المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السيد إسماعيل الخشاب: - الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة - جـ ٣

[محمد كامل الفقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌تابع الأزهر والنشر

- ‌الشيخ عبد العزيز البشري

- ‌أزهريون لغويون أدباء

- ‌مدخل

- ‌الشيخ حسن قويدر الخليلي:

- ‌الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري:

- ‌الشيخ حسين المرصفي:

- ‌الشيخ حمزة فتح الله:

- ‌الشيخ سيد المرصفي:

- ‌الشيخ حسين والي:

- ‌الشعر في العصر الحديث

- ‌مدخل

- ‌شعراء الأزهر والتجديد في الشعر:

- ‌الثورة على الأوزان الشعرية:

- ‌نظر علماء الأزهر إلى الشعر:

- ‌الصبغة العامة في شعر الأزهريين:

- ‌شعراء الأزهر

- ‌مدخل

- ‌السيد إسماعيل الخشاب:

- ‌الشيخ حسن العطار:

- ‌السيد على درويش المصري

- ‌الشيخ محمد شهاب الدين المصري:

- ‌السيد علي أبو النصر المنفلوطي:

- ‌الشيخ علي الليثي:

- ‌الشيخ عبد الرحمن قراعة:

- ‌الأزهريون أساتذة شعراء العصر

- ‌مدخل

- ‌المرصفي والبارودي:

- ‌الشيخ البسيوني وشوقي:

- ‌الشيخ محمد عبده وحافظ:

- ‌قراعة وعبد المطلب:

- ‌خاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌فهرست الجزء الأول

- ‌فهرست الجزء الثاني

- ‌فهرست الجزء الثالث

- ‌أهم مراجع البحث:

الفصل: ‌السيد إسماعيل الخشاب:

الخطأ والعامي في شعرهم:

ومن الإنصاف أن نقرر أن العامية قد تتسرب إلى شعرهم، والخطأ في النحو الصرف قد يجري على ألسنتهم، ولكن ذلك في قلة وندرة، فأما العامية في شعرهم فكما جاء في شعر السيد علي درويش، إذ يجمع "سقف" على "سقفان" في قوله في مسجد:

إذا سجدت حيطانه فهي ركع

وتسمع تسبيح الحصا منه سقفان

وكإطلاقه لفظ "برادن" على من أصابه البرد، وذلك إذ يقول:

بردان لا نفع "للبردان" عندهما

وجبة البرد تكسو كل عريان

فكلمة بردان عامية والفصيح بارد وبرد وبرود.

ومن العامية في شعرهم قول الشيخ محمد شهاب الدين:

وتفضل بجبر خاطر من هم

أتقنوا صنعه وخذ منه شيا

ويقول السيد علي درويش:

ولا عجب إذا كان المربي

مربي الروح بالعقل المصان

فهو يخطئ في مجيء اسم المفعول من صانه على مصان بدلا من مصون.

ويخطئ كذلك إذ يستعمل الفعل أحرمه من كذا بدلا من حرمه، وهو الفصيح ولا يقال: حرمه من كذا بل حرمه كذا، وذلك حيث يقول.

ص: 121

‌السيد إسماعيل الخشاب:

المتوفى سنة "1230هـ-1815م"

نشأته وحياته:

هو، "السيد إسماعيل" بن "إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب"، كان أبوه نجارًا ثم أنشأ متجرًا للخشب بالقرب من باب زويلة بالقاهرة، وولد له الشاعر المترجم وهو أصغر إخوته، وشب مولعا بحفظ القرآن راغبًا في العلم مشوقا لتحصيله، فطلب العلم في الأزهر حتى صارت له مشاركة في كثير من علومه1.

وكان رقيق الحال حتى اضطر للتكسب في المحكمة الشرعية، وكان عاكفا على مطالعة الكتب الأدبية والتصوف، والتاريخ يستظهر كثيرا من أشعار العرب والمراسلات، والمكاتبات الأدبية، ويلم بطرف من حكايات المتصوفين وأقوالهم حتى أصبح فريد عصره في المحاضرات، واستحضار البدائع في المناسبات، وكثيرا ما يصفه "الجبرتي" بأنه البليغ النجيب، والنبيه الأديب نادرة الزمان فريد الأوان المتقن العلامة يتيمة الدهر، وبقية نجباء العصر.

