، وكان أنصع ديباجة وأوضح تعبيرًا.

وكان من الأسباب التي ألانت قلمه وزادت أسلوبه سهولة ونصاعة، وجعلته لمشايعة الحياة أكثر قربا ما تكاثر عليه من مطالب الوزراء والكبراء الذين يريدون أن يخطبوا، أو يكتبوا في مناسبات اجتماعية رسمية تتطلب التجويد الذي لا يسمح وقتهم -على الأقل- به فاضطره ذلك إلى أن يجاري بقلمه ما يتسق مع الطابع العصري السمح، وما يوائم الخطيب أو الكاتب من السهولة والإشراق.

وأسلوب "البشري" قريب من كل روح مداخل لكل نفس يجد كل فيه غداءه الروحي، ومتعته السائغة.

وهو يوائم فيما يكتب بين الكلمة العربية الرصينة، والكلمة الأوروبية المستلزمة والعامية الشائعة على ألسنة العوام إذا اقتضت النكتة سوقها، على أنك تجد الائتلاف، والالتئام بين هذه الكلمات سواء تقاربت أم تلاحقت.

"وأخص ما يمتاز به أدب "عبد العزيز" إنه حلو سمح خفيف الروح لا يجد قارئه مشقة في قراءته، ولا جهدا في فهمه، ولا عناء في تذوقه وتمثله1".

النكتة من مظاهره:

كانت النكتة البارعة من الأمور التي جبل "البشري" عليها، وشغف حبابها ولم يكن يستطيع مغالبتها فهي تقهره، وتدفعه إلى المفاكهة بها دفعا، وقد اشتهر بها عند الناس حتى لا يلقونه إلا وهم يترقبون تنادره، ومطايبته بها ويفجؤه بها الخبثاء، فلا يعجز عن نكتة تقع موقع الارتياح والعجب، وتكون أبلغ من غيرهما جمالا وروعة.

1 الدكتور طه حسين بك في مقدمة المختار ج2.

ص: 8

يخلع جبته ليتوضأ ويضعها على المشجب1، فيرسم أحد الظرفاء عليها وجه حمار، ويزعم أصحابه أن "البشري" يرتج عليه من هذه المفاجأة، فما أن يقع بصره على الجبة حتى يقول:"من منكم مسح بالجبة وجهة؟ "، وهكذا لا يعيا بنكتة، ولا يغيض معينها في حادثة.

ولم يعرف أنه اغتاظ لنكتة، وما استغضبه إلا ما وقع بين بائعي الأكفان وبينه في طريقه إلى داره، فقد كان يمر كل يوم بعمال "محل الأكفال" الذين يقول الشيخ فيهم:"وجزت بهم مصبح يوم وعيناي تنضحان بالدمع من أثر رمد فأتلعوا إلى أعناقهم، ورأيت البشر يشيع في وجوههم، وسرعان ما تحركوا جذين للقائي، وهم يدعون الله في أنفسهم أن يجعل استفتاحي "لبنا"، فصحت فيهم استريحوا يا أولاد الـ

فما بي والله بكاء ولكنه الرمد، وكلنا والحمد لله بخير وعافية، وقطع الله أرزاقكم، ولا أدخل عليكم النعمة أبدًا2.

وتراه يلبي داعي النكتة، ويرسلها في غير تحرج في شتى المواقف ومختلف المناسبات، ولا يكتمها مهما كلفته من ثمن، أو حملته من تبعة.

كان "علي باشا إبراهيم" قادما من الإسكندرية بالطريق الصحراوي في سيارته ليحضر مجلس الجامعة المصرية الذي كان رئيسه إذ ذاك، وكان "البشري" معه في سيارته، وقد بقي على انقعاد المجلس زمن قصير ذهب به توقف السيارة مرات متعددة لإصلاح خلل في "سلوكها"، أو ترميم في "سيرها"، وبينما الرجل مغيظ محنق من التوقف، والتأخير إذا "بالبشري" يغادر السيارة، ويقول له:"لن أركب معك بعد اليوم إلا إذا قدمت لي شهادة بحسن "السير والسلوك"، فيذهب غيظ الرجل، ويستلق من الضحك.

1 المشجب خشبات منصوبة توضع عليها الثياب.

2 المختار ج2 ص256.