وعرف بالشعر الرائق والنثر العذب، وكان نبيها أديبا عظيم الأخلاق لطيف السجايا كريم الشمائل، خفيف الروح، وذلك مما يسر له مخالطة الرؤساء والأمراء، ومصاحبة الكبراء والعظماء، فتنافسوا في صحبته وتباهوا بمجالسته حيث يرتاحون لخلقه، ويستطيبون منادمته، ويجدون من طيب فكاهته ولطف عبارته، وعذب بيانه ما يدفعهم إلى طلبه، والحرص عليه كما كان رقيقا مهذبا كريم النفس محبا للمجد متطلعا لمعالي الأمور.

وكان له قوة استحضار في إبداء المناسبات بحسب ما يقتضيه حال

1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص334.

ص: 121

المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور في الخطاب، ويخلب عقله بلطف محادثته كما يفعل بالعقول الشراب1.

ولما أنشأ الفرنسيون ديوانا للقضاء بين المسلمين عين في كتابة التارخي لحوادث الديوان، وما يقع فيه؛ لأن الفرنسيون كانت لهم عناية بالغة بتسجيل الحوادث يوما فيوما، وتدوين ما يجري منها في الدواوين، ومقر أحكامهم ثم يجمعون هذه الحوادث، ويطبعون منها نسخا يوزعونها على الجيش في مختلف مواضعه ومواطنه في الأمصار والقرى، فلما رتبوا ذلك الديوان كان الخشاب هو الذي يتولى كل ما يتصل بعمله، وظل ف يهذه الوظيفة إلى أن ولي "جاك منو"، وعلى رغم ذلك لم يتخل عن التكسب بالشهادة في المحكمة.

ولما عاد المرحوم "الشيخ حسن العطار" من طوافه بالبلاد التي كان قد ارتحل إليها امتزج بالخشاب، فصفا ودهما وطابت مخالطتهما، وصارا لا يفارق كل منهما صاحبه حتى ليحدث "الجبرتي"، بأنهما كثيرا ما كانا يبيتان معا، ويقطعان الليل بحديث أرق من نسيم السحر، وألطف من اتساق نظم الدرر، وكثيرًا ما كانا يتنادمان بداره لما بينهما من الصحبة الأكيدة، والمودة العتيدة ثم يتجاذبان أطراف الكلام، فيجولان في كل فن من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات.

ومع أن "الخشاب" أدرك في أواخر حياته "محمد علي باشا"، نراه لم يل في عهده عملا من الأعمال مع شهرته الأدبية، وبعد صيته في البيان؛ لأن والي مصر لم يكن إلى هذا العهد قد اتجه إلى استصناع الأدباء والشعراء، إذ كان مصروفا لغير ذلك من شئون الدولة، وإصلاحها الداخلي، وتأثيل ملكه الذي خلفه المماليك منهوك القوى محلول العزائم.

وبرح الداء "بالخشاب" فلزم فراشه حتى غلبه المنون في يوم السبت ثاني شهر ذي الحجة من سنة ثلاث ومائتين وألف من الهجرة.

1 تاريخ الجبرتي ج4 ص238.

ص: 122

وقد جزع عليه صديقه الوفي الشيخ "حسن العطار"، وجمع ما تفرق من شعره، فأودعه ديوانًا طبع في الآستانة.

شعره:

"الخشاب" أقدم شعراء العصر الحديث، وأقلهم حظا من الحضارة الغربية التي وفدت إلى مصر، ونبهت الأذهان والقرائح بعد أن استقر الحكم "لمحمد علي"، وأبنائه واتصلت مصر بالغرب اتصالا مختلفا، ولم يكن "الخشاب" قد تعلم اللغات الأجنبية، فيستعين بها على الاطلاع على ثقافة الغرب، وعلمه الجدي فتتسع مداركه وتترامي آفاقه خياله، وتأتيه من هذه الآداب سهولة الطبع ورقة التعبير، وعلى رغم ذلك يتسم شعره بالوضوح والسلاسة، ومجانبة التعقيد والإقلال من البهرج والطلاء، وهذه ظاهرة واضحة في شعره، فهو لم يتهالك على البديع، ولم يكلف بالصناعة ولم يتورط فيما تورط فيه غيره من الشعراء الصناع على قربه من الشعر الضعيف المنحل في عهد المماليك، ووثيق اتصاله بآداب ذلك العصر الواهن المتخاذل.

والذي يبدو أن في طبع "الخشاب" ميلا فطريا إلى الإشراق، والوضوح والبعد من التعمل، وقد تهيأ له من الاتصال بالفرنسيين في مصر ما طوع أدبه، وجلى شعره، ونحا به نحو السهولة والانطلاق، فقد أقاموه في ديوان القضاء أمينا لمحفوظاته، وكاتبا سلسلة التاريخ فيه ومسجلا لأحداثه تباع، وعاش طول حياته شديد المخالطة للكبراء والأمراء، والعظماء بين منادمة ومطارحة ومفاكهة، ولا ريب أن ذلك كله هيأ له تطويع أدبه، وسهولة قريضه وإشراق ديباجته، وصفاؤه من التعقيد والزخرف والصنعة.

وقد حدث "الجبرتي" أنه علق شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين كان لطيف الطبع جميل الصورة عالما ببعض العلوم العربية، مائلا إلى اكتساب النكات الأدبية، فصبيح اللسان العربي يحفظ كثيرًا من شعر العرب، فلتلك المجانسة مال كل منهما للآخر، ووقع بينهما تواد وتصاف حتى لا يقدر أحدهما

ص: 123

على مفارقة صاحبه، فتارة يذهب الخشاب إلى دار صديقه، وتارة يذهب الشاب الفرنسي إلى دار الخشاب، فيتجاذبان أطراف الأحاديث، ويقع بينهما من لطف المحاورة ما يتعجب منه، يقول "الجبرتي": -وعند ذلك قال "الخشاب" الغزل الرائق والنظم الفائق1.

أفلام تكون هذه المخالطة من أسباب تنشيط شعره، وانطلاق قريضه وسعة خياله؟

وهل لنا أن نذهب إلى أن هذه المخالطة دلت "الخشاب" على كثير من أخلاق الفرنسيين، وعادتهم وأحوالهم، وطبائعهم فبسط ذلك في فكره وفسخ في مخيلته؟

يقول الخشاب في صديقه الفرنسي:

علقته لؤلؤي الثغر باسمه

فيه خلعت عذاري بل حلا نسكي

ملكته الروح طوعا ثم قلت له

متى ازديارك لي أفديك من ملك

فقال لي وحميا الراح قد عقلت

لسانه وهو يثني الجيد من ضحك

إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت

منه عساكر ذاك الأسود الحلك

فجاءني وجبين الصبح مشرقة

عليه من شغف آثار معترك

في حلة من أديم الليل رصعها2

بمثل أنجمه في قبة الفلك

فحلت بدرا به حفت نجوم دجا

في أسود من ظلام الليل محتبك3

وافى وولى بعقل غير مختبل

من الشراب وستر غير منهتك4

1 تاريخ الجبرتي ج4 ص239.

2 رصعها: ملأها.

3 محتبك: موثق محكم.

4 منهتك: هتك الستر جذبه فقطعه من موضعه، أو شق منه جزءا فبدا ما وراءه وهتك ستر فلان فضحه.

ص: 124

فهذه أبيات عذبة سائغة لا تعقيد فيها ولا التواء، لم تشبها شائبة الصنعة، ولم يفسد جمالها المحسن البديعي الذي أسرف العصر في تناوله، وتاه في فيافيه.

هذا إلى ما ذهب إليه من غزو الفجر جيش الليل وانهزام عساكره، وقدوم صاحبه وصد أشرق جبين الصبح يبدو عليه من شغفه آثار معترك، وتشبيهه في حلته التي كأنها من أديم الليل تلمع فيها الأنجم التي رصعتها وحلتها بالبدر أشرق نوره، وحفت نجوم الدجى به في الليل الحالك الذي وثق سواده وأحكم.

هذا ويجوز أن تكون كلمة شغف محرفة، وأصلها "شفق" أي أن صاحبه وفد إليه، وعلى جبين الصبح آثار معترك من الشفق، لما بينهما من المنازعة والمغالبة، ويستأنس له بما ذهب إليه من قبل من غزو الفجر جيش الليل، وانهزام عساكره.