ص: 9

دخل مأتمًا ليعزي أحد الناس في أحد بنيه، فصفع سمعه صوت القارئ، وكان منكرا مزعجا، وقد أشيع حينئذ أن "الإذاعة" تختار أردأ الفقهاء لإذاعة القرآن وكان بمجلس العزاء طائفة من الكبراء، والعظماء بينهم مدير الإذاعة، فخف الشيخ على مرأى ومسمع من هؤلاء إلى رئيس الأسرة المعزى، وجعل يستحلفه بالله أن "يتوه" هذا الفقيه عقب التلاوة مباشرة حتى لا يأخذ عنوانه مدير الإذاعة ويرمي الناس به، فقد لبى داعي النكتة دون حرج من موقف العزاء:

والعجيب من أمر "البشري" أنه يرسل النكتة تضحك الثكلى، وهو عابس ليس به أثر من الضحك أو المداعبة، فكان مجلسه نادرة من طربه ومرحه، وكان كبراء الناس يتشهون حديثه لما فيه من خفة الروح وحلاوة الدعابة، وروعة النكتة.

النكتة في أدبه:

ولم تكن النكتة لتشيع في حديثه فحسب، ولكنها تنضر أدبه الذي يكتبه أو يلقيه في الإذاعة، أو ينشره في الصحف، وخاصة ما كان ينشره في "المرآة"، فإنه ميدان فسيح لنكاته الأدبية الرائعة، وطالما وضع النكتة مع صورة من يتحدث عنه كأنما هي عنوان الموضوع، كأن يكتب تحت صورة "حافظ رمضان باشا" المتخيلة التي رسم في أعلاها وجه "مصطفى كامل باشا""ومحمد فريد""وجه مصطفى كامل"، ووجه فريد كلاهما لازم لوقت الشعل فقط، كما يكتب تحت صورة "إبراهيم وجيه باشا" الذي كان وزيرا للخارجية معروفا بالمبالغة في الأناقة والعناية بالمظهر، على مفوضينا وقناصلنا، في جميع أقطار العالم موافاتنا "تلغرافيا" بآخر "مودة"، وكما يصور المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ "أبا الفضل الجيزاوي"، ويكتب تحت صورته "الحمد لله لم يبق لي إلا مائة ألف جنيه و 5000 سهم بنك عقاري قديم حتى أنقطع

ص: 10

إلى عبادة الله والزهد في الدنيا1.

وكما يصور "أبا نافع باشا" عمدة "سان استيفانو" بصورة ضخمة، وأمامه حماره الصغير مذعورا، ويكتب تحتهما "لا تخف فإني والله مخيف".

ولعل أحفل ما كتبه بالنكتة الأدبية هو موضوع "في الطيارة" يتحدث عن ساقة السيارة، فيقول:"وإني لأسأل الرجل منهم أن يتريث فلا يسمع، وإذا فعل طوعا لرجائي أو لزجري فلثانية أو اثنتين، ثم عاد أجري وأسرع مما كان، وإني لأقول: "يا سيدي لست مستعجلا أمرا، والله ما أنا ذاهب لاطفاء حريق، ولا لإنقاذ غريق صدقني والله ما أنا ماض لقيادة الجيش في المعركة الحاسمة، ولا أنا مدعو لتأليف الوزارة، ولا لشراء "النمرة" الرابحة في سباق الدربي كل هذا ولا حياة لمن تنادي، حتى يقول حين أفزعه ركوب الطائرة:"تعودت إذا ركبت القطار أو السيارة أن أقرأ حزب البر، فإذا علوت السفين قرأت حزب البحر فمن لي اليوم بحزب الهواء"؟

ويتحدث في موضوع آخر عن الثقلاء الذين يزعجون الناس، فيقول:"يراك منهمكا والدهن يسيل من يديك كلتيهما، فيمد يده بورقة "اليانصيب" حتى تحول بينك وبين طعامك، وحتى تكاد أصبعه تفقأ العين آدي اللي فضلت، السحب النهارده، اللي تكسب متين جنيه".

ويحدثك عن شاب أنيق الملبس التقى معه، فيقول: قال لي: "يا عم كم الساعة

1 تنصل "البشري" في مقدمة "المرأة" مما كتب عن المغفور الشيخ أبي الفضل الجيزاوي في مقالات، وادعى أنه من قلم أديب آخر، وهذا التنصل إنما هو رعاية للصلة الأزهرية بينه وبين الشيخ وبين الشيخ ووالده، ولكن ذلك لا يغني من نسبة المقال له شيئا، وإلا فما الذي حمله على أن يثبت في كتابه حديثا لغيره، وفيه تجريح لرجل ذي مقام عظيم على البشري أن يقدره ويجله؟ على أن المقال

مطبوع بطابع البشري موسوم بسمة أسلوبه ناطق بأنه له، وإن تبرأ منه.

ص: 11

الآن؟ فطالعت ساعتي، وقلت له الساعة اثنتان وسبع دقائق، فحسر كمه الأيسر فانكشف عن ساعة يد ذهبية، ونظر فيها وقال: لا. لا. ساعتك مؤخرة أربع دقائق، ثم خلى بيني وبينه الطريق وانطلق لطيته، وبعد أن أجلت ظني في شأنه أدركت أنه ربما كان مفتش عموم الساعات".

وهكذا يفيض أدبه بروائع النكت الطريفة التي تهتز لها النفوس، وتطرب لها الأسماع "فالبشري" لا يجاريه أحد في صوغ النكتة الرائعة، "وهو أكثر الكتاب المحدثين اصطناعا للنكتة البلدية يصطنعها بلغته العامة في غير تكلف، ولا تحفظ ولا احتياط، يأخذها من حي السيدة زينب، أو من حي باب الشعرية، فيضعها في وسط الكلام الرائع الذي يمكن أن يقاس إلى أروع ما كتب أهل القرن الرابع والثالث للهجرة، فإذا النكتة البلدية العامية مستقيمة في مكانها، ومطمئنة في موضعها لا تحس قلقا، ولا نبوا ولا يحس قائلها قلقا ولا نبوا، ولكنها تفجؤ القارئ فتعجبه، وتملأ نفسه رضى، ثم هو يحس أن الكلام ما كان ليستقيم لولا أن هذه النكتة قد جاءت في هذا الموضع، واستقرت في هذا المكان1.

وقد اضطر "البشري" أن يسوق النكتة باللغة العامية الخالصة إذا أراد أن يجلو على القارئ صورة كاملة من حيث قوم في مناقلاتهم، ومناوراتهم، وما تطارحوا من فنون الكلام، إذ يقتضي الحديث أن يورد كما نطقوا به، وبخاصة إذا كان يجري في التعبيرات التي تشيع على ألسن الناس، وتذهب عندهم مذهب الأمثال، وإلا لو أدى بفصيح اللغة فسد الغرض، واختل نظام الكلام2.

ولأن النكتة إذا سبكت في العربية الخالصة، فقد ينضب ماؤها ويحول بهاؤها3.

1 من كلام الدكتور طه حسين في الجزء الثاني من المختار.

2 من كلام البشري في مقدمة "في المرآة".

3 البشري في المختار ج2 ص120 من حديثه عن النكتة.

ص: 12

هذا هو الذي حدا بالبشري أن يسوق النكته بالعامية، ولم يكن الدافع له عجزه عن العربية الفصيحة، وهو أبو عذرتها وابن بجدتها، وهو أحد الذين ردوا إلى الأدب العربي في النهضة الحاضرة قوته وجزالته، وكان على جانب عظيم من معرفة اللغة العربية والتضلع فيها، حتى ليفيض أدبه بثروة لغوية خصبة، ويقتدر على التعبير عن كل ما يريد بأفصح لغة، وأبلغ تعبير.

آثاره الأدبية:

المختار:

هو مجموع ما نشره في الصحف وما حاضر به وألقاه في الإذاعة مما أبدعه أسلوبه وافتن فيه بقلمه، فكان آية في إشراق الأدب وغزارة البيان، وفصاحة العبارة، وسعة الأفق، ضم هذا الكتاب صورًا من الأدب الرفيع يعزر رسمها على غير يراعه والحق أن "المختار" كما يقول الأستاذ "خليل مطران بك" في مقدمته للجزء الأول: متحف حافل بالمفاخر، وكل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر ورية.

أما الجزء الثاني فقد كتب في مقدمته عميد الأدب الدكتور طه حسين بقلمه الرشيق، وأدبه العذب فزاد في بهائه وأعلى من مكانته، والجزءان مطبوعان طبعا مصقولا مهذبا.