غير أنا نلاحظ أن الشاعر وصف جبين الصبح بلفظ مشرقة، فلم يطابق بين الموصوف والصفة في التذكير والتأنيث، وكان يجب أن يقول "مشرق" ففي اللسان "الجبين يذكر لا غير"، إلا أن يقال: إنه أنث الوصف باعتبار الجبين جبهة، وبذلك تتأتى المطابقة أو جرى على ما يذهبون إليه من أن كل ما لا يعقل يجوز تذكيره وتأنيثه؛ أو تقول: إن كلمة آثار فاعل "مشرقة"، ويكون مرجع الضمير لجبين الصبح لا لفاعل جاء.

وقال في فرنسي آخر اسمه "ريج".

أدرها على زهو الكواكب والزهر

وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر

وهات على نغم المثاني1 فعاطني

على خدك المحمر حمراء كالجمر

وموه لجين الكأس من ذهب الطلا

وخضب بناني من سنا الراح بالتبر

ومزق رداء الليل وامح بنورها

دجاه وطف بالشمس فينا إلى الفجر

1 المثاني: من أوتار العود الذي بعد الأول واحدها مثنى.

ص: 125

وأصل بنار الخد قلبي وأطفه

ببرد ثناياك الشهية والثغر

أ "ريبج" ذكي أنفاسك التي

أريج شذاها قد تبسم عن عطر

معنبرة يسري النسيم بطيبها

فتغدو رياض الزهر طيبة النشر

رشافاتك1 الألحاظ عيناه غادرت

فؤادي في دمعي دما سائلا يجري

طويل نجاد السيف ألمى2 محجب

شقيق المها3 زاهي البها ناحل الخصر

رقيق حواشي الطبع يغني حديثه

عن اللؤلؤ المنظوم والدر والنثر

ولما وقفنا للوداع عشية

وأمسى بروحي يوم جد النوى سيري

تباكي لتوديع وأبدى شقائقا4

مكللة5 من لؤلؤ الطل بالقطر

فهذا شاب فرنسي آخر خالطه الخشاب وأدمن الود معه، وكانت لهما مجالس وسمر، وغدو ورواح، فصفا أنسهما، وطابت مودتهما ووجد الشاعر فيه ما ارتاح له وبهره منه فتك ألحاظه، وطول نجاده، وسمرة شفته وتحجبه، وأنه شبيه بالمها زها بهاؤه ونحل خصره، ورق طبعه، وأغنى عن اللؤلؤ المنظوم والدر المنثور عذب حديثه، ووصف يوم الوداع وما لقيه من هوله، وأن صاحبه تباكى فبلل بدمع كاللؤلؤ خدودا حمرًا كالشقائق.

هذه صورة ناطقة رسمها الشاعر فجاءت رائعة فاتنة، ولم تتعثر ريشته أو ينب رسمه، والشاعر في إيداعه هذه المعاني تلك الأبيات، وفي تعبيره عن هذا

1 رشا: الرشأ محركة الظبي إذا قوي ومشى مع أمه.

2 ألمى: اللمى مثلثة اللام سمرة في الشفة.

3 المها: جمع مهاة وهي البقرة الوحشية.

4 الشقائق: جمع شقيقة -وشقائق النعمان معروفة. سميت بذلك لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق أضيف إلى ابن المنذر؛ لأنه جاء إلى موضع وقد اعتم تبته من أصفر وأحمر، وفيه من الشقائق ما راقه فقال: ما هذه الشقائق احموها وكان أول من حماها، وقيل: النعمان اسم للدم وشقائقه قطعه، فشبهت حمرتها بحمرة الدم "شارح القاموس".

5 مكللة: الروضة المكللة المحفوفة بالنور.

ص: 126

كله لم يحم حول تعقيد أو التواء، ولم تهده صنعة أو طلاء اللهم إلا أنه يشك المحسن البديعي شكا خفيفا، ويتناوله برفق ولطف، فيستعمل الجناس بين كلمة زهر الكواكب التي هي جمع أزهر، والزهر للذي هو النبت المعروف.

ويلهمه اسم صديقه "ريج"، فيوقع الجناس بينه منادى بالهمزة، وبين أريج الشذى، وهو إن كان بهذا الجناس المتكرر يجاري شعراء عصره، لم يظهر بمظهر المتكلف، والمتهالك عليه.