في المرآة:

يضم هذا الكتاب ما اختاره "البشري" مما كان ينشره في مجلة السياسة الأسبوعية مع جمهرة أخرى من القطع الأدبية الساحرة التي دبجها قلمه المبدع، والكتاب يتضمن صورا دقيقة لعظماء مصر، وكبرائها وساستها وعيونها، رسمها بريشته التي يعيا المصور عن توضيحها كما أوضح وانطاقها كما أنطق، فقد تدسس على جميع ما يختص بهؤلاء الناس، فوصف نفوسهم وطباعهم، وشرح

ص: 13

أخلاقهم وعاداتهم، وتفطن إلى مواطن الشذوذ فيهم، واكتنه ما خفي من أمورهم حتى على المتصلين بهم، فكان نفاذا في وصفه بارعًا في تصويره، ولم يدع شيئا مما يتصل بهم، وبخلقهم وخلقهم إلا وقد أنطقه، وجلاه بأوضح بيان كل ذلك بأسلوب مرح خلاب، وعبارة جزلة فصيحة، وبيان مشرق منطلق، ونكتة أخاذة تثير العجب والطرب.

وقد كان لما يكتبه "البشري" في هذه "المرائي" أكبر الأثر في نفوس الناس، وكانوا ينتظرونها، ويخشى كل عظيم أن يكون في مرآته، وإذ يكتب عن كبير أو ذي شأن، فإنما يمنحه الرفعة ونباهة الشأن، أو ينزل به إلى مكان سحيق ويدعه مضغة الأفواه، وحديث الألسن.

وقد وضع لكل شخص يتحدث عنه في هذا الكتاب صورة متخيلة، ولا يخلو الحديث عن واحد من الذين تناولهم في المرآة من نكتة بارعة يلصقها به، فتسير وتذيع وتتناقلها الأفواه.

وقد نسج على منواله كثير من الأدباء، فكتبوا مرائي مختلفة نهجوا فيها نهجه في التحليل، ولكن شتان بين ما كتبوا وما كتب.

كتاب التربية الوطنية:

وللبشري كتاب في التربية الوطنية تناول فيه موضوعات مختلفة تتصل بالوطن وشئونه والتربية وفنونها، وأسلوبه في هذا الكتاب ناصع يبين الموضوع في وضوح وسلاسة.

آثار أخرى:

واشترك بتكليف من وزارة المعارف في تأليف كتاب "المفصل في تاريخ الأدب العربي"، وهو جزءان و"المنتخب من أدب العرب"، وهو جزءان أيضا"، والمجمل في الأدب العربي" لطلبة المدارس الثانوية، أسهم في هذه الآثار الأدبية، وهي ذات قيمة وأثر ملموس لما نشرته من الأدب في تحقيق دقيق صيغ بأسلوب سهل فصيح.

ص: 14

وللبشري أيضا كتاب "القطوف"، وهو مجموع مقالاته التي نشرها في الصحف، وألقاها في الإذاعة مما لم يطبع قبل، والقطوف لا يزال غير مطبوع.

نماذج من أدبه:

مما أذاعه عن "الراديو" المذياع كما يصفه أعرابي قادم من البادية.

وأقل على صاحبي يعرف لي الرجل قال: إنه من إحدى بوادي نجد، وهو يتنخس في الدواب1 على أنه لم تهيأ له رؤية الحضر من قبل بل لقد كان يرسل على إبله وخيله إلى مصر، وغير مصر ولده وبعض معشره، ثم بدا له أن يفد معهم هذا العام ليشهد عيش الحضر قبل أن يدركه الأجل، ووافق مقدمه حاجتي إلى بعض الجياد، وسألته أن يقيم عندي ما أقام في مصر لما رأيت من ظرفه، وخفة روحه، ولطف حديثه، وحسن بديهته.

ولقد بعثت "الراديو" ذات عشية في حضرته فارتاع رشده، وذهب الرعب بلبه كل مذهب، ثم اطمأن صاحبي فترة قصيرة، وقال: وعلى الشيخ عدلان أن يقص بقبة الحديث، والتفت إلي الرجل وسأله أن يتكلم فتعذر، وتمنع فعزم عليه ألا تكلم، فأكرم الضيف وأومأ إلي.

تنحنح الرجل وسعل سعالا رقيقا، ثم أنشأ يتحدث في لهجة بدوية كثيرا ما كان يلتوي علي فيها اللفظ، فيسويه لي بعض من حضر.

سيداتي سادتي:

الآن أنقل إليكم حديث ذلكم الأعرابي بعد أن علقته، وقيدته بقدر ما واتاني الجهد، فإن كنت قد عالجته بعض العلاج ففي شيء من الصياغة بتقويم

1 يتنخس في الدواب يتاجر فيها.

ص: 15

ما لا يستقيم في آذاننا من لهجة أولئكم الأعراب قال:

دعاني صاحبك ذات عشية إلى أن أصعد إليه، فلما استوينا في مجلسنا من إحدى الغرف أومأ إلى ركنها، فحولت بصري فإذا دمية1 من خشب بتر ساقاها، فأقعدوها على منضدة لها أنف صغير، ولها أذنان دقيقتان وقد توسط ما دون الجبين عين لها واعجباه -واحدة تمزقت حدقتها فتناثرت في بياضها تناثر أكارع النمل على صفحة الرمل، ولها فم -يا حفيظ- قد استهلك نصف وجهها مشجوه بديباجة من حرير، وليتهم سدوا عليه مسامير من حديد، وما أحسب والله هذه الدمية إلا صنعت على صورة الجن لم تطبع على صورة إنسان.

ثم قامت صاحبك إليها فحرك أذنها، وسرعان ما أحمدت حدقتها فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم سمعت لها حسيسًا2 ما لبث أن استحال زمزمة3 وهمهمة4، فخلت والله أن الأرض قد زلزلت علي وأحسست قلبي يتمشى من الروع في صدري حتى يصك حنجرتي، فجمعت ثوبي للهرب، فجذب صاحبك فضل ردائي ولو قد أطلقني ما أصبت المهرب، فلقد تخاذلت عني ساقاي، وأظلم ما بيني وبين وجه الطريق، وجعلت ألتمس آية الكرسي أستعصم بها من هذا الشيطان، فأذهبها الرعب عني، وكأني لم أحفظ منها في دهري

الأطول إلا كلمة واحدة، ولما رأى صاحبي ما بي قال لي: خفض عليك يا شيخ، فقلت: وهذا العفريت -قال: لن ينالك منه مكروه إن شاء الله، فقلد قيدوا ساقه وشدوا وثاقه، فما يجد له من أساره فكاكا، ولا يستطيع في محبسه حراكًا، قلت-: أفيسجن سليمان المردة في قماقم نحاس أو من ذهب، وأنتم لا تبالون أن تسجنوها في جماجم من خشب؟

1 الدمية بضم الدال وسكون الميم -الصورة المزينة، والمراد بها هنا تمثال.

2 الحسيس -الصوت الخفي.

3 زمزمة هي ضجيج الرعد، وصوت النار في الوقود.

4 همهمة -بفتح الهائين مصدر همهم الرعد سمع له دوي.

ص: 16

طرب:

ومما كتبه بهذا المعنى:

غنانا "صالح" ولست أدري أكانا مغنيا يرسل الصوت فيقع حقا في الآذان، أم ساحرا يتلعب بألبابنا، فيخيل إلينا أنا في الجنان، نتمايل على النسيم بين الآس والريحان، ونسمع من شدو القماري على أيكها أبدع الأنغام وأروع الألحان.

حدثني يا فتى -أي روض جاز به صوتك قبل أن يبلغني، وكم نسمة اختلطت به مما نفث فيه صب مشوق، وحمل عاشق من زفرات كبده إلى معشوق، حتى أخذ فينا كل هذا الأخذ، وفعل بقلوبنا كل هاتيك الأفاعيل.

آه -وفي آه لذة وألم، وفيها برء وسقم، وفي آه راحة وهناء، وفيها يأس وفيها رجاء.

أشاكر أنا أم شاك، وضاحك أنا أم باك، وراض أم غضبان، وسال أم ولهان وناعم أم بائس، وراج أم آيس؟

قد غرني أمري فسلوا صوته ونبئون.

يا ليل وما عساك تبغي من الليل؟ لقد نام الخليون، هنيئا لهم، وأمعنوا في المنام.

نعم، إن فيك يا ليل عيونا تسيل بالدم شئونا، وإن فيك يا ليل جراحات تفيض بالدمع عيونها، وكم فيك يا ليل من فؤاد تحلل نسما، وكم فيك يا ليل من أكباد تطايرت حسما، هذا عان يشكوا بثه وحزنه وأساه، وهذا صب يبثك وجده وجواه، وهذا مشدوه لا يتخذ الرفيق إلا من بين كواكبك، ونجومك وتلك والهة لا تجد الأنس إلا في وحشتك ووجومك.