ونلاحظ على أن الشاعر عبر بلفظ تباكى لتوديع -وكان المفهوم أن يقول "بكى"؛ لأن ذلك موقف البكاء لوجود دواعيه، أما "تباكى"؛ فتعبير يفيد أن صاحبه تكلف البكاء، ومن شأن هذا الوصف أن ينفي عنه صفة التأثر بالرحيل إلا أن يقال: إن صاحبه لشدة هول التوديع جمدت عيناه، فلم تبكيا فتكلف البكاء ليوائم بين حاله، وحال المودعين وفي الحديث: $"فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا"، أي تكلفوا البكاء وتكلف البكاء يستدعيه، وهذا الوجه يثبت لصاحب الخشاب تأثرا أبلغ من تأثره، وأنه بلغ من الحزن ما جمدت به عيناه، ولم تسمح بالبكاء إلا أن يتكلفه تكلفا.

ومما قاله يتغزل به:

يا شقيق البدر نورًا وسنا

وأخا الغصن إذا ما انعطفا

بأبي منك جبينا مشرقا

لو بدا للنيرين انكسفا

بغيتي منك رضاب1 ورضا

وعلى الدنيا ومن فيها العفا2

فهذه أبيات رقيقة عذبة حلوة الروح خفيفة المذاق لم يشبهها تعقيد، ولم تتأثر بصنعة إلا الجناس المقبول في "رضاب"، و"رضا".

وقال يمدح الشيخ "محمد الأمير" العالم الفقيه المتوفى سنة "1232 إلى 1817".

1 الرضاب -كغراب الريق المرشوف، أو قطع الريق في الفم، وفتات المسك.

2 العفاء: الهلاك والدروس ومن معانيه التراب.

ص: 127

أدر لي في الربا القدحا

وكن للعذل مطرحا

ونبه صاح ساقيها

فضوء الصبح قد وضحا

وثغر الدهر مبتسم

وشادي الورق قد صدحا

وخذها من يدي رشا

مليح قد حوى ملحا

غزال إن يلح للبد

ر أو غصن القا افتضحا

وأطرب مسمعيك بما

به أستاذنا امتدحا

"محمد الأمير" المر

تجي كم آملا منحا

إمام إن تزنه بكل

م مولى ماجد رجحا

سراج في ذكائه الوها

ج ليل المشكلات محا

فهذه الأبيات تقطر سلاسة ورقة، ويفيض ماء الشعر من أعطافها وتبدو صفحتها نقية من الزخرف، والطلاء حتى لتشبه أعذب ما ينظم الآن من الشعر العربي السهل على ما فيها من معان خصبة وتصوير بديع، كرجحان الإمام الممدوح حين تزنه بكل مولى ماجد، وجعل الشاعر ذكاء الممدوح سراجا وهاجا يمحو المشكلات التي جعل لها ليلا.

وكان "محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب" المتوفى سنة خمس ومائتين وألف من الهجرة شاعرا يلتزم في شعره ما لا يلزم، فلما جمع شعره في ديوان كتب الخشاب على ظاهر هذا الديوان يداعب صاحبه، فقال:

قل للرئيس أبي الحسن محمد

خدن1 المعالي والسرى الأمجد

والحاذق2 الفطن اللبيب أخي الذ

كاء اللوذعي3 الألمعي4 الأوحد

ألزمت نفسك في القريض مذاهبا

ذهبت بشعرك في الحضيض الأوهد

1 الخدن والخدين الصاحب.

2 الحاذق الماهر البارع.

3 اللوذعي: الخفيف الذكي الظريف الذهن الحديد الفؤاد، واللسن الفصيح كأنه يلذع بالنار.

4 الألمعي الذكي المتوقد.

ص: 128

وتركت ما قد كان فيه لازما

هلا عكست فجئت بالقول السدى

كدرت منه بما ضعت بحوره

فغدت مشارع1 ليس ينحوها الصدى2

فإذا نظمت فكن لنظمك ناقدا

نقد البصير بذهنك المتوقد

أولا فدع تكليف نفسك واسترح

من قولهم ما شعره بالجيد

ولئن عنفت عليك فيما قلته

فلقد بذلت النصح للمسترشد

فلما قرأ صاحب الديوان هذه الأبيات ضحك، ولم يزد على أن قال:"أنت في حل"، وكان "محمد بن الحسن" قد علق غلاما، فكتب إليه الخشاب.

إني أجلك أن تصبو بمبتذل

على تسنمك العلياء من صغر

أمسك عليك وحاذر من إخاء فتى

قميصه مذ نشا ينقد من دبر

وهذه قطعة رائعة تزخر بالمعاني الكريمة، وتفيض سلاسة ولطافة فلا ينبو منها لفظ، ولا يقلق فيها تعبير وتطرد أجزاؤها، وتتسلسل حتى لتكون كالعقد انتظمت

حباته قالها يرثي بها المرحوم الشيخ "أحمد بن موسى بن داود" المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف من الهجرة.

تغير وجه الدهر وازور حاجبه

وجاءت بأشراط المعاد عجائبه

وكدر صفو العيش وقع خطوبه

وقد كان وردا صافيات مشاربه

فمالي لا أذري المدامع حسرة

وأفق سطء المجد تهوي كواكبه3

وما لي لا أبكي على فقد ذاهب

موصلة لله كانت مذاهبه

أغرسنا شمس الضحى دون وجهه

وفوق مناط الفرقدين مراتبه

حليف ندى كالسيل سيب يمينه

وكالبحر تجري للعفاة مواهبه

له عفو ذي حلم ورأي أخي نهى

يضيء لدى محلولك الخطب ثاقبه

على نهج أهل الرشد عاش وقد مضى

مطهرة أردانه وجلاببه

1 المشارع -موارد الشرب.

2 الصدى -الظامئ.

ص: 129

فمن ذا الذي ندعو لكل ملمة

وترجو إذا ما الأمر خيفت عواقبه

لقد هد ركن الدين حادث فقده

وشابت له من كل طفل ذوائبه

وغادر ضوء الصبح أسود حالكا

كأن الدجى ليست تزول غياهبه

ألم تر أن الأرض مادت بأهلها

وأن الفرات العذب قد غص شاربه

سطت نوب الأيام بالعلم الذي

تزال به عن كل شخص نوائبه

عجيب لهم أنى أقلوا سريره

وفد ضم طودا أي طود يقاربه

وكيف ثوى البحر الخضم بحفرة

وضاق بجداره الفضا وسباسبه

خليلي قوما فابكيا لمصابه

بمنهل دمع ليس ترقا سواكبه

لقد آد1 إذا أودى2 وأعقب مذ مضى

أسى يجعل الأحشا جذاذا3 تعاقبه

وأي شهاب ليس يخبو ضياؤه؟

وأي حسام لا تفل مضاربه؟

وأي فتى أيدي المنية أفلتت؟

وأي فتى وافته يوما مآربه؟

وماذا عسى نبغي من الدهر بعد ما

أصمت4 وأصمت5 كل قلب مصائبه؟

فانظر كيف جاءت هذه القصيدة سهلة مشرقة لم تعكرها صنعة، ولم يذهب بروائها تكلف.

نقاء شعره من التاريخ:

ومما امتاز به "الخشاب" أنه لا يميل إلى التاريخ الشعري، ولا يتصل بل

1 آده الحمل أثقله.

2 أودى هلك.

3 جذاذ قطعا.

4 أصمه سد أذنه.

5 أصمى الصيد رماه فقتله مكانه.

ص: 130

في قليل أو كثير، وعلى رغم أنه أقرب شعراء العصر الحاضر إلى العصر السالف، وكان مقتضى ذلك أن ينحو منحى الشعراء في ذلك العصر فيفتن في التاريخ

الشعري، ويولع به كما أولعوا ويستعمله في الشطر أو البيت، أو القصيدة على رغم من معاصرته لهؤلاء الذين كلفوا به خلا شعره منه، فلا تكاد تعتر على تاريخ له في حادث أو أمر ذي بال، وإن هذه لحسنة من حسنات "الخشاب"، فقد نجا من قيوده وأغلاله، وكم طغت هذه الصناعة على الشعر، فذهبت بجماله

وكسبته الغموض والتعقيد، والالتواء واستبدت بالشاعر فصرفته عن روعة

التصوير وجمال المعنى، وحسن الأداء، ولكن "الخشاب" نجا من هذا، وكره هذه الطريق الملتوية فحاد عنها، وسلك مسلك السهولة والإشراق والوضوح.

ص: 131