ص: 17

إن تحت الضلوع عواطف تئن من طول احتباسها، أطلقها "يا ليل" تمزج أنفاسك بأنفاسها، أطقلها تملك الجو عليك طربا وشدوا، وتملأ هذا الهواء تحنانا وشجوا، ففي العواطف بلبل وكنار، وفيها يا ليل فاخت وهزار، أطلقها بالله يا ليل لتغني الثريا، وتشكو وجدها لسهيل:

أبكي الذين أذاقوني مودتهم

حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

واستنهضوني فلما قمت منتهضا

بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا

لأخرجن من الدنيا وحبهم

بين الجوانح لم يشعر به أحد

يا عين -وقل يا عين حقيقة أردتها أم مجازا، ورجعها صباغنيتها أم حجازا، فإنه:

هوى بتهامة وهوى بنجد

قد أعيتني التهائم والنجود

عن يا فتى غن، فالله أكرم من أن يثير هذا كله في صدور الناس، ويحرمهم غناءك

يا صالح.

الشيخ:

وما كتبه في المرآة بعنوان "الشيخ":

صديقي أو غير صديقي أو هما معًا، الأستاذ الشاب أو الكهل أو الشيخ، أوكل أولئك في وقت واحد. الشيخ أو السيد فلان:

وأنا أشهد أنه ما اطلع على مجلس إلا حللت له الحبوة "1، ولا جلس إلى

1 الحبوة -احتبى بالثوب اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة، ونحوها والاسم الحبوة ويضم.

ص: 18

إلا آثرته بتكرمتي، ولا أرسل يده إلى إلا أسرع بتقبيلها؛ لأني أرى في الشيخ عظيمًا، وإن لم ير غيري أن فيه عظيمًا.

هو شيخ طريقة وهو على صداقته، وملازمته لشيخ مشايخ الطرق لا نرى على ما يزعم شانئوه لطريقته في سجلات مشيخة مطرق الصوفية عينا ولا أثرًا.

ثم هو رجل جمع بين أقصى مطالب الدنيا، وأقصى مطالب الدين، فتراه كما يظهر الأصيل في حلقة الذكر يظهر العشاء في بار "ارستومين".

ثم هو سعدي وعدلي وحر دستوري، وحزب وطني واتحادي ومحايد، ومستقل وغير هؤلاء جميعًا.

ثم هو لا يفتر عن أداء حقوق القصر ولا يني عن التوافي في كل موسم لدار الوكالة الإنجليزية، ولا يترك جريدة السياسة إلا إلى بيت الأمة.

ثم هو يحسن العربية ويحكم الإنجليزية، فلا تعرف إن كان غربيا مستشرقا، أو شرقيا مستغربا.

ثم هو مصري وفي الوقت نفسه مطاف الجالية الفرنسية في مصر يتحدث عن أمورها، ويدلي بمهمتها في هذه البلاد، فلا تعرف أن كان عربيا مستعجما ثم هو إذ تقضيت أصله، وقصصت منشأه ومنجمه رأيته من المنوفية، ومن الشرقية ومن البحيرة، ومن الدقهلية ومن القيلوبية، ومن الجيزة ومن المنيا، ومن أسيوط ومن جرجا ومن قنا، ومن هؤلاء جميعا، وهو يلاغي بلغاهم جميعا فترى في لسانه حديث أهل البحيرة، وجشوبة1 منطق أهل الصعيد، فتسمعه إذا نادا "محمدا" قال:"يا محم"، وإذا عبر عن الفم قال:"الخشم".

هو ولا شك عصبة أمم تجول في قفطان وجبة.

1 جشوبة هي الغلظة والخشونة.

ص: 19

وإذا حضرك في هذا المقام أن الشياطين تتشكل، فلا يذهب عنك أن الملائكة كذلك تتشكل، وأن أولياء الله يتشكلون، وللأقطاب والأبدال في التشكل أحاديث طوال1.

وإذا كنا نحتفل في هذه الدنيا بشخصية واحدة، ونتخذها موضع الحديث فكيف بسبع وثمانين شخصية قوية اتسقت كلها لرجل واحد.

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

1 الأبدال الزهاد "أساس البلاغة"، وفي القاموس "الأبدال قوم بهم يقيم الله عز وجل الأرض وهم سبعون: أربعون بالشام وثلاثون بغيرها لا يموت أحدهم إلا قام مكانه آخر من سائر الناس" كذا.

ص: 20